في عامنا الثالث من المدرسة الثانوية، تحولت ناعومي إلى القسم التجاري، وهكذا تحررت فجأة من دراسة اللغة اللاتينية والفيزياء والجبر، وصعدت إلى الطابق الثالث من المدرسة حيث كانت الآلات الكاتبة تطقطق طوال النهار تحت السطح المائل، ومعلق على الحوائط شعارات داخل إطارات لأقوال مأثورة تعد الدارسين لخوض غمار عالم الأعمال، مثل: «الوقت والطاقة هما رأس مالي؛ إذا بددتهما فلن أعوضهما.» كان تأثير التحول إلى مثل هذه القاعات بعد الجلوس في الدور السفلي في الفصول ذات السبورات السوداء، المليئة بالكلمات الأجنبية والمعادلات النظرية والصور القاتمة المعلقة للمعارك والسفن الغارقة، والمغامرات الأسطورية العنيفة التي لا تخلو من النبل والفخر؛ يشبه الدخول إلى الضوء العادي اللطيف، إلى العالم الحقيقي النشيط، وهو راحة للكثيرين، وقد راق الأمر لناعومي.
في شهر مارس من ذاك العام تولت وظيفة في مكتب محل الألبان بعد أن أنهت دراستها في المدرسة. وطلبت مني أن أذهب لمقابلتها هناك بعد الساعة الرابعة عصرا، فذهبت دون أن يكون لدي أدنى فكرة عما أنا متورطة فيه. ظننت أن ناعومي ستتجهم في وجهي بشكل تمثيلي من وراء النضد، وسأقلد أنا صوت عجوز مرتعش وأقول لها: «ماذا يعني هذا؟ اشتريت بالأمس دزينة من البيض فوجدته كله فاسدا!»
كان المكتب في مبنى ملحق مزخرف بالجص يقع أمام محل الألبان القديم، وكانت به أضواء فلورسنت وخزائن أوراق معدنية جديدة ومكاتب - وهو المحيط الذي كان يعطيني شعورا غريزيا بأنني لا أنتمي إلى المكان - كما كانت هناك أصوات عالية صادرة من الآلات الكاتبة وآلة الجمع. كانت هناك فتاتان أخريان تعملان هناك بخلاف ناعومي، وعرفت بعدها أن اسميهما مولي وكارلا. كانت أظافر ناعومي مطلية بطلاء أظافر قرنفلي داكن وشعرها مصففا بإتقان، وكانت ترتدي تنورة ذات نقوش مربعة وردية وخضراء وسترة وردية. ابتسمت لي وهزت أصابعها فوق الآلة الكاتبة بأبسط تحية ممكنة، ثم استمرت في الكتابة على الآلة الكاتبة بسرعة هائلة، وفي نفس الوقت كانت تجري أحاديث مرحة غير مترابطة وغير مفهومة مع زملائها في العمل. وبعدها بعدة دقائق نادتني قائلة إنها ستنتهي من العمل في الساعة الخامسة، فأخبرتها أن علي العودة إلى المنزل. شعرت أن مولي وكارلا كانتا تنظران إلي، إلى الحبر الذي على يدي العاريتين الحمراوين، وإلى وشاحي الصوفي المنزلق، وإلى شعري الجامح وإلى كومة الكتب التي أحملها والتي توحي بمظهر التلميذة.
