وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتا من نوادر كتب الفقه والدين والعربية، فأكب عليها إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه، فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد ... وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد ... وكان ضجيج الحياة بعيدا عن أذنيه ... وكان يحس في نفسه نقصا من ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية ... وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث ... وكان مشتاقا إلى السمع؛ ليعرف ماذا في دنيا الناس، فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس ... وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة؛ ليجد لذة المتحدث حين يتحدث ... وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني ...
وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيرا عليه وبركة، وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديبا من أدباء العربية في غد ...!
كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه هي دنياه التي يعيش فيها، ناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سماره، فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فما لفم، فنشأ بذلك نشأة السلف، يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم.
وإذ كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم، فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحيانا أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يقع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحيانا ويقول: «فلتكن أنت لي قاموس العامية ...»
وإذ كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما، فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وإخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكنه كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا منذ قريب.
ولم تجد على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل،
3
فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعا قويا، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، على أنه كان يأسف أحيانا على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ، وهيهات أن يجد مثل الرافعي فراغا من وقته!
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل على هذا الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه، كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله، ثم لا يلبث أن يتناول كتابا مما بين يديه ويقول لمحدثه: «تعال نقرأ ...» وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة ...
صفحه نامشخص