وبالضبط كما كان من المؤكد أن مارجوري وجوين تحجزان مكانيهما، كان من المؤكد أن البعض لن يتم اختياره قط، مثل تلك الفتاة الضخمة البدينة التي تدعى بيولا باوز التي كانت مؤخرتها تتخطى حدود مقعدها، وكان الأولاد يغرسون فيها سنون أقلامهم، وتلك الفتاة الإيطالية التي لا تتكلم أبدا ودائما ما تتغيب بسبب مرض في كليتها، وكذلك صبي أمهق واهن الجسد كثير البكاء يمتلك أبوه دكان بقالة صغيرا، والذي كان يشتري حياته في المدرسة بأكياس من الحلوى باللبان والشيكولاتة والحلوى بطعم العرقسوس. مثل هؤلاء الطلاب كانوا يجلسون دائما في آخر الفصل، ولا يطلب منهم المعلمون أبدا القراءة بصوت مرتفع، أو الخروج لكتابة مسألة حسابية على السبورة، وكانوا يتلقون بطاقتي معايدة في كل عيد حب (هاتان البطاقتان من مارجوري وجوين اللتين بإمكانهما إرسال بطاقات للجميع دون خوف من أن تتلوث سمعتهما). وكانوا يمضون العام بعد العام والصف تلو الصف في عزلة حالمة لا يعكر أحد صفوها. وستكون الفتاة الإيطالية هي أول من يموت من بيننا عندما نلتحق بالمدرسة الثانوية، وحينها سنتذكرها بذعر، وفخر جاء متأخرا قائلين: «لقد كانت في صفنا.»
وقد نجد صوتا غنائيا شجيا في أي مكان، لكن بالطبع ليس لدى بيولا باوز أو لدى الفتاة الإيطالية أو ذلك الصبي الأمهق، لكنه كان يأتي من مكان قريب منهم. فمن يمكن أن يكون ذلك الذي اقتنصه السيد بويس والآنسة فاريس كأنه غنيمة سوى ذلك الصبي الذي يجلس خلفي - وهو صبي كنت سأضعه في آخر قائمة الطلاب الذين يجري اختيارهم في بعض الأحيان - وهو فرانك ويلز.
لم يكن ينبغي لي أن أندهش، فقد كنت أسمعه خلفي كل صباح يغني «ليحفظ الله الملك»، ومرة كل أسبوع خلال زيارات السيد بويس كنت أسمعه يغني «جون بيل»، و«تدفق برفق يا نهر آفتون الجميل»، و«كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه الباردة عندما يصيبه الحر من المطاردات.» كان صوته صوت سوبرانو ثابتا طبيعيا جريئا ذا طبقات تكاد تكون غير بشرية، بل هادئة ومتفردة كصوت الناي. (وقد بدا جهاز تشغيل الأسطوانات - الذي تعلم بعد ذلك أن يشغله ليعزف موسيقى دوره في الأوبريت - كأنه امتداد لصوته). هو نفسه كان غير مكترث بامتلاك صوت كهذا، وغير واع به لدرجة أنه عندما يتوقف عن الغناء، يتلاشى كليا ولا يفكر أحد في الربط بينه وبين هذا الصوت.
كل ما كنت أعرفه عن فرانك ويلز هو أنه سيئ جدا في التهجية، فقد كان عليه أن يمرر ورقة التهجية الخاصة به إلي أولا لأمررها للمعلمة كي يتم تصحيحها وتوضع عليها الدرجات. وبعدها كان يذهب إلى السبورة، منصاعا ولكن رابط الجأش، كي يكتب كل كلمة ثلاث مرات، لكن لم يبد أن هذا يساعده كثيرا. كان من الصعب تصديق أن تهجئته هذه لم تكن حماقة أو مزاحا عنيدا غاضبا، لكن لا شيء آخر بشأنه كان يرجح هذا الرأي. فبخلاف مستواه في التهجية، فإنه لم يكن ذكيا ولا غبيا؛ فقد كان يعرف على الأرجح أين يقع البحر المتوسط، لكنه لا يعلم أين يقع بحر سارجاسو.
عندما عاد إلى مقعده كتبت على مسطرتي «أي دور أخذت؟» ثم مررتها إليه كما لو كنت أعيره إياها. كان الفصل الدراسي منطقة هدنة يسمح فيها باتصال محايد، ولكن خفي، بين الأولاد والبنات.
فكتب فرانك على جانب المسطرة الآخر: «زمار هاملين.»
