بعد أن استأجرنا المنزل في المدينة أصبح لدينا مستأجرة تسكن معنا، وهي فيرن دوجرتي التي كانت تغني في جوقة الكنيسة المتحدة. كنت أذهب معها إلى الكنيسة وأجلس وحدي، فأنا الوحيدة من عائلتي الحاضرة، فعمات والدي يسكن في الطرف الآخر من المدينة ولا يسرن تلك المسافة الطويلة كثيرا، كما أن القداس يكون مذاعا على أية حال على محطة جوبيلي الإذاعية.
لم كنت أفعل ذلك؟ في بادئ الأمر، ربما كان ذلك كي أضايق أمي، رغم أنها لم تبد اعتراضا صريحا، وكي أجذب الانتباه إلي. كنت أتخيل الناس ينظرون إلي ثم يقولون لاحقا: «هل ترون تلك الفتاة الصغيرة هناك التي تأتي وحدها أسبوعا تلو الآخر؟» كنت آمل أن ينخدع الناس ويتأثروا بتقواي ومثابرتي، في الوقت الذي يعرفون فيه طبيعة إيمان أمي، أو بالأحرى عدم إيمانها. وكنت أفكر أحيانا في سكان جوبيلي كما لو أنهم ليسوا إلا جمهورا كبيرا لي، وقد كانوا كذلك بالفعل نوعا ما، فبالنسبة لكل شخص يعيش هناك كان بقية سكان المدينة جمهورا.
ولكن في الشتاء الثاني لنا في المدينة - الشتاء الذي بلغت فيه الثانية عشرة من عمري - تغيرت أسبابي أو أصبحت أكثر رسوخا. فقد أردت أن أحسم قضية الرب. كنت أقرأ كتبا عن العصور الوسطى، وازداد انجذابي أكثر فأكثر لفكرة الإيمان. كان وجود الرب احتمالا واردا بالنسبة لي طوال الوقت، ولكنني الآن وقعت فريسة لحنين واضح وقوي له. فقد صار في نظري ضرورة، ولكنني كنت أرغب في الحصول على تأكيد؛ دليل على وجوده بالفعل، كان ذلك هو السبب الرئيسي لترددي على الكنيسة، ولكنني لم أستطع أن أبوح بذلك لأي شخص.
وهكذا ظللت أتردد على الكنيسة في أيام الآحاد الممطرة العاصفة أو الثلجية أو التي كنت أعاني فيها من التهاب الحلق، ظللت أذهب وأجلس في الكنيسة المتحدة مفعمة بذلك الأمل الذي لا يمكنني البوح به في أن الرب سوف يتجلى - لي أنا على الأقل - على هيئة قبة من الضوء أو فقاعة متوهجة لا تقبل الجدال فوق المقاعد الخشبية الطويلة الحديثة، أو أنه سوف يظهر فجأة كصف من الزنابق المزهرة أسفل آلات الأرجن. شعرت بأنني بحاجة للسيطرة على هذا الأمل بشدة، فكشفه بنبرة صوت متحمسة أو بكلمة أو إيماءة أمر غير ملائم كإطلاق الريح. وأكثر ما لاحظته على وجوه الناس خلال الأجزاء الأولى من القداس الموجه نحو الرب (فالموعظة تميل للانصراف نحو موضوعات محلية) هو نوع من اللباقة العامة المتسقة، وهو الشيء نفسه الذي كانت أمي تنتهكه بنظرتها المعارضة المتسائلة كما لو كانت على وشك أن تتوقف وتطلب تفسيرا لكل شيء.
لم تطرح مسألة ما إذا كان الرب موجودا أم لا في الكنيسة قط، بل كان كل ما يطرح هو ما يقبل به الرب، أو عادة ما لا يقبل به. وبعد منح البركة كانت تحدث حالة من الهياج، حالة من التحرير الذي يبعث على الراحة، كما لو أن الجميع قد تثاءب، رغم أن أحدا لم يفعل ذلك بالطبع، وكان الناس ينهضون من أماكنهم ويحيون بعضهم البعض بطريقة احتفالية تدل على السرور والارتياح. وفي تلك اللحظات كنت أشعر بالاضطراب والحرارة والتثاقل والقنوط.
