تمهيد
صورته
نسبه ومولده
علمه وثقافته
في الوظيفة
شاعر الحسن
شعراء عصره
بين أهله
من الشعر إلى الكتابة
في سنوات الحرب
أغاني الشعب
الرافعي العاشق
في النقد
كيف كان يكتب؟
عمله في الرسالة
قصص الرافعي
عود على بدء
نقلة اجتماعية
مقالات منحولة
من شئونه الاجتماعية
في يومه الأخير
الخاتمة
تمهيد
صورته
نسبه ومولده
علمه وثقافته
في الوظيفة
شاعر الحسن
شعراء عصره
بين أهله
من الشعر إلى الكتابة
في سنوات الحرب
أغاني الشعب
الرافعي العاشق
في النقد
كيف كان يكتب؟
عمله في الرسالة
قصص الرافعي
عود على بدء
نقلة اجتماعية
مقالات منحولة
من شئونه الاجتماعية
في يومه الأخير
الخاتمة
حياة الرافعي
حياة الرافعي
تأليف
محمد سعيد العريان
تمهيد
سمعت اسم الرافعي لأول مرة منذ بضع عشرة سنة، وكنت يومئذ غلاما حدثا لا يكاد يفهم ما يلقى إليه، فسمعت اسما له جرس ورنين، وله نشيد تتجاوب أصداؤه في جوانب نفسي؛ فحبب إلي من ذلك اليوم أن ألقاه ...
ورأيته لأول مرة بعد ذلك بأشهر، فرأيت رجلا كبعض من أعرف من الناس، وكان جالسا وقتئذ في قهوة على الطريق وبين يديه صحف يقرؤها، فوقفت هنيهة أنظر إليه، لا أكاد أصدق أن هذا الشخص الماثل أمامي هو الشخص الذي أعرفه في نفسي ...
وقرأت له أول ما قرأت، نشيده المشهور «اسلمي يا مصر ...» ثم دفع إلي صديق من أصدقائي كتاب «رسائل الأحزان».
كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين وفكر حالم ورأس يزدحم بالأماني وقلب مملوء بالثقة، ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود حتى يعرف أن أمانيه ليست في دنيا الناس، ويجد الفرق بين عالم قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة، فيلجأ إلى وحدته الصامتة مطويا على آلامه!
واستهواني عنوان الكتاب الذي دفعه إلي صاحبي، فتناولته أقلب صفحاته لا أكاد أفهم جملة إلى جملة، حتى انتهيت إلى قصيدته «حيلة مرآتها»،
1
فإذا شعر عذب يخالط النفس وينفذ في رفق إلى القلب، فأخذت أعيدها مرة ومرة، فلم أدع الكتاب حتى استظهرت القصيدة، وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه على مهل وروية؛ لعلني أستدرك ما فاتني من معانية وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه وصدق عاطفته، وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر: أفهمه بفكري ووجداني، وأنظر فيه بعيني وقلبي، فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه ...
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف وفي الكتب، لا يكاد يفوتني منها شيء، وعرفته، ولم أزل كل يوم أزداد عرفانا به، ولكني لم أعرفه العرفان الحق إلا بعد ذلك بعشر سنين ...
كان ذلك في خريف سنة 1932 وقد قصدت إليه في داره مع وفد ثلاثة نسأله الرأي والمعونة في شأن من شئون الأدب، فلقينا مرحبا مبتسما وقادنا إلى مكتبه، ثم جلس وجلسنا، وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث، لا نكاد نشعر أن الزمن يمر ...
كان جالسا خلف مكتب تكاد الكتب فوقه تحجبه عن عيني محدثه، وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له عند بعض موضوعاتها وقفات سيعود إليها، وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة لا يبدو من خلفها لون الجدار ...
ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة، وطال بنا المجلس حتى خشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، فإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويرجونا ألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفانا تاما من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضا فأصفاني عطفه ومودته.
وجلست إليه في الزورة الثانية وبين يديه صحف، فدفع إلي صحيفة منها، كان منشورا فيها يومئذ قصيدة للشاعر خليل مطران بك، فطلب إلي رأيي في القصيدة، ولم أتنبه ساعتئذ إلى غرضه، وحسبته يقصد إلى أن يشاركني في لذة عقلية وجدها في هذا الشعر، فتناولت الصحيفة وقرأت القصيدة، ثم دفعتها إليه وقد أشرت بالقلم إلى عيون أبياتها، وتناول الصحيفة مني؛ ليرى اختياري ورأيي، فما عرفت إلا وقتئذ أنه كان يختبرني، ولكني - والحمد لله - نجحت في الامتحان قدرا من النجاح!
وتكرر هذا الاختبار، وهو لا يحسبني أدرك ما يعني، على أن إدراكي هذا قد جعلني من بعد أكثر تدقيقا في اختيار الحسن مما أقرأ، وأولاني ثقته على الأيام، فكان علي أن أقرأ أكثر ما يهدى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يعنيه أن يقرأ منها، وأدع ما لا جدوى عليه من قراءته؛ ضنا بوقته، وكنت أنا أكثر ربحا بذاك!
إني لأحس حين أذكره الساعة كأنني لست وحدي، وكأن روحا حبيبة تطيف بي وترف حولي بجناحين من نور، وكأن صوتا نديا رفيع النبرات يتحدث إلي من وراء الغيب حديثا أعرف جرسه ونغمته، ولكنني لا أرى، ولكنني لا أسمع، ولكنني هنا وحدي، تتغشاني الذكرى فتخيل إلي ما ليس في دنياي ...
لقد كان هنا صوت يتجاوب صداه بين أقطار العربية، لقد كان هنا إنسان يملأ فراغا من الزمان، لقد كان هنا قلم يصر صريرا، فيه رنات المثاني وفيه أنات الوجع، وفيه همسات الأماني وفيه صرخات الفزع، فيه نشيج البكاء وفيه موسيقى الفرح ... خفت الصوت، ومات الإنسان، وتحطم القلم، ولكن قلب الشاعر ما زال حيا ينبض؛ لأن قلب الشاعر أقوى من الفناء! •••
وجاءني نعي الرافعي في جريدة «البلاغ» بعد ظهر الإثنين 10 مايو سنة 1937، فغشيتني غشية من الهم والألم؛ سلبتني الفكر والإرادة وضبط النفس، فلم أكد أصدق فيما بيني وبين نفسي أن «صادق الرافعي» الذي ينعاه الناعي الساعة، هو الرجل الذي أعرف ويعرف الناس، ودار رأسي دورة جمعت لي الماضي كله بزمانه ومكانه في لحظة فكر، وتتابعت الصور أمام عيني تنقل إلي خيال هذا الماضي بألوانه وأشكاله ومجالسه وسمره وأحاديثه، من أول يوم لقيت فيه الرافعي إلى آخر يوم جلست فيه إليه ...