كانت الفتيات المتأنقات يخفنني حتى الموت، ولم أكن أحب حتى أن أقترب منهن خشية أن تكون رائحتي كريهة. كنت أشعر أن بيني وبينهن فارقا جوهريا وكأنني مخلوقة من مادة أخرى غير المادة التي خلقن منها. أيديهن الرقيقة لم تكن تتبقع أو تتعرق، وتظل شعورهن طوال الوقت على هيئتها المنمقة بعناية، ولا تبتل منطقة الإبط بالعرق قط، وبالطبع فإنهن لم يعرفن أبدا شعور أن تبقي الواحدة منا مرفقيها ملتصقين بجانبها؛ كي تخفي تلك البقع الداكنة المشينة ذات الشكل الهلالي على الثوب، وبالطبع لم يحدث أبدا أن شعرت إحداهن بذلك التدفق الزائد البسيط، زيادة لا تستطيع أي فوطة صحية أن تحبسها، فتقطر الدماء بشكل مرعب نازلة على منطقة الفخذين. كلا بالطبع، لا يحدث هذا معهن، كانت عادتهن الشهرية سرية وطبيعية ولم تخنهن أبدا. ولم يكن من الممكن قط تحويل ما أنا عليه من غلظة إلى ما هم عليه من نعومة، لقد فات الأوان على هذا؛ فالهوة اتسعت للغاية. لكن ماذا عن ناعومي؟ لقد كانت مثلي؛ فذات مرة أصيبت بوباء من الثآليل في أصابعها، وعانت من سعفة القدم، وكنا نختبئ في حمام الفتيات عندما يتصادف مرورنا بالدورة الشهرية في الوقت نفسه خوفا من القيام بحركات بهلوانية - واحدة تلو الأخرى أمام باقي طلاب الفصل - مخافة أن ننزلق فتقطر منا الدماء، وكنا نتحرج أن نطلب الإذن بإعفائنا. ما هذا الزي التنكري الذي ترتديه الآن بطلاء الأظافر والسترة الملونة؟
سرعان ما صارت ناعومي صديقة حميمة لمولي وكارلا. فقد كانت حواراتي معها عندما تأتي إلى بيتي أو حينما تدعوني إلى بيتها متخمة بالحديث عن حميتهما الغذائية، ونظام عنايتهما بالبشرة، وطرق غسيل الشعر، وملابسهما، والعازل الأنثوي الذي تستخدمانه لمنع الحمل (كانت مولي متزوجة منذ عام أما كارلا فسوف تتزوج في يونيو). وأحيانا كانت كارلا تأتي إلى بيت ناعومي عندما أكون هناك، وكانتا دائما تتحدثان عن الغسيل، غسيل السترات أو الملابس الداخلية أو الشعر. كانتا تقولان: «غسلت سترتي الصوفية.» «غسلتها؟ هل غسلتها بماء بارد أم فاتر؟» «بماء فاتر، لكن أظن أنه لا بأس في الحالتين.» «ماذا فعلت بشأن عنق السترة؟» كنت أجلس وأفكر أن سترتي قذرة وشعري دهني وحمالة صدري بهت لونها وأحد شريطيها مثبت بدبوس. كان علي أن أهرب من ذلك المكان، لكن عندما أعود إلى المنزل لم أكن أحيك شريط حمالة الصدر أو أغسل سترتي؛ فالسترات التي أغسلها دائما ما تنكمش أو تتسع ياقتها وتتدلى. كنت أعلم أنني لا أتكبد المشقة اللازمة معها، لكن كان لدي إحساس محتوم بأنها ستنكمش أو أن ياقتها ستتسع مهما فعلت. أحيانا كنت أغسل شعري وألفه على بكرات معدنية فظيعة كانت تمنعني من النوم، بل إنني كنت أقضي ساعات طويلة أمام المرآة في بعض الأحيان أهذب حاجبي بألم وأطالع مظهري الخارجي، ثم أضع على وجهي مساحيق التجميل الداكنة والفاتحة كي أبرز المحاسن وأخفي العيوب كما توصي المجلات. كان هما دائما لا أقدر على تحمله، رغم أن كل شيء ابتداء من المجلات، إلى روايات إف سكوت فيتزجيرالد، وحتى تلك الأغنية المخيفة التي كانت تذاع في الراديو - تقول كلماتها: «الفتاة التي سأتزوجها لا بد أن تكون ناعمة ووردية كالأطفال.» - كان ينبئني بأن علي أن أتعلم؛ فالحب لن يكون لمن لا تهتم حتى بنزع الشعر الزائد عن جسدها.
