يا أرض الأمل والمجد
يا أم الأحرار
كيف لنا أن نبتزك
نحن أبناؤك؟
كنت قد علمته تلك الأغنية، ففي ذلك العام كنا نغني تلك الأغاني كل يوم في المدرسة كي نساعد في إنقاذ إنجلترا من يد هتلر. وقالت أمي إنها «نمجدك» لا «نبتزك»، ولكنني لم أصدق ذلك، فكيف تستقيم القافية هكذا؟
جلست أمي في مقعدها القماشي وجلس أبي في مقعده الخشبي دون أن ينظر أحدهما إلى الآخر، ولكن كانت ثمة صلة بينهما، وكانت تلك الصلة واضحة كما لو كانت سياجا؛ كانت صلة بيننا وبين العم بيني؛ صلة بيننا وبين طريق فلاتس؛ صلة تبقى بيننا وبين كل شيء. كان الأمر نفسه كما يحدث أحيانا في الشتاء عندما يوزعان أوراق اللعب، ويجلسان إلى طاولة المطبخ ويلعبان في انتظار أخبار العاشرة بعد أن نكون قد خلدنا إلى النوم بالطابق العلوي، والطابق العلوي يبدو على بعد أميال منهما، فهو مظلم تملؤه أصوات الرياح. وهناك بالأعلى تكتشف ما لم تتذكره بالأسفل في المطبخ قط، أننا نعيش في منزل صغير صامت مثل زورق في البحر في وسط موجة من الجو العاصف. ويبدو كما لو أنهما يتحدثان ويلعبان الورق على بعد مسافة بعيدة في بؤرة ضوء ضئيلة لا صلة لها بما حولها؛ غير أن هذا التفكير - الممل كالفواق والمألوف كأصوات الأنفاس - فيهما هو ما كان يشغلني، ما كان يومض لي من قاع البئر وأنا أشد رحالي إلى عالم الأحلام.
لم يتلق العم بيني أي خطابات من مادلين مرة أخرى، أو حتى إذا كان قد تلقى فإنه لم يذكرها مرة أخرى. وعندما كان يسأله أحد أو يضايقه بشأنها، كان يبدو أنه يتذكرها بلا أسى مع لمحة من الازدراء لكونها شيئا - أو شخصا - مهملا منذ فترة طويلة كالسلاحف.
وبعد فترة، كنا نضحك جميعا ونحن نتذكر مادلين وهي تقطع الطريق، مرتدية سترتها الحمراء وساقاها تتقاطعان كالمقص وهي تكيل السباب للعم بيني، الذي يتبعها حاملا ابنتها. كنا نضحك متذكرين كيف كانت تسيء التصرف وما فعلته بإيرين بولوكس وتشارلي باكل. وقالت أمي في نهاية الأمر، كي تريح نفسها، إن العم بيني ربما يكون قد اختلق أمر الضرب ذاك، فكيف يمكن الوثوق به؟ وكانت مادلين نفسها تبدو كما لو كانت شيئا اختلقه؛ فكنا نتذكرها كقصة فحسب، ولما لم يكن لدينا ما نقوله ، لم نملك سوى هتاف غريب قاس جاء متأخرا: «مادلين! تلك المرأة المجنونة!»
ورثة الجسد الحي
كان اسم المنزل الذي يقع في جنكينز بيند هو ذاك الاسم المطبوع على لافتة من صنع العم كريج تتدلى من الشرفة الأمامية بين راية حمراء والعلم البريطاني. بدا المنزل كما لو كان مركز تجنيد أو نقطة عبور على الحدود، فقد كان يوما ما مكتب بريد، ولا يزال يحتفظ بتلك الهيئة الرسمية شبه العامة؛ وذلك لأن العم كريج كان كاتب بلدة فيرمايل، وكان الناس يقصدونه للحصول على تصاريح الزواج وغيرها من أنواع التصاريح، وكان مجلس البلدة يجتمع في عرينه أو مكتبه، الذي كان يضم خزانات للملفات وأريكة جلدية سوداء، ومكتبا ضخما ذا غطاء متحرك وأعلاما أخرى، وصورة للآباء المؤسسين للاتحاد الكونفدرالي، وأخرى للملك والملكة والأميرات الصغيرات في ثياب حفل التتويج الفاخرة. وثمة صورة أخرى محاطة بإطار لمنزل خشبي كان يقع مكان هذا المنزل الكبير الجذاب المصنوع من الطوب العادي. وكانت تلك الصورة تبدو كما لو أنها تنتمي لبلد آخر، كل شيء بها أقل ارتفاعا ووضوحا وأكثر ظلمة من هنا. وقد نما حول المباني دغل ضبابي يعج بالعديد من النباتات دائمة الخضرة مدببة الأطراف، وكان الطريق الظاهر في الصورة من الأمام مصنوعا من جذوع الأشجار المرصوصة. «إنه ما يطلق عليه طريق مرصوف بجذوع الأشجار.» قالها العم كريج لي في لهجة توجيهية.
صفحه نامشخص