وعدت إلى النعي أقرؤه وفي النفس حسرة والتياع، فما زادتني قراءته شيئا من العلم، إلا أن مصطفى صادق الرافعي قد مات!
حينئذ أحسست كأن شيئا ينصب انصبابا في نفسي، وأن صوتا من الغيب يتناولني من جهاتي الأربع يهتف بي، وأن حياة من وراء الحياة تكتنفني ساعتئذ لتملي علي شيئا أو تتحدث إلي بشيء، وكأن عينين تطلان علي من وراء هذا العالم المنظور لتأمراني أمرا وتلهماني الفكر والبيان، هما عينا الرجل الذي أحببته حبا فوق الحب، وأخلصت له وأخلص لي إخلاصا ليس منه إخلاص الناس، ثم نزغ الشيطان بيني وبينه ففارقته وفي نفسي إليه نزوع وفي نفسه إلي، فلم ألقه من بعد إلا رسما في ورقة مجللة بالسواد ...!
2
وعرفت منذ الساعة أي واجب علي لهذا الراحل العزيز. •••
لقد عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجبا، ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأي، وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه العربية المسلمة، فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها ومقومات قوميتها، على حين كانت تعيش هي في ضلال التقليد وأوهام التجديد، ورضي هو مقامه منها غريبا معتزلا عن الناس، لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من الكتب وينشر في الصحف، أو خلال ما يكتب عنه خصومه الأكثرون، وهو ماض على سنته سائر على نهجه، لا يبالي أن يكون منزله بين الناس في موضع الرضا أو موضع السخط والغضب، ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وما كان - رحمه الله - يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع؛ ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية، لا ينال منهما نائل إلا انبرى له، ولا يتقحم عليهما متقحم إلا وقف في وجهه، كأن ذلك «فرض عين» عليه وهو على المسلمين «فرض كفاية»، وأحسبه قال لي مرة وقد كتب إليه صديق يلفته إلى مقال نشرته صحيفة من الصحف لكاتب من الكتاب تناول فيه آية من القرآن بسوء التأويل: «من تراه - يا بني - يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟»
3
وما كان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان، وقد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر، وكان إلى ذلك لا ينفك باحثا مدققا في بطون الكتب حينا وفي أعماق نفسه المؤمنة حينا آخر؛ ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين، أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس، وأحسبه بذلك قد أجد على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل «تطور الفكرة الإسلامية» في هذا العصر. فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي، فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر، ولا الأديب، ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين، يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية اليوم كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الذائع، والصوت المسموع، ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي، لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف، أو يفرض عليه الصمت ...
لقد حاول كثير من مؤرخي الأدب أن يتحدثوا عن الرافعي في حياته، فقالوا: شاعر، وقالوا: كاتب، وقالوا: أديب، وقالوا: عالم، وقالوا: مؤرخ، ولكنهم لم يقولوا الكلمة التي كان ينبغي أن تقال، لقد كان شاعرا، وكاتبا، وأديبا، وعالما، ومؤرخا، ولكنه بكل أولئك، وبغير أولئك، كان شيئا غير الشاعر والكاتب والأديب، وغير العالم والمؤرخ، كان هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان؛ لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.
يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعا وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد، فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة عصر بتمامه من عصور الأدب، وفصل بعنوانه في مجد الإسلام!
لقد عاش غريبا ومات غريبا، فكأنما كان رجلا من التاريخ بعث في غير زمانه؛ ليكون تاريخا حيا ينطق بالعبرة ويجمع تجاريب الأجيال، يذكر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد، ثم عاد إلى التاريخ بعد ما بلغ رسالته.
لقد خفت الصوت، ولكنه خلف صداه في أذن كل عربي وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد؛ لمجد العرب ولعز الإسلام! •••
وبعد؛ فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرافعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك، فماذا يكتب عنه الكاتبون غدا إن أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية؟
لقد عشت مع الرافعي عمرا من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق، وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد، أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئا أؤدي به بعض ما علي من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟
إنني لأحس عبئا ثقيلا على عاتقي لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به، ولقد كتبت منذ عامين - قبل منعاه - شيئا عن الرافعي يعرفه إلى قراء مجلة «الرسالة»، فما أحسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم، على أن الرافعي كان يومئذ حيا، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب، فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة، ورسائل الأدباء تترى تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق الذي علي للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت: «إن لي عليك حقا، وإن للأدب عليك ...!»
ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز، فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات.
أيها الحبيب العزيز الذي ما أزال من كثرة ذكراه كأنني منه على ميعاد ... معذرة إليك!
وها أنا ذا أحاول أن أكتب عن الرافعي، فلا ينتظر أحد مني - في هذا الكتاب - أن أتكلم عن الرافعي الشاعر، أو الرافعي الكاتب، أو الرافعي الأديب، أو الرافعي الفيلسوف، فما يتسع له يومي، وما يرضيني عن نفسي ولا ينفعني بالوفاء أن أكتب عن هذه الحيوات الكثيرة التي اجتمعت في حياة إنسان، ولكني سأكتب - هنا - عن الرافعي الرجل الذي عاشرته زمنا، ونعمت بصحبته، وخلطته بنفسي، وتحدث قلبه إلى قلبي، وتكاشفت روحه وروحي، سأكتب عن الرافعي الذي عاش على هذه الأرض سبعا وخمسين سنة ثم طواه الموت، محاولا أن أجمع شتات حياة تفرقت أخبارا وأقاصيص ونوادر على لسان معاصريه، أو غابت سرا في صدور أهله وخاصته، أما الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الفيلسوف، فللحديث عنه كتاب غير هذا الكتاب، وسيجد الباحثون مما أقول عنه مادة لما يقولون فيه، ولعلي أن أوفق في البلوغ إلى ما قصدت، وإنني لأتهم نفسي من كثرة ما أحب الرافعي أن أتحيف الأدب لو بدا لي في هذا التاريخ أن أقول: هذا رأيي، ولكني سأقول: هذا ما رأيت. فمن كانت له عين بصيرة تنفذ إلى ما وراء المرئيات وتربط الأسباب بالمسببات، فسيبلغ جهده ويرى رأيه.
ولقد كان الرافعي منذ قريب إنسانا حيا بعواطفه وأمياله وحبه وبغضه وشهوته النفسية، ولكنه اليوم فصل من تاريخ العربية بألوانه وفنونه، فلا علي اليوم إن قلت كل ما أعرف عنه خيرا وشرا، فإنما أكتب للتاريخ، والتاريخ لا يحابى ولا يحتسب، وستمر بي في تاريخ الرافعي حوادث وأسماء سأصفها وأعرف عنها بقدر ما، كما سمعتها أو عرفت عنها، فأيما كاتب أو أديب أو رجل أو امرأة أو ذي شأن أحس فيما أكتب شيئا ناله بما يوجب المدح أو المذمة، فلا يشكر ولا يتعتب، فإن التاريخ بعد أن يقع لا يمكن محوه ... وما فات من تاريخ الإنسان فهو جزء انفصل من حياة صاحبه، وإنما له ما هو آت، وما أحب أن يقول لي أحد: صدقت أو كذبت، فما هذا الذي أكتب رأي أراه، ولكنه رؤية رأيتها أو رواية رويتها فأثبتها مسندة إلى راويها وعليه تبعتها.