أما بخصوص غسيل الشعر ، فقد كنت في ذلك الوقت تقريبا بدأت أقرأ مقالا في مجلة عن موضوع الاختلاف الأساسي بين عادات الذكور والإناث الفكرية التي ترتبط بصفة أساسية بتجربتهم الجنسية (عنوان المقال يجعل القارئ يظن أنه يتناول الجنس أكثر مما يفعل في الواقع). كان كاتب المقال طبيبا نفسانيا مشهورا من نيويورك من أتباع فرويد، وكان يقول إن الفارق بين أنماط التفكير الذكورية والأنثوية يتضح جليا في كيفية تفكير صبي وفتاة يجلسان على مقعد في الحديقة وينظران إلى بدر كامل التمام؛ فيتفكر الصبي في الكون وضخامته وغموضه، بينما تفكر الفتاة: «لا بد أن أغسل شعري.» عندما قرأت هذا استشطت غضبا، وتركت المجلة فورا؛ إذ اتضح لي على الفور أنني لا أفكر كفتاة؛ فلم يكن البدر المكتمل ليذكرني أبدا ما حييت بأن أغسل شعري. كنت أعرف أنني لو أريت هذا المقال لأمي لقالت: «نعم، إنه ذلك الهراء الذكوري المجنون الذي يرى المرأة بلا عقل.» لكن هذا لم يكن ليقنعني فلا بد لطبيب نفساني من نيويورك أن «يكون على علم»، كما أن النساء على شاكلة أمي كن أقلية. علاوة على هذا، لم أكن أريد أن أكون مثل أمي بفظاظتها العذرية وبراءتها. كنت أريد أن يحبني الرجال، وأردت أن أفكر في الكون حينما أنظر إلى القمر. شعرت أنني محاصرة، مقيدة، وبدا لي أنني يجب أن يكون لدي اختيار حيث لا يمكن أن يكون لدي. لم أكن أريد أن أقرأ مزيدا من هذا المقال، لكنني انجذبت إليه كما كنت أنجذب في صغري لصورة بعينها لبحر مظلم أو حوت ضخم في كتاب للقصص الخرافية. قفزت عيناي بعصبية عبر الصفحة، بداية من بعض العبارات المؤكدة مثل «بالنسبة للمرأة، كل شيء يعتبر شخصيا ولا توجد فكرة تمثل لها أهمية في حد ذاتها، وإنما لا بد أن تترجمها إلى تجربتها الشخصية، وفي الأعمال الفنية ترى المرأة دائما حياتها الخاصة أو أحلام يقظتها.» في النهاية أخذت المجلة إلى سلة القمامة فمزقتها إلى نصفين ودفنتها بداخلها وحاولت نسيانها. بعدها كنت كلما رأيت مقالا في مجلة عنوانه «الأنوثة ... عائدة»، أو أجد اختبارا للمراهقين عنوانه: «هل مشكلتك أنك تحاولين أن تكوني فتى؟» كنت أقلب الصفحة بسرعة كما لو أن بها شيئا سيعضني. غير أنني لم أفكر أبدا أنني أريد أن أكون فتى.
بفضل مولي وكارلا ومن خلال وضعها الجديد كفتاة عاملة، صارت ناعومي جزءا من دائرة معينة في جوبيلي لم أكن أعرف أنا أو هي أنها موجودة. كانت الدائرة تضم الفتيات اللاتي يعملن في المحال والمكاتب والبنكين الموجودين في البلدة، بالإضافة إلى بعض الفتيات المتزوجات واللاتي تركن وظائفهن مؤخرا. وإذا لم تكن تلك الفتيات متزوجات وليس لهن رفقاء، فإنهن كن يذهبن للحفلات الراقصة معا، وللعب البولنج معا في تابرتون، وكن يقمن حفلات ويقدمن هدايا لبعضهن بمناسبة الزواج أو الإنجاب (وكان هذا يزعج السيدات الأكبر سنا في البلدة). كانت علاقتهن ببعضهن - رغم أنها مليئة بالأسرار الفاضحة - محاطة بجميع أنواع الرسميات والمجاملات وآداب اللباقة. لم يكن الأمر يشبه المدرسة، فلا همجية ولا فظاظة ولا لغة سوقية، وإنما دائما شبكة معقدة من الضغائن يشار إليها بشكل غير مباشر، وعادة ما تكون بسبب أزمة - مثل حمل أو إجهاض أو هجر - كلهن يعلمنها ويتكلمن عنها، لكنهن يعتبرنها سرهن الذي يحرسنه ويحفظنه عن باقي سكان البلدة. وكان أكثر ما يقلن براءة ومواساة وإطراء قد يعني شيئا آخر. كن يتسامحن ويتقبلن من بعضهن ما يراه معظم أهل المدينة زلات أخلاقية، لكنهن لا يتسامحن أبدا مع أي انحراف في أسلوب الملبس أو تصفيف الشعر، أو مع من لا يقطعون قشرة الخبز من على الشطائر في حفلات الهدايا.