فعرفت أن الأوبريت الذي سوف نؤديه هو «زمار هاملين». أصابني الإحباط لأنه لن تكون هناك مشاهد في البلاط، ولن تكون هناك وصيفات للملكة ولا ثياب جميلة. لكنني مع هذا أردت بشدة أن أشارك في الأوبريت. شرعت الآنسة فاريس في اختيار الراقصات لمشهد «رقصة زواج القرويات». «أريد أربع فتيات يستطعن أن يبقين رءوسهن منتصبة ويتابعن الإيقاع بأقدامهن. مارجوري كوتس وجوين موندي، ومن أيضا؟» جالت عيناها في الصفوف، وتوقفت عدة مرات عند العديد من الفتيات وعندي أنا أيضا، حيث جلست مرفوعة الرأس وكتفاي مستقيمتان وتعبير وجهي مشرق لكن غير متلهف حفظا لكرامتي، وإصبعاي منعقدتان حول بعضيهما بعنف تحت طاولتي، وهي إشارة خاصة بي طلبا للحظ السعيد. «آلما كودي و... جون جانيت، والآن أريد أربعة صبية يستطيعون الرقص دون أن يسقطوا الستارة ...»
شعرت بألم يعتصرني، ماذا لو أنني مقدر لي فقط أن أكون مع الجمهور دائما وراء كواليس خشبة المسرح؟ ماذا لو أنني لم يكتب لي قط ارتقاء خشبة المسرح؟ بعض طلاب الفصل لن يرتقوا خشبة المسرح قط، بل سيجلسون على مقاعد مصطفة أسفلها على جانبي البيانو الذي يعزف عليه السيد بويس ومعهم الطلبة من الصفوف الأصغر الذين اختيروا للغناء في الكورس، وكلهم يرتدون زيا موحدا من تنورة سوداء وبلوزة بيضاء أو بنطلون أسود وقميص أبيض. في ذاك المكان جلست لثلاث سنين خلال أوبريتات «أميرة الغجر» و«راقصي كيري» و«التاج المسروق». وهناك ستجلس الفتاة الإيطالية والفتاة البدينة والفتى الأمهق - كما هو متوقع - خلال أوبريت «زمار هاملين»، لكن ليس أنا! ليس أنا! لم أكن أصدق ذلك الظلم الفظيع الذي سيبعدني عن المسرح.
ناعومي هي الأخرى لم تحصل على دور لتشارك في الأوبريت، لكننا لم نتكلم في هذا الموضوع في طريقنا إلى المنزل، لكننا سخرنا من كل شيء متعلق بهذا الأوبريت. «أنت قومي بدور الآنسة فاريس وأنا سأكون السيد بويس. آه، يا حبي الحقيقي، يا طائري الصغير، موسيقى «زمار هاملين» هذه تجعلني أفقد صوابي ولعا وهياما بك، متى سأضمك بين ذراعي حتى يتصدع عمودك الفقري لأنك نحيلة للغاية؟» «لست نحيلة، أنا باهرة الجمال، وشاربك هذا أصابني بطفح جلدي . ماذا سنفعل بشأن السيدة بويس يا حبي؟» «لا تشغلي بالك بها يا ملاكي الجميل، سوف أحبسها في خزانة مظلمة ملأى بالصراصير.» «لكنني أخشى أن تهرب.» «في هذه الحالة سوف أجبرها على تناول الزرنيخ، ثم سأقطع جسدها إلى قطع صغيرة وألقي بها في المرحاض. كلا سوف أذيبها في محلول قلوي في حوض الاستحمام. وسوف أصهر حشوات أسنانها الذهبية وأصنع لنا منها خاتم زفاف جميلا.» «آه كم أنت رومانسي يا حبيبي!»
وبعد ذلك، اختيرت ناعومي لأداء دور أم تقول في الأوبريت: «آه، حبيبتي مارتا الصغيرة، كم كنت ترقصين كل صباح وأنا أحاول أن أضفر شعرك! وكنت أوبخك على هذا! آه لو كان لي أن أراك وأنت ترقصين الآن!» وفي آخر مشهد تقول: «الآن أنا ممتنة للغاية، لن أحكي أي شيء عن جيراني، ولن أكون امرأة بخيلة نمامة بعد الآن!» وأعتقد أنها اختيرت لأداء ذلك الدور بسبب قوامها القصير المكتنز الذي يسهل تحويله إلى قوام امرأة وقورة. وهكذا، صرت أعود إلى المنزل وحدي؛ فكل من فاز بدور في الأوبريت كان عليه البقاء بعد اليوم الدراسي ليتدرب. وعندما عدت إلى المنزل سألتني أمي: «كيف أحوال الأوبريت؟» وتقصد: هل حصلت على دور؟ «لم يفعلوا شيئا حتى الآن، لم يوزعوا الأدوار بعد.»
صفحه نامشخص