وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتني العناية بطبع «وحي القلم» وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدت ... ومات الرافعي!
فإن يكن في الحديث عن «الرافعي العاشق» حرج فلا علي فقد استأذنته فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمدا من روحه، راويا من بيانه، ولدي شهودي من كتبه ورسائله وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته، وإذا كان الرافعي قد خفت صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده، وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتازه إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي!
الحب عند الرافعي
وهل في الحب عار أو مذمة؟
هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث. أما الحب الذي أعنيه - وكان يعنيه الرافعي - فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل ...
إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، ولكنه عند الرافعي هو حياة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول، هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا، وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية، هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنور فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية، هو نبوة على قدر أنبيائها، فيها من الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملإ الأعلى على جناحي ملك جميل ... هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان.
كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب ... وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقا بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب.
وكانت «عصفورة» أول من فتح لها قلبه فسيطرت عليه وغلبته على نفسه، وهي فتاة من «كفر الزيات» لقيها ذات يوم على الجسر، وسنه يومئذ إحدى وعشرون سنة، فهفا إليها قلبه، وتحرك لها خاطره، وكان للرافعي في صدر شبابه على «جسر كفر الزيات» مغدى ومراح، ومن عيون الملاح على هذا الجسر تفتحت زهرة شبابه للحب، وجاشت نفسه بمعاني الشعر.
ومن وحي هذا الحب كان أكثر قصائد الرافعي الغزلية في الجزء الأول من الديوان، ومنه كان ولوعه في صدر أيامه بلقب شاعر الحسن!
وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر «شاعر الحسن» وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها، ثم مضى كل منهما إلى طريق، وأتم الرافعي طبع ديوانه ... وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد، كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية في الجزء الأول من الديوان، ثم كان تاريخ جديد ...
صفحه نامشخص