حينما كنت أعود إلى البيت من تلك الجلسات بجوار النهر لا أستطيع النوم وأحيانا أظل ساهرة حتى الفجر، ليس لأنني لم أفرغ شحنتي - كما قد يتوقع - وإنما لأنه كان علي أن أسترجع في ذهني تلك الهدايا العظيمة التي تلقيتها، تلك الأعطيات الجميلة، ولا أدعها تفلت مني: شفتاه على معصمي، على باطن مرفقي، على كتفي، على ثديي، يداه على بطني، على فخذي، بين ساقي. إنها هدايا. قبلات عديدة، تلامس بالألسن، أصوات متضرعة وممتنة، جرأة وتكشف. أما انغلاق الفم بإحكام على حلمة الثدي فكان يبدو بمثابة إقرار بالبراءة والعجز؛ ليس لأنه تقليد لمشاعر الأطفال الصغار، وإنما لأنه لا يخشى الشعور بالسخف. كنت أرى الجنس استسلاما تاما، ليس استسلام المرأة للرجل وإنما استسلام الإنسان للجسد، هو فعل إيماني محض، إنه الحرية في الإهانة. كنت أستلقي تغمرني تلك المعاني والاكتشافات، كالعالق طوال الليل في مياه صافية دافئة متدفقة بشكل لا يقاوم.
كان جارنيت يصطحبني أيضا إلى مباريات البيسبول التي أحيانا كانت تلعب بعد سقوط المطر مباشرة. وكانت تقام في المساء في الساحات التي تقع في نهاية طريق دياجونال وفي البلدات المجاورة. كان جارنيت لاعب كرة البيسبول الأول في فريق جوبيلي، وكان اللاعبون يرتدون زيا أحمر ورماديا. وكانت جميع الملاعب بها مدرجات مكشوفة متداعية وسياجات عريضة مغطاة بإعلانات قديمة للمشروبات الغازية والسجائر. ولم تكن المدرجات تمتلئ بأكثر من ثلثها قط، وكان كبار السن يأتون لمشاهدة المباريات - هم أنفسهم كبار السن الذين كانوا يجلسون دائما على المقعد الطويل الذي يقع أمام الفندق، أو الذين يلعبون لعبة الداما في الصيف على لوحة الداما الإسمنتية المطلية خلف النصب التذكاري، والذين كانوا يسيرون لاستكشاف نهر واواناش أثناء الفيضان في كل ربيع، ويقفون يومئون برءوسهم ويبدون تعليقاتهم كما لو أنهم هم من جعلوا النهر يفيض. وكان هناك أولاد في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرهم يجلسون على الأعشاب ويدخنون. وكانت الشمس تسطع دوما بعد يوم طويل كئيب وتفترش أشعتها الهادئة الحقل كقضبان ذهبية. وكنت أنا أجلس مع السيدات، صديقات اللاعبين وبعض الزوجات الشابات اللائي كن يصحن ويقفزن في المدرجات. أما أنا فلم أكن أستطيع أن أصيح أبدا؛ لأن لعبة البيسبول كانت تحيرني كما كانت تحيرني الكنيسة المعمدانية، لكنها لم تكن تشعرني بعدم الارتياح. فكنت أحب فكرة أن هذا الطقس الرجالي ما هو إلا مقدمة لطقوسنا الخاصة.
لكنني كنت لا أزال أذاكر دروسي في الأمسيات الأخرى، وكنت أتعلم أمورا ولم أنس كيف تعلمتها، غير أنني كنت أغرق في أحلام يقظة تستمر لنصف ساعة. واستمررت كذلك في مقابلة جيري في مطعم هاينز. «لماذا ترافقين إنسان نياندرتال هذا؟»
قلت بصوت مبتهج مراوغ يملؤه الخزي: «ماذا تعني بإنسان نياندرتال؟ إنه إنسان كرومانيون.»
