لما أنشأ الرافعي «قصة زواج» تحدث بها الأدباء في مجالسهم وتضاعفت رسائلهم إليه معجبين مستزيدين، وتضاعف إعجابه هو أيضا بنفسه ... فاستزاد واستعاد، والتزم الكتابة على أسلوب القصة، فكان على هذا النهج أكثر رسائله من بعد.
وجلست إليه ذات مساء نتحدث حديثنا، فقال وهو يدفع إلي طائفة من رسائل القراء: «اقرأ يا شيخ سعيد ... أرأيت مثل هذا؟ أيحق لأحد أن يزعم لنفسه القدرة على خير مما أكتب في موضوعه؟ أيملك كاتب أن يرد علي رأيا من الرأي؟»
ومضى في طرائق من مثل هذا القول عن نفسه وعن طائفة من خصومه، فعرفت أنه في لحظة من تلك اللحظات التي تتنبه فيها النفس البشرية إلى طبيعتها، فتؤمن بنفسها من دون كل شيء مما خلق الله، إيمانا هو بعض الضعف الإنساني في طبيعتنا البشرية، وهو بعض أسباب القوة في النابغين من أهل الآداب والفنون! ذلك الإيمان الذي نسميه أحيانا صلفا وعنجهية وكبرياء، ونسميه في النابهين والعظماء ثقة بالنفس وشعورا بالقوة!
وكان يلذني في أحيان كثيرة أن أشهد الرافعي في مثل هذه الساعة من ساعات الزهو والإعجاب بالنفس، وأجد في ذلك متاعا لنفسي وغذاء لروحي؛ لأن الرافعي بما كان فيه من طبيعة الرضا والاستسلام للواقع كان رقيقا متواضعا، فلا تشهده في مثل هذه الحال إلا نادرة بعد نادرة، فإذا شهدته كذلك مرة فقد شهدت لونا طريفا من ألوانه، يوحي إلى النفس بفيض من المعاني، وكأنما هو يعدي سامعه من حالته فيحس في نفسه قوة فوق قوته، وكأن شخصا جديدا حل فيه ... ... وسرني أن أجد الرافعي كذلك في تلك الليلة، فأصغيت إليه ومضى في حديثه، فلما انفض المجلس ومضيت إلى داري، وسوس لي الشيطان أن أعابثه بشيء ... فكتبت إليه رسالة بإمضاء «آنسة س»، أرد عليه رأيه في قصة سعيد بن المسيب، وأعيب ما صنع الرجل بابنته، وعمدت في كتابة هذه الرسالة إلى تقليد أسلوب من أسلوب الدكتور طه، يعرفه قراء الرسالة ويعرفه الرافعي ...
وبلغته الرسالة فقرأها، فنبهته إلى ما كان فيه من أمسه، ووقع في نفسه أن مرسلها إليه هو تلميذ أو تلميذة من تلاميذ طه موحى إليه بما كتب، فتحمس للرد، وأنشأ «ذيل القصة وفلسفة المهر»، وجعل أول مقاله رسالة «الآنسة س» وراح يسخر منها ومن صاحب رأيها سخرية لاذعة، ثم عاد إلى موضوع فلسفة المهر.
وقرأ صاحب الرسالة المقالة فرأى فيها تعريضا بصاحبه لم يرض عنه، فكتب إلى الرافعي يطلب إليه أن يوافق على حذف مقدمة المقالة؛ حرصا على ما بين الرسالة والدكتور طه من صلات الود ... وكان له ما طلب، فنشرت المقالة في موعدها خالية من هذا الجزء، ولكنها لم تخل من إشارات مبهمة إلى أشياء غير واضحة الدلالة، وكذلك نشرت من بعد في وحي القلم. •••
ثم كانت قصة «بنت الباشا» وهي السابعة من مقالاته في الزواج، وقد ألهمه موضوعها صديقه «الزبال الفيلسوف» الذي تحدث عنه في هامش هذه المقالة، وهذه المقالة فيما ترمي إليه تعتبر متممة لموضوع «قصة زواج» فهي دعوة اجتماعية لآباء الفتيات إلى الانطلاق من أسر التقاليد في شئون الزواج، وفيها إلى ذلك شيء من الحديث عن «فلسفة الرضا» التي أسلفت القول عنها في «حديث قطين».
أما هذا الزبال الذي نوه به الرافعي في أكثر من مقالة، فهو من عمال قسم النظافة في «بلدية طنطا»، وكان عمله قريبا من دار الرافعي في الشارعين اللذين يكتنفانها، وكان إذا فرغ من عمله في الكنس والتنظيف اتخذ له مستراحا على حيد الشارع تجاه مكتب الوجيه محمد سعيد الرافعي، فيقضي هناك أكثر أوقات فراغه، نائما أو محتبيا ينظر إلى الرائحين والغادين من أهل الثراء والنعمة، أو شاديا يصدح بأغانيه، فإذا جاع بسط منديله على الأرض فيأكل مما فيه، ثم يشعل دخينة ويعود إلى حبوته يتأمل ...
كان هذا الزبال صديق الرافعي! بينهما من علائق الود وصفاء المحبة ما بين الصديقين، وكان الرافعي يسميه «أرسطو الجديد»، وأول هذه الصلة بينهما أن الرافعي كان يلذه أحيانا أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال «محله المختار»، فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس، وكان يحادثه أحيانا في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة ... ويكرمه ويبره، وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر، وصار بعض عادات الرافعي من بعد أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه، دخائن بنصف قرش، مبالغة في إكرامه ...
وكان الرجل أميا، ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحيانا يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوبا في ورقة، وقد كنت الترجمان بينهما مرة، وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث، كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غير عالمه!
صفحه نامشخص