لم أفكر في عرض مشكلتي على أي مؤمن، ولا حتى السيد ماكلوفلين القس؛ فهو أمر محرج للغاية، كما كانت بداخلي مخاوف أيضا؛ فقد كنت أخشى أن يتلعثم المؤمن وهو يدافع عن معتقداته أو يعرفها؛ مما يمثل نكسة لي. فإذا اتضح مثلا أن السيد ماكلوفلين لا يحكم قبضته على دليل وجود الرب أكثر مما أفعل أنا، فسوف يؤدي ذلك إلى تثبيط عزيمتي كثيرا، وإن كان لن يثنيني عن الأمر. كنت أفضل أن أومن بأن دليله قوي دون أن أختبره.
ولكنني فكرت حقا في عرض المشكلة على كنيسة أخرى؛ على الكنيسة الأنجليكانية. كان ذلك بسبب الجرس، ولأنني كنت أشعر بالفضول لرؤية كنيسة أخرى من الداخل وكيف يتعاملون مع الأمور، وكانت الكنيسة الأنجليكانية هي الوحيدة التي يمكن تجربة هذا الأمر معها. لم أخبر أحدا بالطبع عما أنوي القيام به ، ولكنني سرت مع فيرن دوجرتي حتى سلالم الكنيسة المتحدة حيث افترقنا؛ حيث كانت هي تذهب إلى غرفة ملابس الكهنة وترتدي ثياب الجوقة. وعندما غابت عن ناظري استدرت عائدة وانطلقت إلى الطرف الآخر من المدينة، حتى وصلت إلى الكنيسة الأنجليكانية استجابة لدعوة الجرس، وتمنيت ألا يكون أحد قد رآني، ثم دخلت.
كان ثمة رواق مسقوف للعواصف خارج الباب الرئيسي كي يحجز الرياح بعيدا، ثم مدخل بارد قليلا به قطعة من الحصير البني وكتب الترانيم متراكمة على حافة النافذة، ثم دخلت إلى الكنيسة نفسها.
لم يكن لديهم تنور، بل مجرد مدفأة صغيرة بجوار الباب تصدر صوتها الثابت المألوف في المنازل، وكانت هناك شريحة من الحصير البني نفسه تمتد من الخلف وعلى طول الممر، وغير ذلك لم يكن سوى الأرض الخشبية التي لم تكن مصقولة أو مطلية، بل مجرد ألواح واسعة تتزحزح تحت الأقدام بين الحين والآخر، بالإضافة إلى سبعة أو ثمانية مقاعد خشبية طويلة فقط على كل جانب، وزوج من مقاعد الجوقة بزاوية قائمة مع المقاعد الخشبية، وآلة أرجن في أحد الجوانب ومنبر - لم أدرك في البداية أنه منبر - شامخ كمجثم الطيور في الجانب الآخر، ووراء ذلك ثمة حاجز ودرجة سلم لأعلى ومذبح صغير. كانت أرض المذبح مغطاة بسجادة قديمة تصلح لقاعة استقبال، وكان ثمة مائدة أيضا عليها زوج من الشموع الفضية، وصحن لجمع الأموال مبطن بنسيج البيز، وصليب يبدو كما لو كان مصنوعا من الورق المقوى ومغطى بالورق الفضي كالتاج الذي يرتديه الممثلون في المسرحيات، وفوق المائدة ثمة نسخة من لوحة هولمان هانت التي تصور المسيح يقرع الباب. لم أكن قد رأيت تلك اللوحة من قبل، وكان المسيح بها يختلف قليلا - ولكن اختلافا مهما - عن المسيح الذي يظهر وهو يصنع المعجزات على نافذة الكنيسة المتحدة، فقد بدا هنا أكثر ملكية وحزنا، وخلفية اللوحة أكثر كآبة وثراء، ونوعا ما أكثر وثنية أو على الأقل تنتمي لمنطقة البحر المتوسط. وكنت معتادة على رؤيته واهنا وريفيا في الصور الوصفية المرسومة بأقلام الباستيل الخاصة بمدارس تعليم المسيحية التي تقام يوم الأحد.
إجمالا كان هناك حوالي اثني عشر شخصا في الكنيسة: راهب هولندي والجزار وزوجته وابنته جلوريا التي كانت في الصف الخامس في المدرسة، وكنت أنا وهي فحسب في الكنيسة في ذلك الوقت تحت سن الأربعين، وكان هناك أيضا بعض النساء العجائز.
صفحه نامشخص