إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلف بين يديها بضعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه، وإن قلبها ليخفق بذكراه في عيني هذا الحبيب الصغير، وكذلك لم ينس الرافعي، ولكنه وجد السلوان ... لقد أفلتت من يده، ولكنها خلفت ذكراها معه، ذكرى حية ناطقة تتمثل معاني وكلمات في كتاب يقرؤه كلما لج به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!
يرحمه الله! لقد مات، ولكن قلبه ما يزال ينبض يتحدث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرأ كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله ...
يرحمه الله!
في النقد
الرافعي وطه حسين - تحت راية القرآن - كليلة ودمنة - شاعر الملك - الرافعي والإبراشي باشا - الرافعي وعبد الله عفيفي - الرافعي والعقاد - على السفود - وحي الأربعين. ***
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد، لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدى بعيدا مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية، فما أحد منهم إلا له عنده ثأر وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة، ولقد اهتزت بلاد العربية كلها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلا واحدا كتب برقية إلى ولده، هو الدكتور طه حسين بك، فلا جرم كان بذلك أنزه خصوم الرافعي وأعرفهم بالأدب اللائق!
ولقد مضى ما مضى منذ ترك الرافعي دنياه، فهل رأيت أحدا منهم كتب شيئا عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي تألفت لتأبينه قد استطاعت أن تحمل واحدا من هؤلاء على أن يشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان ...؟
ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولما ينقض على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع لجنة التأبين وتنفض وتحدد الموعد لحفلتها ثلاث مرات ثم لا تجد من يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي، فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد ... حتى إذا مضى العام فاحتفلت فلسطين، واحتفلت سوريا، واحتفل العراق، واحتفل العرب في المهاجر من وراء البحار بذكرى الرافعي، أقامت لجنة التأبين في مصر حفلتها كما اتفق أن تكون لا كما كان ينبغي أن تكون؛ تحرجا من التهمة بالعقوق ونكران الجميل!
ولكنه هو - يرحمه الله - الذي ألب على نفسه هذه العداوات حيا وميتا، لقد كان ناقدا عنيفا حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة «من جهة الحرص على الدين ؛ إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معا إلا بقيامها معا»، وكان يؤمن بأنك «لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة» ... فكان بذلك كله ناقدا عنيفا، يهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع!
اقرأ له في أول كتاب المعركة: ... إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدا فيمن لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه ... فإن كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول بل عظة الثاني ...
صفحه نامشخص