كيف كانت تجمع كل تلك المعلومات المزعجة عن المستقبل؟ فقد كانت تتطلع إلى زمن يستبدل فيه بمدن مثل جوبيلي قباب وأبنية على شكل فطر عيش الغراب مصنوعة من الخرسانة، ويكون بها طرق جوية للتنقل من قبة إلى أخرى، وسيغدو الريف محاطا بأشرطة عريضة هائلة من الأرصفة وتتغير ملامحه تماما. لن يظل شيء على حاله كما نعرفه اليوم، لن تكون هناك مقلاة، ولا دبابيس شعر، ولا صفحات مطبوعة، ولا أقلام حبر. لم تترك أمي شاردة ولا واردة إلا تخيلت كيف ستكون في المستقبل.
وقد أصابني حديثها عن أطفالي بالدهشة أيضا؛ لأنني لم أنتو أبدا أن أنجب أي أطفال. لقد كان ما أسعى وراءه هو المجد، فكنت أسير في طرقات جوبيلي كشخص منفي أو جاسوس لا أدري من أي اتجاه ستأتيني الشهرة، ولا متى، لكني كنت واثقة حتى النخاع أن هذا سيحدث. ولقد كانت أمي تشاركني تلك الثقة، لقد كانت حليفتي، لكنني الآن لن أناقش الأمر ثانية معها لأنها لم تكن كتومة، كما أن توقعاتها اتخذت منحى سيئا متطرفا.
فيرن دوجرتي، ها هي صورتها في الجريدة تمسك بدلال ياقة معطفها الشتوي الأنيق، والذي أسعدها الحظ بأنها ارتدته ذاك اليوم وهي ذاهبة إلى العمل. وقالت: «إنني أبدو في حجم بطيخة وأنا مرتدية هذا المعطف.»
كان السيد تشامبرلين يطالع الصورة معها فقرص ذراعها فوق تجاعيد معصمها المستديرة الشكل. «قشرة صلبة، بطيخة صلبة عجوز.»
قالت فيرن: «لا تكن شريرا، إنني أعني ما أقول.» كان صوتها صغيرا جدا بالنسبة لامرأة ضخمة مثلها، صوتا حزينا منكسرا لكنه مع ذلك خفيف الظل وممتع. فبدا أن كل تلك الخصال التي اكتسبتها أمي لخوض معركتها مع الحياة - الحدة والذكاء والتصميم والانتقائية - تقف على طرفي النقيض من خصال فيرن التي كانت شكاءة، بطيئة الحركة وتتسم بالطيبة اللامبالية. وكانت بشرتها داكنة اللون - ليست بنية فاتحة وإنما تبدو عليها طبقة من الغبار - باهتة، بها بقع بنية في حجم العملات؛ فكانت بشرتها تبدو كأرض مرقطة أسفل شجرة في يوم مشمس. وكانت أسنانها مربعة بيضاء ناتئة بعض الشيء تتخللها فراغات صغيرة. وقد منحتها تلك الصفات، التي لم يكن أي منها جذابا في حد ذاته، مظهرا لعوبا حسيا.
كان عندها مبذل من الساتان لونه ياقوتي، رداء جميل بحق، يبرز حين تجلس نتوءات معدتها وفخذيها. كانت ترتديه صباح كل يوم أحد، عندما تجلس في غرفة الطعام في بيتنا تدخن وتحتسي الشاي حتى يحين وقت الذهاب للكنيسة. كان ذلك المبذل ينفرج عند ركبتيها فيظهر من تحته قميص نوم ضيق باهت اللون مصنوع من الحرير الصناعي. لم أكن أحتمل ارتداء قمصان النوم؛ لأنها تلتف وتتعقد حول الجسد أثناء النوم، كما أنها تترك منطقة بين الساقين مكشوفة. عندما كنت أنا وناعومي صغيرتين، كنا نرسم صورا لرجال ونساء لهم أعضاء جنسية ضخمة مخيفة ، وكنا نرسم الأعضاء الجنسية لدى النساء بدينة ومنتفشة بشعر رفيع حاد كالإبر، تشبه ظهر حيوان الشيهم. ومن ثم، في حال ارتداء قمصان النوم، لا يستطيع المرء تجاهل إدراكه لتلك الكتلة الكريهة التي كانت البيجامات تحتويها وتحجبها باحتشام. وكانت أمي أثناء ذلك الإفطار في كل يوم أحد ترتدي بيجامات واسعة مخططة ورداء كيمونو باهتا لونه بني ضارب إلى الحمرة برباط مزين، وخفين عبارة عن جوربين صوفيين أسفلهما نعل محاك بهما.