إن التاريخ الأدبي للرافعي يبدأ من سنة 1900، وتاريخ ميلاده قبل ذلك بعشرين سنة، وأنا ما بدأت صلتي بالرافعي إلا سنة 1932، فما كان من هذا التاريخ فسأرويه من غيب صدري أو مذكراتي وعلي تبعته، وما كان من قبل فقد سمعت به من أهله وأصدقائه الأدنين وخلطائه منذ صباه، أو كان مما قصه علي أو عرفت عنه من أوراقه الخاصة ورسائله إلى صحبه ورسائل صحبه إليه. فهذه مصادر علمي أقدمها بين يدي هذا الحديث؛ ليعرف قارئه أين مكانه من الصدق ومنزلته من الحق، على أن الذاكرة خئون، وما يمر على فكر الإنسان من مختلف الحوادث وصروف الأيام ينسيه أو يلهيه أو يخلط في معلوماته شيئا بشيء، فمن كان يعرف شيئا من تاريخ الرافعي ورأى أني تصرفت فيه بنقص أو تغيير أو تبديل، فليجعلني عنده بمنزلة من حسن الظن، والله أسأل أن يجنبني الخطأ، وأن يوفقني فيما أنا بسبيله.
محمد سعيد العريان
القاهرة في ربيع الأول سنة 1357/مايو سنة 1938
صورته
كان الرافعي رجلا كبعض من ترى من الناس، فلم يكن الناظر حين ينظر إليه ليلمح له امتيازا في الخلق يدل على نفسه أو عقله أو عبقريته.
بل قد يشك الناظر إلى وجهه في أن يكون وراء هذه السحنة وهذه الملامح نبوغ أو عبقرية أو فكر سام!
وجه ممسوح مستطيل، أقرب إلى بياض أهل الشام منه إلى سمرة أهل مصر، في وجنتيه احمرار دائم قد ترى مثله في شفتيه، وله عينان كأنما ينظر بهما إلى نفسه لا إلى الناس، فما ترى لهما بريقا في عينيك، ولا تسمع لهما همسا في نفسك، وجبهة عريضة تبدأ فوق الحاجبين غائرة نوعا ما، ثم تبرز مقوسة قليلا إذا اقتربت من فروة الرأس، وأذنان فيهما كبر ما، ولكنهما لا تؤديان عملا ولا تنقلان إليه معنى، ومن ذلك كان قليل التلفت في مجلسه، وأنف طويل مستدق من أعلاه منتفخ من أسفله، وكأنما صنعت له شفتاه ابتسامته الدائمة، فلا ترى فمه مغلقا إلا رأيته كأنما يحاول أن يحبس ابتسامة هاربة، وتحمل شفته شاربا كثيفا أشمط، تحيفته الأيام من أطرافه فتصاغر طرفاه بعد استعلاء وكبر ...
وصوت عال رفيع النبرات ليس له لون ولا معنى، تسمعه على أي أحواله كما تسمع صراخ الطفل، له عذوبته وتطربيه، ونغمة الحزن ونغمة الفرح عنده سواء!
وقامة رياضية متناسبة بريئة من الفضول، لا يشينها طول ولا قصر، ولا سمن ولا نحافة.
وكان أشمط خفيف شعر الرأس، حليق اللحية، دقيق الحاجبين، عريض المنكبين، غليظ العنق، قوي الكف والساعد؛ مما كان يعالج من تمرينات الرياضة.
تلقاه في الطريق في يده عصا لا يعتمد عليها، ولكنه يهزها في يمينه إلى أمام ووراء، ويتأبط بيسراه عديدا من الصحف والمجلات والكتب، ماشيا على حيد الطريق لا يميل، واسع الخطو لا يتمهل، ناظرا إلى الأمام لا يتلفت إلا حين يهم باجتياز الطريق.
تلك صفاته الجسمية التي واراها التراب كما لا تزال في ذاكرتي، أما صورته العقلية، أما حياته، أما أيامه على هذه الأرض منذ كان إلى أن زال، فذلك ما سأجلوه في الفصول التالية إن شاء الله.
نسبه ومولده
الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن، فأسرته من «طرابلس الشام»، يعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه، ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن، وهو في وطنيته «مسلم»، لا يعرف له أرضا من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: وطني؛ فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم، فأنت لم تكن تسمعه يقول: «الوطنية المصرية ...» أو «الوطنية السورية ...» أو «الوطنية العراقية ...» إلا كما تسمع أحدا يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتا من البلاد والمدائن، وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم: هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية، وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر، ينتظمها جميعا كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديدا من البلاد.
وكثيرا ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر،
1
فما يجدون مغمزا ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته، وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظا حينا وساخرا حينا آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهمونني في مصريتي؛ لأني في زعمهم غير مصري، وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟ ... وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومتى استوطن هذا الوطن ...؟
ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة 1230ه بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين - رضي الله عنه - في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين.
وأول وافد إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة 1243ه (قريب من سنة 1827م)؛ ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان العثماني في الأستانة، وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنفية في القضاء الشرعي بمصر، ولم يعقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه، فليس في مصر أحد من ولده، ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة،
2
فتوافد إخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلمون مذهب أبي حنيفة، حتى آل الأمر من بعد أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضيا في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي، وقد تنبه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.
وقد تخرج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر، ومن تلاميذهما الأدنين المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق.
ولما توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلا زاهدا ورعا فيه تحرج وخشية، فلم يجد في نفسه هوى إلى قبول هذا المنصب؛ تحرجا من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس ... فلما بلغته دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه هم، وهو يدعو الله ألا يئول إليه هذا الأمر ضنا بدينه ومروءته ... وتمت مراسيم التولية وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة «مفتي الدولة»، ثم نزل إلى عربته فركبها عائدا إلى داره وهو يتمتم ويدعو، فلما بلغ الدار نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد ... واستجاب الله دعاءه ...!
وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرازق الرافعي، كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخا اشتغلوا كلهم بالقضاء من ولد المرحوم الشيخ سعيد الرافعي، وكان آخر أمر الشيخ عبد الرازق رئيسا لمحكمة طنطا الشرعية، وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودفن، وفيها أقام المترجم وإخوته من بعد في بيت أبيهم، فاتخذوا طنطا وطنا ومقاما، لا يعرفون لهم وطنا غيرها، ولا يبغون عنها حولا، ولقد حاولت وزارة العدل (الحقانية) أكثر من مرة أن تنقله إلى غير طنطا، فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل؛ حتى لا يفارق البلد الذي فيه رفات أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي.
