162

حیات شرق

حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره

ژانرها

يجب أن نكون حمقى أو سكارى أو دائخين أو مخدرين حتى نصدق هذه الأسطورة أو نتسامح في ذكرها دون تفنيدها. ولا يدهشنا إلا ذكر ملوك العرب وحثهم على العمل للحلف، فمن هم هؤلاء الملوك؟ يقولون إنهم ثلاثة يحيى وفيصل وابن سعود، ونحن نعلم مكانة كل منهم في بلاده وأحواله الخاصة والعامة فلا نقابل دعوة الداعي إلا بالدهشة والتعجب.

الحلف العربي فكرة استعمارية

الحلف العربي إذن حيلة سياسية استعمارية، لا يرجع عهدها إلى 1923 كما يدعي الجابري أو إلى عمق تفكيره هو وصحبه ولكنها ترجع إلى أعمال الإنجليز في عهد عبد الحميد، فقد أرشدهم إليها بعض خصومه من علماء المسلمين الذين عرفوا حديث الخلافة والإمامة وعرفوا خوف عبد الحميد من مناهضة خصومه باسم الخلافة العربية، ففكروا فيها كإحدى الوسائل لهدم الدولة العثمانية، ونشروا الصحف في إنجلترا لتعضيدها مثل جريدة النحلة التي نشرت في لندن ونسبت إلى سلطان زنجبار وجريدة البشير وشفق، وألف بعض الإنجليز فيها بحسن نية مثل كتاب «مستقبل الإسلام» لبلنت. وما زالت تلك الفكرة تدور بين زعماء العرب وساسة الإنجليز حتى الحرب العظمى فاستهووا بها الملوك وخدروهم حتى استنصروهم على الأتراك ثم أخذوا بلادهم وأعطوا بعضهم وظائف ملوك وأمراء ووزراء، وهم اليوم يتناولونها من جديد ويلبسونها ثوب النهضة للدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة العرب وما هي لعمرك إلا عدو قديم بوجه جديد! ويكفي النظر في سياسة إنجلترا في الشرق العربي لنرى أنها ليست بغافلة وليست بجاهلة ولا متساهلة في شعوبه.

فماذا هي فاعلة في العراق؟

إنها تجدد المعاهدات وتكيل الوعود كيلا وذلك منذ سنة 1922 إلى يومنا هذا، أي حوالي عشر سنوات وإنجلترا تعلم أن في العراق ماء كثيرا وأرضا خصيبة وأن به زيتا ونفطا ومعادن كثيرة.

ولكنها تشل العمل بمسلكها السياسي وتترك تلك البلاد الغنية في قلق دائم وهي تنظر مطمئنة إلى النزاع الدائم بين خصومها وأصدقائها وقد تمكنت العداوة من قلوبهم، وقد تحيا القوة المستعمرة بين الفريقين آمنة مطمئنة إلى حين ولكن هذا لا يكون إلى الأبد، فإن للسيادة بالتفريق أجلا ولكل أجل كتاب.

والإنجليز في العراق العربي يضنون بالتعليم الحر ويأبون أن يبيحوا منهاجا للتعليم يشبه مناهجهم في مدارسهم، لأنهم يخشون ظهور الروح الوطني الذي يتغلب على التعصب الديني والنزاع الحزبي فيتحد ضدهم الشيعي والسني وتكون العراق كتلة واحدة لمحاربة الاستعمار، ولكن هذا الخوف لا يمنع علمهم بأن في شمال العراق وشرقه مقاطعات عظيمة تزداد قوتها يوما بعد يوم، لأن مئات من شباب هذه البلاد يردون مناهل العلم في جامعات أوروبا وأمريكا ومصر وقد عرفنا منهم لفيفا من أرقى الشباب.

الاستعمار اليوم لا يخدم سياسة الدول الأوروبية فقط، بل يخدم مصالح أرباب رءوس الأموال في لندن وباريس. وهؤلاء «الأقوياء بالمال» وسدنة «مولوخ» أو «بعل» يفضلون مصلحتهم المادية على حياة الشعوب نفسها، وتراهم ينكرون المصلحة العامة ويحاربونها ليملئوا خزائنهم بالذهب. وحيثما يوجد نزاع بين المال والوطن ترى سياسة المال هي الفائزة، بل رأينا الحرب العظمى نفسها تشتعل تحقيقا لرغبة «الأقوياء بالمال»، وكل الذين ذهبوا ضحيتها بالقتل أو الجرح أو الاختناق أو الجنون لم يذهبوا ضحية الوطن والدفاع عن الشرف، إنما ذهبوا ضحية الأقوياء بالمال وسدنة «مولوخ» أو «بعل»، فالآلة الحكومية في العالمين القديم والجديد تدار الآن بقوة المال وذويه، وكل نظام الحياة الاجتماعية والحياة السياسية الحديثتين يدور على محور من ذهب.

فإذا كان الأقوياء بالمال وسدنة «مولوخ» و«بعل» سواء أكانوا من اليهود أو النصارى أو المسلمين أو غيرهم يضحون بأوطانهم وبأبناء أوطانهم وبإخوانهم في الإنسانية، ويرمون بالجميع في حومة الوغى وهي نوافذ من جهنم، وييتمون الأطفال ويرملون النساء ويخربون الديار؛ كل ذلك في سبيل الحصول على المال والثروة، فهل يظن العرب أو غير العرب من الشرقيين من أي دين كانوا ولأية ملة انتسبوا أن هؤلاء الطغاة يرعون في حقهم إلا أو ذمة؟ بل الأمر بالعكس، لأن هؤلاء الأوروبيين يعتقدون الشرقيين من طينة أحط من طينتهم، ولعلهم يعتبرونهم مخلوقين بغير نفوس ناطقة أو أرواح حساسة، وهذا الأمر مشاهد في يومنا هذا في سائر أنحاء الشرق العربي.

وقد لجأ شباب تلك الأوطان إلى التعليم لأنه المنفذ الوحيد والمنقذ الوحيد من هذا البلاء، وسواد هؤلاء الطلاب الذي يقصدون إلى العلم في أوروبا وأمريكا مسلمون والمسلمون هم في كل قطر عربي حملة لواء النهضة وركنها الركين؛ لأن في العالم الإسلامي اليوم ميلا عظيما للعلم خصوصا العلم الفني، وهم يعشمون أن يكون هذا العلم أمضى سلاح يشهر في وجه السيطرة الأجنبية (من خطبة أمين الريحاني في المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن، 12 تشرين الثاني سنة 1928).

صفحه نامشخص