كانت أمي وفيرن دوجرتي صديقتين برغم اختلافاتهما، فكانت أمي تقدر في الناس خبرتهم بالعالم، والاحتكاك بأي حياة بها قدر من التعلم أو الثقافة، وأخيرا أية إشارة لكون المرء مثيرا للحيرة في جوبيلي. لم تقض فيرن حياتها وهي تعمل في مكتب البريد؛ ففي وقت من الأوقات درست الغناء في معهد الموسيقى الملكي، وتغني حاليا في جوقة الكنيسة المتحدة؛ فتغني في أحد عيد الفصح «أعرف أن مخلصي يعيش»، وفي الأعراس كانت تغني: «من أجل»، و«عدني»، و«الصوت الذي يتنفس فوق عدن». وفي عصر أيام السبت، حيث يغلق مكتب البريد أبوابه، تستمع هي وأمي إلى بث أوبرا متروبوليتان. وكان لدى أمي كتاب عن الأوبرا فكانت تخرجه وتتبع القصة محددة الأغنية الفردية، والتي تكون لها ترجمة في الكتاب. كانت تطرح أسئلة على فيرن، لكن فيرن لم تكن تعرف الكثير عن الأوبرا كما قد يتوقع المرء، بل إنها كانت أحيانا يختلط عليها الأمر فلا تعرف أي أوبرا كانوا يستمعون إليها. لكنها كانت أحيانا تميل للأمام وهي تسند مرفقيها على الطاولة، غير مرتخية وإنما تسند جسدها إلى الطاولة بحذر وتغني بسخرية وازدراء مقلدة الكلمات الأجنبية: «دو، داا، دو؛ دا، دو؛ دا دو، دو.» دائما ما كانت قوة وجدية صوتها في الغناء تصيبنا بالدهشة. لم يكن يحرجها أن تطلق العنان لهذه العواطف الجياشة الهائلة التي لم تكن تلقي لها بالا في الحياة. «هل كنت تخططين لأن تصبحي مغنية أوبرا؟» «كلا، لم أخطط إلا لأن أكون السيدة التي تعمل في مكتب البريد. الأمر هو أنني خططت ولم أخطط ؛ فلم يكن لدي الطموح اللازم للعمل، للتدريب. أعتقد أن تلك كانت مشكلتي، كنت دائما أفضل أن أمضي وقتا ممتعا.» كانت ترتدي في عصر أيام السبت بنطالا واسعا وصندلا يظهر أصابع قدميها القصيرة المكتنزة المطلية. وكانت تسقط رماد السجائر على بطنها التي - لأنها لا ترتدي حزاما - تبرز للأمام وكأنها حامل. وتابعت هي بتفكر: «التدخين يدمر صوتي.»
وبرغم أن أسلوب فيرن في الغناء كان محبوبا، فإنه في جوبيلي كان يعد غناء تفصله شعرة واحدة عن التباهي، وأحيانا كان الأطفال يصيحون ويغنون بصورة كريهة خلفها في الشوارع. وكانت أمي ترى هذا اضطهادا؛ إذ إنها كانت على استعداد لبناء قضايا كهذه من أوهن الأدلة؛ فكانت تعامل الزوجين اليهوديين اللذين يديران متجرا لبيع فائض متعلقات الجيش، أو ذاك الصيني الصامت ضئيل الحجم الذي يعمل بالمغسلة؛ برفق مثير للحيرة، وتقدم لهم عروض صداقة بصوت مرتفع وبطيء، لكن لم يكن أي منهم يفهمها. أما فيرن فلم تكن مضطهدة، وأنا متأكدة من هذا، رغم أن عماتي كبيرات السن - عمات أبي - كن ينطقن اسمها بطريقة غريبة، كما لو كان بالاسم بذرة كبيرة عليهن امتصاصها ثم بصقها. أما ناعومي فقد قالت لي: «كان لفيرن دوجرتي هذه طفل رضيع.»
فقلت بلهجة دفاعية بصورة تلقائية: «لم تنجب أي أطفال.» «بل كان لها طفل، لقد أنجبته عندما كانت في التاسعة عشرة من عمرها؛ ولهذا طردت من معهد الموسيقى.» «وما أدراك أنت؟» «أمي تعرف.»
كان لوالدة ناعومي جواسيس في كل مكان يعلمونها بكل حالات الولادة القديمة وحالات الوفاة. فخلال وظيفتها كممرضة تتنقل من منزل لآخر، كانت تشبه أنبوب شفط مختفيا تحت الماء، تشفط ما لا يمكن لأحد آخر أن يصل إليه. أحسست أنني لا بد أن أجادل ناعومي في هذا لأن فيرن تسكن لدينا، وكانت ناعومي دائما ما تتكلم عمن في بيتنا (فكانت تقول بتلذذ مقيت: «إن أمك ملحدة.» فكنت أقول لها: «لا، بل هي لاأدرية.» وبعد كل ما أقدمه من تفسير منطقي مفعم بالأمل، كانت تردد: «لا فارق، لا فارق».) لم أستطع أن أثأر منها؛ إما ضعفا مني أو جبنا، بالرغم من أن والدها كان ينتمي إلى مذهب ديني غريب مشكوك فيه، وكان يهيم على وجهه في طرقات المدينة يتحدث عن النبوءات دون أن يضع أسنانه الصناعية.
صفحه نامشخص