3
وكان الشيخ عبد الرازق رجلا ورعا له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما معاصروه من شيوخ طنطا.
حدثني نسيب قال: «كنت غلاما حدثا، وكان الشيخ عبد الرازق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الأجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحيانا في متجر جاره وصديقه المرحوم حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودرب الأثر يومئذ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية ، ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرازق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمر به رجل ينفث الدخان من فمه وبين أصبعه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرازق، حتى اندفع إليه، فانقض عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى «القسم»؛ لينال الحد على إفطاره في رمضان في شارع عام، وما أجدى رجاء الرجل ولا شفاعة الشفعاء، فسيق الرجل إلى القسم في «زفة» من الصبيان، ليتولى الشيخ حده بنفسه على إفطاره، وما كان القانون يأمر بذلك، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام.»
وحوادث الشيخ عبد الرازق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!
واسم «الرافعي» معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون، وأحسب أن هناك صلة ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي، وقد سألت الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول ما عرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله؛ فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيها له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.
والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتد به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.
وأم الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجرا تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان قد اتخذ مصر وطنا له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي، وكانت إقامته في بهتيم من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها ولد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة 1880م؛
4
إذ آثرت أمه أن تكون ولادتها في دار أبيها.
وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائما يحب أن يسند إليها الفضل فيما آل إليه أمره، وقد توفيت في أسيوط ودفنت بها، ثم نقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا.
علمه وثقافته
لأسرة الرافعي ثقافة يصح أن نسميها «ثقافة تقليدية»، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفا لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه، والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
1
وعلى هذه النشأة نشأ مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئا من القرآن، ووعى كثيرا من أخبار السلف، فلم يدخل المدرسة إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين، فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضيا إلى محكمة المنصورة، فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل.
ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة المعارف،
2
وكان يدرس له العربية، وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة، فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلا: «يا مصطفى، لا أحسب أحدا غيري وغير الله يقرأ خطك»، وقد ظل خط الرافعي رديئا إلى آخر أيامه.
وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه، فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم - وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة - وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالسا إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للرافعي حديث محدثه كتابة في ورقة، وإنا لكذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين؛ إذ نهض الرافعي واقفا، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل، يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة ... وإذا الرافعي يطأطئ له وينحني يهم أن يقبل يده، ثم عاد إلى مجلسه فمال علي يقول في همس: «هذا أستاذي مهدي خليل ...» وكان في صوته رنة هي أقرب إلى صوت الطفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يسر إليه ... ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت، بما فيه من طبيعة المرح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له، أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم. •••
وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهرا، وأحسبه كان التيفويد فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثرا كان حبسة في صوته ووقرا في أذنيه من بعد.
وأحس الرافعي آثار هذا الداء توقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيرا، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئا، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثا يتحدث وهو منطلق يعدو ... فإن صوته ليتضاءل شيئا بعد شيء، حتى فقدت إحدى أذنيه السمع ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس.
وامتد الداء إلى صدره فعقد عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معا، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة ...
وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ.
وحظ الرافعي من الشهادت العلمية مثل حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرازق الرافعي - على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيسا للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة «العالمية» حتى جاء إلى طنطا، ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض تسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء.
وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتا من نوادر كتب الفقه والدين والعربية، فأكب عليها إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه، فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد ... وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد ... وكان ضجيج الحياة بعيدا عن أذنيه ... وكان يحس في نفسه نقصا من ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية ... وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث ... وكان مشتاقا إلى السمع؛ ليعرف ماذا في دنيا الناس، فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس ... وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة؛ ليجد لذة المتحدث حين يتحدث ... وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني ...
وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيرا عليه وبركة، وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديبا من أدباء العربية في غد ...!
كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه هي دنياه التي يعيش فيها، ناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سماره، فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فما لفم، فنشأ بذلك نشأة السلف، يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم.
وإذ كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم، فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحيانا أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يقع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحيانا ويقول: «فلتكن أنت لي قاموس العامية ...»
وإذ كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما، فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وإخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكنه كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا منذ قريب.
ولم تجد على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل،
3
فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعا قويا، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، على أنه كان يأسف أحيانا على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ، وهيهات أن يجد مثل الرافعي فراغا من وقته!
هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل على هذا الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه، كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.
وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله، ثم لا يلبث أن يتناول كتابا مما بين يديه ويقول لمحدثه: «تعال نقرأ ...» وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة ...
وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب، وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر من طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب «ملازم» من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق، وفي القطار بين طنطا وطلخا «وبالعكس» استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد ...
في الوظيفة
في أبريل سنة 1899 عين الرافعي كاتبا بمحكمة طلخا الشرعية، بمرتب شهري أربعة جنيهات، وأعانه على الظفر بهذه الوظيفة ما كان لأبيه وأسرته من جاه في المحاكم الشرعية، وما كان الرافعي ليجهل جاه أبيه وأسرته في هذه المحاكم، وما كان منكورا لديه أن لهم يدا على كل قاض في القضاء الشرعي، فنشأ بذلك نشأة الدلال في وظيفته، لا يراها إلا ضريبة على الحكومة تؤديها إليه عمل أو لم يعمل؛ لمكانة أسرته من النفوذ والرأي، ولمكانته هو أيضا ...
ألم يكن يرشح نفسه ليكون أديب هذه الأمة؟ ... هكذا كان يرى نفسه من أول يوم، وظل كذلك يرى نفسه لآخر يوم ...
وكانت إقامته بطنطا في هذه الحقبة، فمنها مغداه وإليها مراحه في كل يوم، يتأبط حقيبة فيها غداؤه وفيها كتابه، وما كان أحد ليستطيع أن يلفته إلى ضرورة التبكير إن جاء في الضحى، أو يسأله الانتظار إذا دنا ميعاد القطار ولم يفرغ من عمله.
لم يكن يرى الوظيفة إلا شيئا يعينه على العيش؛ ليفرغ لنفسه ويعدها لما تهيأت له، فما انقطع عن المطالعة والدرس يوما واحدا، وما أكثر ما كان ينقطع عن وظيفته.
وقضى الرافعي في طلخا زمنا ما، ثم نقل إلى محكمة إيتاي البارود الشرعية، ثم إلى طنطا، وفي طنطا انتقل من المحكمة الشرعية إلى المحكمة الأهلية بعد سنين؛ لأنه رأى المجال في المحاكم الأهلية أوسع وأرحب، والعمل فيها أيسر جهدا وأكثر أجرا، وظل في محكمة طنطا الأهلية إلى يومه الأخير.