ما إن بدأت ناعومي تتسلم شيكات راتبها حتى بدأت تفعل ما تفعله هؤلاء الفتيات إلى أن يتزوجن. فكانت تتجول بين عدة محال وتطلب منهم أن يحجزوا لها بعض الأشياء على أن تدفع لهم ثمنها خلال شهر على الأكثر؛ ففي متجر الأدوات المنزلية حجزت مجموعة كاملة من الأواني والمقالي، وفي متجر المجوهرات حجزت حقيبة من فضيات المائدة، وفي متجر ووكر حجزت بطانية ومجموعة من المناشف وزوجا من الملاءات الكتانية . كانت تعد هذه الأشياء حتى يأتي وقت زواجها وتستعد للقيام بالمهام المنزلية، وكانت تلك المرة الأولى التي أراها تخطط لأي شيء بهذا التحديد. وقد قالت لي بحدة: «لا بد أن تبدئي في هذا يوما ما، بماذا ستتزوجين؟ بطبقين وخرقة قديمة لمسح الأطباق؟»
وفي عصر أيام السبت، كانت تريدني أن أصحبها في جولتها في المحال وهي تسدد ما عليها من مستحقات وتطالع ممتلكاتها المستقبلية، وتشرح لي لماذا ستعمد - على غرار مولي - للطهي دون ماء وكيف يمكن معرفة جودة الملاءات من عدد الخيوط في كل بوصة مربعة منها. اندهشت وأصابني الذعر من تحولها إلى شخصيتها الجديدة المملة المستغرقة في التفكير في تلك الأمور الغريبة. كانت تبدو كما لو أنها تسبقني بأميال كثيرة، لكنني لم أرد أن أذهب إلى حيث هي ذاهبة، غير أنها هي نفسها بدت راغبة في الذهاب في ذلك الاتجاه، كانت الأمور تتطور معها، هل يمكن أن يقال الشيء نفسه عني؟
ما كنت أريد أن أفعله في عصر أيام السبت هو أن أبقى في البيت وأستمع إلى أوبرا المتروبوليتان. كانت تلك العادة ترجع إلى الوقت الذي كانت فيرن دوجرتي تسكن فيه لدينا، واعتادت هي وأمي الاستماع إليها. رحلت فيرن دوجرتي عن جوبيلي وذهبت لتعمل في وينزر، وكانت تكتب لنا من حين لآخر خطابات غامضة مرحة تتحدث فيها عن الذهاب إلى ملهى ليلي في ديترويت وذهابها إلى سباق الخيول، والغناء مع جمعية الأوبريتات والاستمتاع بحياتها. قالت ناعومي عنها: «لم تكن فيرن دوجرتي تلك إلا نكتة.» كانت تتحدث من منظورها الجديد. لقد كانت ناعومي وكل تلك الفتيات متوجهات نحو هدف بعينه؛ ألا وهو الزواج، ولا يمكن لأي امرأة أكبر سنا غير متزوجة - سواء إذا كانت تخطت سن الزواج أو من هواة المغامرات السرية مثل فيرن - أن تتوقع منهن أي تعاطف. ما الذي يجعلها نكتة؟ كنت أود أن أعرف فعلا لكن ناعومي حدقت في بعينيها الشاحبتين البارزتين وكررت قائلة: «نكتة، لقد كانت مجرد نكتة.» قالتها كأنها تتصدى لهرطقة كبيرة بنشر معتقدات جليلة بديهية مثبتة .
صفحه نامشخص