حیات شرق
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرها
وفي العراق معادن أخرى لا تحصى وكلها مصادر ثروة طائلة، وقد روى لي ثقة أن بها مناجم للفحم لم تفتح.
هذه بلاد العراق التي بلغ الجهل ببعض أهلها إلى درجة أنهم منشقون على أنفسهم سنيين وشيعة، وبعضهم لا يزالون بحالة وحشية يسفكون دماء أنفسهم ويقيمون المآتم في سبيل تشيعهم لأمر قد مضى وانقضى عليه ألف وأربعمائة عام. ولا تزال في تلك المملكة مدن مقدسة هي كربلاء مدفن الحسين والنجف مدفن الإمام علي والكاظمية مدفن الحسن، وتجرى في تلك المدن أمور تشبه ما كان يجري في الهياكل الوثنية. وقد اتصف رجال الشيعة بأخلاق غريبة لا تتفق مع الشرع ولا غيره في شيء، وهم يعللونها بأنها «تقية» ينجون بها من كيد السنيين وهو وهم باطل لا حقيقة له. وكل هذه تقاليد وثنية دخلت على الإسلام ودسائس سياسية اتخذ الإسلام ستارا لها لتتم دعوة أبي مسلم الخراساني للعباسيين، فلما نال العباسيون مأربهم تخلوا عن شيعتهم وقاتلوهم.
ولكن القوم تركوا الجوهر وتمسكوا بهذا العرض الذي كان سببا في هلاكهم، لأن العباسيين لم يستطيعوا إلا أن يبقوا على السنة.
وفي العراق غير المسلمين نحو مائة ألف كلداني، يقومون على الصناعات الدقيقة مثل الصياغة والحياكة والنجارة والنقش في المعادن وما إليها، وهم بقايا الكلدانيين الأصليين ولكنهم نصارى ولا يزالون يشبهون في مجموع خلقتهم وجوه أجدادهم الأولين، وإن كان بين العراقيين أنفسهم كثيرون لا يزالون محتفظين بتلك السحنة القديمة.
وقد كان هذا دأب الأتراك في جميع أملاكهم العربية، فإنهم لم يحصنوها ولم يعدوا لها جيشا ولم يعلموا أهلها ولم يحترموهم وكأنهم كانوا تاركيها ليعتدي عليها أجنبي فاتح.
وقد شهد الكثيرون من العقلاء الذين زاروا الأستانة احتقار الترك للعرب وازدراءهم بهم وعدم عنايتهم بتحسين حالتهم في بلادهم، مما هاج سخط العرب في جميع أنحاء السلطنة. وروى لي ثقة من الشبان الذين عاشوا في تركيا وفي ألمانيا قبيل الحرب العظمى وفي أثنائها أن شبان العرب الذين كانوا في المدارس العليا الألمانية موفدين بعثات على نفقة الحكومة العثمانية كانوا يحسدون المصريين على احتلال الإنجليز بلادهم ويتمنون أن يحكم الإنجليز بلادهم هم كالعراق وسوريا، والغريب أنه لم يخطر ببالهم أن يستقلوا في أوطانهم، بل كانت غاية آمالهم أن يحكمهم شعب أوروبي راق مثل إنجلترا! وسبب ذلك ظلم الأتراك لهم في أوطانهم وتركهم بغير تعليم ولا حضارة. وكانوا يعجبون من حب المصريين للترك وتعلقهم بهم، ويدهشون لأن المصريين يريدون الاستقلال والخلاص من الحكم الإنجليزي. ولم ينكر محدثي أن الأتراك كلهم لم يكونوا سواء في كره العرب واضطهادهم، بل كان منهم رجال يحبون الشعوب الشرقية كلها على السواء مثل أنور فإنه كان ينظر إلى الجنس دون العصبية كان يحب كل شرقي. وكان الألمان لا يثقون بالأجانب ولم يقبلوا أجنبيا واحدا في جيوشهم، ولكن الشرقيين من غفلتهم يثقون بكل أجنبي.
بيد أن الشرقيين الذين يولون الأجنبي ثقتهم يكرهون بعضهم بعضا وهم أبدا متقاطعون متدابرون.
وقد وقفت على حقيقة الحال في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وما كان للمصريين والشرقيين سواء أكانوا سراة أو سوادا من المخازي والفضائح ما يحرق الأكباد ويلين من هوله الجماد! فقد كانت بين الشرقيين معارك وحروب في سبيل النفوذ والمال، ولم يكن سلاحها إلا الدسائس التي اشتغل بها لفيف من الأذكياء الذين وقفوا فطنتهم ودهاءهم على إلحاق الأذى بأوطانهم. وكان بعضهم يتجسس للأجانب وينقل إليهم أنباء بني وطنه ويعاكس أعمالهم ليعكسها، وقد اضطهدوا كل مخلص وحرضوا عليه أولي الشأن فكان نصيبه الطرد والنفي حتى مات بعض الزعماء جوعا واضطر بعضهم للاقتراض وسجن البعض في سبيل القوت، وكان البعض يغتال المال المرسل للطلاب ويشتري لأهله مصوغا وحليا ولنفسه كساء من الفرو وما إليه، ويدخر الأموال ويتقلد المناصب وأصدقاؤه وأحبابه وأبناء وطنه من المجاهدين يتضورون جوعا ويشكون ألم الفقر والمسغبة.
وكان بعض هؤلاء الأذكياء المجرمين يستعملون ذكاءهم كما تستعمل المعاول للهدم والتخريب ولم يستعملوه للبناء والتعمير، وكان المشاهد لتلك المناظر يدهش لحصولها ويحاول البحث عن أسبابها فلا يهديه العقل إلى أكثر من أنها ثمرة الحسد والطمع وميل غريزي إلى الخيانة والغدر والنميمة، وقد تأصلت تلك الرذائل في النفوس فلم يكن من السهل اقتلاعها، بل إن هؤلاء الأشخاص لم يكن يحلو لهم عيش بدونها كأنها عنصرهم الذي خلقوا منه وبه يعيشون، وقد كانت نتيجة ذلك ما رأينا من خيبة الجميع إلا واحدا تمكن بالحيلة من الوصول إلى مكانة عالية ولم يكن بلوغه إياها إلا بالدسائس والفتن ثم ظهر خلقه الفطري فهوى.
العراق بين ويلسون وكوكس
صفحه نامشخص