وحياة الرافعي في طلخا وإيتاي البارود وطنطا لا تخلو من طرائف، وتاريخه في الوظيفة حافل بالصور والمشاهد التي كان لها أثرها من بعد في حياته الأدبية، ففي طلخا عرف الكاظمي شاعر العراق الكبير واتصل به وانعقدت بينهما أواصر الود على ما سيأتي تفصيله، وفي إيتاي البارود تفتحت زهرة شبابه للحب وتعطشت نفسه إلى لذاته، وعلى «جسر كفر الزيات» فيما بين إيتاي البارود وطنطا مسته شعلة الحب المقدسة فكشفت عن عينيه الغطاء ليرى ويحس ويشعر ويكون «شاعر الحسن» من بعد، وفي طنطا كان نضجه وتمامه وإيناع ثمره.
وما أستطيع أن أصف بتفصيل واضح كيف كان يعيش الرافعي في تلك الأيام البعيدة، ولا كيف كانت صلته بالناس، ولكني أعرف أن روحا رفافة كانت تطيف به في تلك الأيام فتنتزعه من وجوده الذي يعيش فيه لتحلق به في أجواء بعيدة وتكشف له عن آفاق مجهولة لم يسمع بها ولم يعرفها، فتوحي إليه الشعور بالقلق وألم الحرمان والإحساس بالوحدة، فلا يجد متنفسا ينفس به عن نفسه غير الشعر، وكان ذلك أول أمره في الأدب، وإليه كان آخر ما يمتد أمله، فما كانت له أمنية إلا أن يكون شاعرا، شاعرا وحسب. •••
وعرف حبيبته الأولى «عصفورة» فتعلم الحب، ولكنه لم يتعلمه مما يسمع في مجالس الشبان كما يتعلم أبناء هذا الجيل من أكاذيب المنى التي يتداولونها في مجالسهم فيتعلمون الحب منها فنا له قواعد مرسومة وغاية محتومة ... لكنه استمع إلى وحي الحب أول ما استمع في همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وانفعال أعصابه، إلى ما كان للحب في نفسه من صورة مشرقة شائقة مما قرأ من أخبار العذريين من شباب العرب، فأحس كأن شيئا ينقصه فراح يفتقده، وشعر كأن إنسانة من وراء الغيب تناديه وتهتف باسمه في خلوة نفسه وجلوة خاطره تقول: ها أنا ذي ... فهام بالحسن ينشده شعره وينشد فيه مثاله الذي يدور عليه، وطار على وجهه كالفراشة الحائمة تقول لكل زهرة: أأنت التي ...؟ فلا يستمع إلى جواب، والصوت البعيد دائب يهتف في أذنيه: إنني هنا، إنني هنا يا حبيبي فاقصد إلي ...
لم يكن يحب إنسانة بعينها يناديها باسمها ويعرفها بصفتها، بل كانت محبوبته شيئا في نفسه وصورة من صنع أحلامه، يرى في كل وجه فاتن لمحة من جمالها، وفي كل طلعة مشرقة بريقا من فتنتها، وفي كل نظرة أو ابتسامة معنى من معاني الحبيبة النائمة في قلبه وفي أمانيه ... فمضى يتنقل من زهرة إلى زهرة، عفيف النظر والشفة واللسان، حتى انتهى أمره إلى أمر ...
لم ينس الرافعي إلى آخر أيامه ما كان من شأنه وشأن قلبه في صدر حياته، فكان دائم الحديث عن هذا العهد كلما رفت به سانحة من سوانح الماضي تذكره ما كان من أمره وما آل إليه من أمره.
ليس قصدي الآن أن أتحدث عن الحب في تاريخ الرافعي، فإن للحب في تاريخه فصلا ضافي الذيول كثير الألوان متعدد الصور له مكانه المفرد في غير هذا الباب، ولكني أتحدث عن الرافعي في بكرة الشباب، فما لي مندوحة عن الإلمام بما كان يصطرع في نفس الرافعي في بكرة الشباب. •••
عاش الرافعي لفنه ولنفسه من أول يوم، فما عاقته الوظيفة عن أن يكون كما أراد أن يكون، على أنه كان إلى اهتمامه بفنه وعنايته بما يكمله، وعلى أنه كان لا يرضى أن تتعبده قوانين الوظيفة، وتقيده أغلال النظام الحكومي، كان إلى ذلك دقيقا في عمله الرسمي دقة تبلغ الغاية، وكان إليه تقدير رسوم القضايا والعقود ونحوها مما يتصل بعمل المحكمة، فكان كاتبا حاسبا لا يفوته شيء مما يسند إليه، حتى آل أمره إلى أن يكون المرجع في هذا العمل لكتاب المحكمة جميعا يستفتونه فيما أشكل عليهم من الأمر في تقدير الرسوم، ثم لكثير من كتاب المحاكم في مختلف البلاد، ثم لوزارة العدل نفسها وهي المرجع الأخير، تكتب إليه في زاوية مكتبه من محكمة طنطا تسأله الرأي في حسبة أو إشكال أو شيء مما يتصل بذلك، فيكتب إليها بالرأي لتبلغه في منشور عام إلى كل المحاكم الأهلية.
وكان عليه كل العبء من هذه الناحية في محكمة طنطا، وقد طلب أكثر من مرة أن «يحال إلى المعاش»؛ ليتفرغ لفنه، فما كان يمنعه من المضي في طلبه إلا رجاء موظفي المحكمة وإلحاحهم عليه أن يبقى؛ لئلا يخلو موضعه.
وكان في صلته بموظفي المحكمة الذين يشركونه في عمله نبيلا كريم الخلق إلى حد بعيد ، فكان يتطوع ليحمل عنهم تبعة كل خطأ يقع فيه واحد منهم مهما كان الخطأ ونتيجته، وقد رأيته مرة في صيف سنة 1934 وقد لزمه مفتش من مفتشي وزارة العدل ثلاثة أشهر أو أكثر، يستجوبه عن خطأ في تقدير الرسوم لأكثر من مائة وعشرين قضية، بلغ النقص في الرسوم المتحصلة عنها بضعة وتسعين جنيها، والرافعي يرد المفتش ويدافعه ويرى له الرأي ويصف العلاج، والمفتش دائب على الحضور كل يوم يبحث ويفتش ويستقصي وما ضاقت به أخلاق الرافعي، على حين لم يكن على الرافعي في هذه القضايا المائة والعشرين خطأ واحد، وما كانت إلا أخطاء زملائه في المكتب حمل عنهم تبعتها؛ حتى لا يتعرضوا لشر هو أقدر منهم على الخلاص منه.