لكن جيري لم يكن يملك ترف التفكير في أموري؛ فقد كان عقله مثقلا بالتفكير في قرارات بشأن مستقبله، أخذ يقول: «إذا ذهبت إلى ماكجيل ...» «لكن إذا ذهبت إلى تورونتو ...» كان عليه أن يفكر في المنح الدراسية التي قد ينالها، وكذلك عليه أن يتطلع إلى المستقبل أيضا ويحدد أي جامعة ستتيح له أفضل فرصة كي يلتحق بواحدة من أفضل كليات الدراسات العليا الأمريكية. اهتممت بالموضوع وأخذت أطالع كتيبات الجامعات وأقارن الخيارات المتاحة أمامه وأنا أقلب في ذهني تفاصيل لقائي الأخير مع جارنيت. «لا زلت عند رأيك أنك ستذهبين إلى الجامعة، أليس كذلك؟» «ولم قد أكون غيرت رأيي؟» «عليك إذن أن تتوخي الحذر، في هذه الحالة. أنا لا أسخر منك، ولست أشعر بالغيرة، إنني أفكر في مصلحتك.»
كانت أمي هي الأخرى تفكر في مصلحتي وقالت لي: «أنا أعرف آل فرينش هؤلاء، إنهم يعيشون بعد وادي جيريكو. إنها أفقر غابة مهجورة يمكنك أن تأملي أن تريها.» لم أخبرها عن جمعية الشباب المعمدانيين، لكنها اكتشفت الأمر بمفردها فقالت لي: «لا أفهم هذا، لا بد أنك فقدت صوابك.»
فقلت بحدة: «ألا يمكنني أن أذهب حيث أريد؟» «لقد شوش ذاك الصبي على عقلك. أنت بما تملكين من ذكاء. هل تنوين أن تعيشي بقية حياتك في جوبيلي؟ هل تريدين أن تكوني زوجة عامل بمخزن أخشاب؟ هل تريدين الانضمام لهيئة مساعدة السيدات المعمدانيات؟» «كلا.» «حسنا، أنا لا أريد إلا أن أبصرك بالأمور، لمصلحتك الشخصية.»
عندما أتى جارنيت إلى منزلي عاملته أمي بكل لباقة وسألته عن مهنة قطع الأخشاب. كان يناديها: «يا سيدتي.» بالطريقة نفسها التي كنت أستخدمها أنا وجيري عندما نقلد القرويين بسخرية. كان يقول بتهذيب وثقة في النفس: «لا أعرف كثيرا عما تسألين يا سيدتي.» وكانت أي محاولة من هذا النوع من المناقشات العامة، أي محاولة لجعله يفكر بهذه الطريقة، أن يتكلم كلاما نظريا، أو يحدد نظاما؛ كانت تولد نظرة خاوية تفوح بالشموخ الذي لا يخلو من الشعور بالإهانة على وجهه. كان يكره من يستخدمون مصطلحات ضخمة ويتحدثون عن أمور خارج حيواتهم الخاصة. كان يكره من يحاولون ربط الأمور ببعضها، لكن هذه الأمور هي التسلية الكبرى في حياتي، فلماذا لم يكرهني إذن؟ ربما أكون قد نجحت في إخفاء حقيقتي عنه، أو على الأرجح أنه أعاد ترتيب شخصيتي وأخذ منها ما يناسبه فقط، ما يحتاج إليه. وهذا هو ما فعلته أنا أيضا معه، فقد أحببت الجانب المظلم منه، الجانب الغريب منه ، الجانب الذي لم أعرفه، ليس المعمداني الجديد، بل إني رأيت ذلك الوجه المعمداني الذي كان فخورا به ما هو إلا قناع يلهو به ويستطيع أن يخلعه بسهولة. حاولت أن أدفعه لأن يروي لي عن الشجار الذي دار خارج حانة بورترفيلد وعن تجربته في السجن. فقد كنت أولي اهتماما كبيرا لغرائزه ولم أهتم أبدا بأفكاره.
حاولت أن أجعله يخبرني لماذا أتى إلي في تلك الليلة في اجتماع النهضة الدينية. «أعجبتني نظراتك.»
كان هذا هو كل ما حصلت عليه.
صفحه نامشخص