وكان من اعتداده بنفسه وحفاظه على كرامته بحيث لا يسمح لرئيس مهما علا منصبه وارتفع مكانه أن يجحد منزلته أو ينال منه أي نيل، وكان يسرف في ذلك إسرافا يدعو إلى الشك أحيانا في تواضع الرافعي وكرم خلقه وحسن تصرفه.
ومن ذلك أنه لما كان هذا المفتش يؤدي عمله في المحكمة - وعمله أن يحقق أخطاء الرافعي - كان الرافعي يلزم المفتش أحيانا أن يحضر هو نفسه إلى مكتبه في حجرته الغاصة بالموظفين ليسأله وهو جالس إلى مكتبه والمفتش واقف أو جالس على كرسيه إلى الطرف الثاني من المكتب، وكنت في إحدى هذه المرات جالسا إلى جانب الرافعي - وكان يستدنيني إليه ويشركني في عمله حين أذهب لزيارته في الديوان - فلما جاء المفتش هممت بالانصراف، فشد الرافعي ذراعي بعنف وهو يقول: اجلس يا أخي ... ووجه إليه المفتش سؤالا، فالتفت الرافعي إلي قائلا: «من فضلك، تول عني جوابه؛ فإنه في حاجة إلى معلم مثلك!»
لم يكن اعتداد الرافعي بنفسه يبلغ به مثل هذا الشذوذ في كل أحواله، وإنما كان كذلك مع هذا المفتش بخاصته، لأسباب يأتي تفصيلها.
وكان من تقاليد المحكمة كلما نقل إليها قاض أو نائب جديد، أن يهرع إلى مكتبه موظفو المحكمة يهنئونه ويتمنون له، ولكن الرافعي كان يتخلف عن وفد الموظفين ويظل وحده في مكتبه، فإذا فرغ القاضي أو النائب من استقبالهم مضى إلى مكتب الرافعي في حجرته، فيقفان لحظة يتبادلان الشكر والتهنئة على هذا الاتفاق الذي هيأ لهما هذا التعارف ... ثم يذهب إليه الرافعي بعد ذلك في مكتبه؛ ليشكر له ويكرر التهنئة.
حتى مدير المديرية - ومحكمة طنطا هي جزء من ديوان المديرية - لم تكن صلته بالرافعي صلة المدير الحاكم بموظف صغير، فكانت بين الرافعي وكثير من المديرين صلات من الود والصداقة فوق ما يعرف من الصلات بين الموظفين، ولكن منهم رجلا واحدا كان أقرب قرابة إلى الرافعي من أهله ومن خاصته ومن تلامذته ... وهو المرحوم «محمد محب باشا» أقدر مدير عرفته مديرية الغربية منذ كانت مديرية، وكان للصلة بين الرافعي ومحب باشا أثر كبير في أدبه سنتحدث عنه فيما بعد.
لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحيانا كان يذهب في التاسعة أو في العاشرة، أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته، فيجلس في هذا المتجر وقتا ما، وعند هذا الصديق وقتا آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف؛ لينظر فيما اجتمع عليه من العمل في غيبته، وقد لا يعود ...
وكان هذا منه يغضب زملاءه في العمل، فكانوا ينفسون عليه ويأكلون لحمه، ويبلغه ما يتحدثون به فيهز كتفه ويسكت، ثم لا يمنعه ذلك من بعد أن يأخذ بيدهم عند الأزمة، وكان كتبة المحامين وأصحاب المصالح في المحكمة يسمونه بذلك عمدة المحكمة ...!
وحدث ذات مرة والرافعي في صدر شبابه، أن جاء إلى محكمة طنطا رئيس شديد الحول، فلما صعد إليه موظفو المحكمة للتهنئة، لم يجد بينهم الرافعي، فلما سأل عنه تحدث الموظفون في شأنه ما تحدثوا، فاستاء الرئيس وأرسل يدعوه إليه، فلم يجده الرسول في مكتبه، فغضب الرئيس وثارت ثائرته، وأمر باستجوابه عن الاستهانة بنظام المحكمة ومواعيد العمل الرسمي، وجاء الرافعي فبلغه ما كان، فهز منكبه وجلس إلى مكتبه يمزح ويتحدث على عادته كأن لم يحدث شيء، ورفع الرئيس كتابا إلى وزارة العدل يبلغها أن في محكمة طنطا كاتبا أطرش، لا يحسن التفاهم مع أصحاب المصالح، على شدة اتصال عمله بالجمهور، وهو مع ذلك كثير التهاون بنظام المحكمة ومواعيد العمل، ولا يخضع للرأي ... وطلب الرئيس في آخر كتابه إقالة الرافعي من الخدمة!
وأرسلت وزارة العدل مفتشها لتحقيق هذه الشكوى، ليري رأيه فيما طلبته محكمة طنطا، وكان المفتش المندوب لذلك هو الشاعر اللبق الظريف المرحوم حفني ناصف بك، ولم تكن بين الرافعي وحفني ناصف صلة ما إلي هذا الوقت، إلا ذلك النسب البعيد الذي يجمع بينهما في أسرة أبولون ... وإلا ... وإلا كلمة قاسية كان الرافعي كتبها بأسلوبه اللاذع عن «شعراء العصر» في سنة 1905 ونشرها في مجلة الثريا وجعل فيها حفني ناصف ذيل الشعراء ...
وجاء حفني ناصف إلى الرافعي فحيا وجلس، وبسط أوراقه ليحقق ... وقال الرافعي: «قل لهم في الوزارة: إن كانت وظيفتي هنا للعمل، فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يسند إلي من عمل، وإن كانت الوظيفة: تعال في الساعة الثامنة، واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل حتى يحين موعد الانصراف، فلا علي إن تمردت على هذا التعبد ... قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هاتين الإصبعين ساعات من النهار ...!»
واستمع الأديب الشاعر إلى حجة الأديب الشاعر ثم طوى أوراقه وحيا صاحبه ومضى، فلما كان في خلوته، كتب تقريره إلى وزارة العدل يقول: إن الرافعي ليس من طبقة الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود ... إن للرافعي حقا على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية، إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، واتركوه يعمل ويفتن ويبدع لهذه الأمة في آدابها ما يشاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش الرخي في غير هذا المكان ...!
وبلغ التقرير وزارة العدل، وانطوت القضية، وصار تقليدا من تقاليد المحكمة من بعد أن يغدو الرافعي ويروح لا سلطان لأحد عليه وله الخيرة في أمره، ولكنه مع ذلك لم يهمل في واجبه قط، ولم ينس يوما واحدا أنه في موضعه ذلك بحيث يرتبط به كثير من مصالح الجمهور.
قلت: إن الرافعي لم تكن بينه وبين حفني ناصف صلة ما، ولكن حفني تولى القضاء بعد ذلك مرة أو مرتين في محكمة طنطا، فتقاربا وتوثقت بينهما أواصر الود، وكانت طنطا في ذلك الوقت حلبة من حلبات الشعر والأدب، فلا يمضي أسبوع حتى يقدم إليها أديب أو شاعر لزيارة الشاعرين: حفني والرافعي، فيقوم للشعر سوق ومهرجان، وكان بين الرافعي وحفني من التقارب في الصفات ما يؤكد هذه الصلة ويوثق هذا الود؛ فكلاهما شاعر، وكلاهما من دعاة القديم، وكلاهما أديب مرح يجيد الدعابة ويستجيد النكتة البكر، وإن كانت فكاهة حفني أظهر وأبعث على الضحك وتكشف عن فراغ القلب، وفكاهة الرافعي أعمق وأدل على قصد العبث والسخرية وامتلاء النفس، ولعل روح الفكاهة في الرافعي كان لها شأنها فيما كان بينه وبين المرحوم حافظ إبراهيم من صلة الود والإخاء.
حدثني المرحوم جورج إبراهيم - صديق الرافعي وصفيه منذ حداثته - قال: لقد كانت الصلة بين الرافعي وحفني أكثر مما يكون بين الأصدقاء، وكانا يتزاوران كثيرا، أو يجتمعان في قهوة «اللوفر» بميدان الساعة، وكنت أغشى مجلسهما أحيانا، فكنت أرى حفني يتواضع للرافعي ويتصاغر في مجلسه، على مقدار ما يتشامخ الرافعي ويتكبر ويدعي الأستاذية، حتى ليرى له الرأي في القضايا التي لم يدرسها حفني بعد، فلا يحكم فيها إلا بما حكم الرافعي!
ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية، وما تقتضيه شئون الأدب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود ... وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيها في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة ...
على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، هو ثمن ما كان يبيع من كتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي، وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، أو فرضها أصحاب الحاجات على أنفسهم التماسا لرضاه!
ليت شعري! أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذلك ...؟
شاعر الحسن
كلف الرافعي بالشعر من أول نشأته، فما كان له هوى إلا أن يكون شاعرا كبعض من يعرف من شعراء العربية، أو خيرا ممن يعرف من شعراء العربية ... وكان واسع الأمل، كبير الثقة، عظيم الطموح، كثير الاعتداد بالنفس، فمن ثم نشأ حبارا عريض الدعوى طويل اللسان من أول يوم ... وبهذه الكبرياء الأدبية الطاغية، وبما فيه من الاستعداد الأدبي الكبير، وبما في أعصابه من دقة الحس وسرعة الاستجابة لما تنفعل به؛ بكل أولئك تهيأ لأن يكون كما أراد، وأن يبلغ بنفسه هذا المكان بين أدباء العربية.
وإذا كان الرافعي قد بدأ شاعرا كما أراد، فما كانت له خيرة في المذهب الذي آل إليه من بعد، ولكنها نوازع الوراثة، وعوامل البيئة، ودوافع الحياة التي كانت تضطرب به وتذهب به مذاهبها.
لم يكن الرافعي يقدر في أيام نشأته الأولى أنه سينتهي من الأدب إلى هذه الغاية، وأن الحياة سترده من الهدف الذي يسعى إليه في إمارة الشعر إلى هذا الهدف الذي انتهى إليه في ديوان الأدب والإنشاء، وما كان أحد من خاصته وأصدقائه ليعرف أن الرافعي الشاعر الشاب الذي توزعته الصبابة، وفتنته الحياة، وتقاسمته لذات الصبا، وتعناه الهوى، وتصباه الحب والشعر والشباب، سيكون مكانه في غده هذا المكان في الدفاع عن الدين والذود عن العربية والصيال في سبيل الله، وما كان هو يأمل في مستقبله إلا أن يكون شاعرا تصير إليه في إمارة الشعر منزلة تخمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره.
ومضى الرافعي يسعى إلى غايته في الشعر وقد تزود زاده من الأدب القديم، ووعى ما وعى من تراث شعراء العربية، وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يمتد إليهما طرفه ويتعلق بهما أمله، هما: البارودي، وحافظ. أما أولهما فكانت له زعامة الشعر، على مفرقة تاجه وفي يده صولجانه، قد قوي واستحصد واستوى على عرشه بعد جهاد السنين ومكابدة الأيام، وأما الثاني فكان في الشباب والحداثة، وكان جديدا في السوق، قد فتنته الشهرة وفتنت به من حوله، فأخذ الرافعي ينظر إليه وإلى نفسه، ويوازن بين حال وحال، ويقايس بين شعر وشعر، فقر في نفسه أنه هو وهو ... وأنهما في منزلة سواء، وأنه مستطيع أن يبلغ مبلغه ويصير إلى مكانه إذا أراد، فسار على سنته وجرى في ميدانه، لا يكاد حافظ يقول: أنا ... حتى يقول الرافعي: أنا وأنت ... وما فاته أن حافظا يغالبه بالشهرة السابقة، ويطاوله بالجاه والأنصار، ويفاخره بمكانته من الأستاذ الإمام، وبمنزلته عند البارودي زعيم الشعراء، وبحظوته عند الشعب، فراح الرافعي يستكمل أسباب الكفاح ويستتم النقص، فأكد صلته بالبارودي، وعقد آصرة بينه وبين الأستاذ الإمام، ومضى يتحدث في المجالس وينشر في الصحف، ويذيع اسمه بين الناس، وانتهز نهزة فذهب يستطيل بأنه «شاعر الحسن» وبأن حافظا لا يقول في الغزل والنسيب ...!
كانت المنافسة بينه وبين حافظ منافسة مؤدبة كريمة، لم تعكر ما بينهما من صفو المودات، ولم تجن على صداقتهما القوية، فظل الرافعي وحافظ صديقين حميمين، منذ تعارفا في سنة 1900 إلى أن قضى حافظ - رحمه الله - في سنة 1932.
ليس من همي أن أتحدث عن شعر الشاعرين، أو أقايس بين فن وفن، وشاعرية وشاعرية، فقد يبدو لي هنا بعد ما بين المنزلتين في الموازنة بين الرافعي وحافظ في الشعر، وما يهمني في هذا الحديث إلا إثبات الصلة بين الرجلين، فمن أراد شيئا وراء هذا فسيجد فيما أثبته هنا مقدمات البحث وهيكل البناء. •••
في إبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئا من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فنا ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغا، وقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به؛ ليصل به حبله ويقتبس من أدبه، وكان الرافعي يومئذ كاتبا بمحكمة طلخا، ففارق عمله بغير إجازة، وسعى إلى لقاء الكاظمي في القاهرة وهو يمني نفسه بأن يكون بينهما من الود ما يرفع من شأن الرافعي ويجدي على أدبه، وكان في الكاظمي - رحمه الله - أنفة وكبر ... فأبى على الرافعي أن يلقاه ورده ردا غير جميل؛ إذ كان الرافعي يومئذ نكرة في الأدباء، وكان الكاظمي ما كان في علمه وأدبه وشهرته وكبريائه، مع خلته وفقره، واصطدمت كبرياء بكبرياء، وثار دم الرافعي وغلى غليانه، فذهب من فوره فأنشأ مقالة - أو قصيدة، لا أذكر - نال فيها من الكاظمي ما استطاع أن ينال بذمه والزراية عليه والغض من مكانته، وما كان الرافعي مؤمنا بما كتب، ولكنه قصد أن يلفت الشاعر إليه بالإنذار والتخويف، بعد ما عجز أن يبلغ إليه بالزلفى والكرامة.
وفعلت هذه الكلمة فعلها في التقريب بين الأديبين، فاتصل الرافعي بالكاظمي وصفا ما بينهما وأخلصا في الوداد والحب حتى لم يكن بينهما حجاب، وحتى صار الرافعي أصفى أصفياء الكاظمي، وصار الكاظمي أشعر الشعراء المعاصرين عند الرافعي، ثم ارتفعت الصلة بينهما عما يكون بين التلميذ والأستاذ، وتصادقا صداقة النظراء، حتى إنه لما هم الكاظمي أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905، كتب كتابا إلى الرافعي يقول فيه: ... ثق أني أسافر مطمئنا وأنت بقيتي في مصر.
هؤلاء الثلاثة: البارودي، وحافظ، والكاظمي، هم كل من أعرف ممن تأثر بهم الرافعي من شعراء عصره، أما شوقي، وصبري، ومطران، وغيرهم ممن نشئوا مع الرافعي في جيل واحد، فلا أعرف بينه وبين أحد منهم صلة تمتد إلى أيامه الأولى، وما سمعت منه - رحمه الله - حديثا يشعر بصلة خاصة كانت تربطه بواحد منهم في حداثته، فلعل عند غيري من أهل الأدب علما من العلم يكمل هذا النقص ويسد هذه الخلة. •••
بدأ الرافعي يقول الشعر ولما يبلغ العشرين من عمره، ينشره في الصحف وفي مجلات السوريين التي تصدر في مصر، وكانت المجلات الأدبية كلها إلى ذلك الوقت في أيديهم، فمجلة الضياء، والبيان، والثريا، والزهراء، والمقتطف، وسركيس، والهلال، وغيرها، كان يقوم عليها كلها جماعة من أدباء سورية: كالبستاني، واليازجي، وصروف، وجورج زيدان، وسليم سركيس، وغيرهم، وكانت إليهم الزعامة الأدبية في اللغة والأدب الوصفي والتاريخ، أما أدب الإنشاء فكان قسمة بينهم وبين أدباء مصر.
والآن أدع لصديقي الأديب المرحوم جورج إبراهيم حنا أن يتحدث عن الرافعي في أول عهده بالشعر، قال: «بدأت صلتي بالمرحوم الرافعي قريبا من سنة 1900، كنت يومئذ أقول الشعر، وكان اسمي معروفا لقراء مجلة الثريا، ولم أكن أعرف الرافعي أو أسمع به، وكان لأخيه الوجيه سعيد الرافعي متجر في شارع الخان بطنطا، يستورد إليه النقل والفواكه الجافة من الشام، وكنت زبونه، فذهبت يوما أشتري شيئا من فاكهة الشام؛ إذ كان له بها شهرة، فلما صرت إليه، لقيت هناك فتى نحيلا في العشرين من عمره، يلبس جلبابا، جالسا إلى مكتب في المتجر قريب من الباب، فما رآني الفتى حتى ناداني فدعاني إلى الجلوس، ثم قال لي: أتعرف أني شاعر؟ قلت: لا، لست أعرف، قال: أنا مصطفى صادق الرافعي، وهذه الكراسات كلها من شعري، وعرض علي بضعة دفاتر كانت على المكتب، ثم استأنف قائلا: ولكنه شعر الحداثة فهو لا يعجبني، سأختار أجوده وأمزق الباقي، وسأطبع ديواني بعد قليل فتعرفني ...!»
قال: «وعرفت الرافعي من يومئذ، وقويت بيننا الصلة حتى صرت أدنى أصدقائه إليه، يقرأ علي شعره، ويستمع إلى رأيي فيه، ويستشيرني في أمره، وقد كان أوله كآخره، فما لبثت حتى أعجبت به وأحللته من نفسي أرفع محل من الحب والتقدير.» •••
ظل الرافعي يقول الشعر لنفسه، أو ينشر منه في المجلات الأدبية، أو يقرؤه على أصدقائه، وأصدقاؤه يومئذ صفوة من شباب السوريين في طنطا، منهم: الأديب جورج إبراهيم، والصيدليان: نسيم يارد، وإلياس عجان، والطبيب تودري: وكانوا يتخذون مجلسهم عادة في وقت الفراغ في صيدلية «كوكب الشرق» بطنطا.
فلما كانت سنة 1903، وعمر الرافعي يومئذ ثلاث وعشرون سنة، نشر حافظ إبراهيم ديوانه، وقدم له بمقدمة بليغة كانت حديث الأدباء في حينها، وطال حولها الجدل حتى نسبها بعضهم إلى المويلحي، واستقبل الأدباء ديوان حافظ ومقدمة ديوانه استقبالا رائعا، وعقدوا له أكاليل الثناء، والرافعي غيور شموس، فما هو إلا أن رأى ما رأى حتى عقد العزم على إصدار ديوانه، وما دام حافظ قد صدر ديوانه بهذه المقدمة التي أحدثت كل هذا الدوي، فإن على الرافعي أن يحاول جهده ليبلغ بديوانه ما بلغ حافظ، وإن عليه أن يحمل الأدباء على أن ينسوا بمقدمته مقدمة ديوان حافظ!
وصدر الجزء الأول من ديوان الرافعي في الموعد الذي أراد بعيد ديوان حافظ بقليل، وقدم له بمقدمة بارعة فصل فيها معنى الشعر، وفنونه ومذاهبه وأوليته، وهي - وإن كانت أول ما نعرف مما كتب الرافعي - تدل بمعناها ومبناها على أن ذلك الشاب النحيل الضاوي الجسد، كان يعرف أين موضعه بين أدباء العربية في غد، وإذا كانت مقدمة ديوان حافظ قد ثار حولها من الجدل ما حمل بعض الأدباء على نسبتها إلى المويلحي، فقد حملت هذه المقدمة الأديب الناقد الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي على الشك في أن يكون كاتبها من ذلك العصر، مما يخادع نفسه في قدرة الرافعي على كتابتها.
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لما هم الرافعي أن يكتب مقدمة ديوانه، جاء إلي في جلبابه والحر شديد، فحدثني من حديثه، ثم سألني أن أهيئ له مكانا رطبا يجلس فيه ليكتب المقدمة، فجلس في غرفة من الدار، ثم تخفف من لباسه ... واقتعد البلاط بلا فرش، وبسط أوراقه على الأرض وتهيأ للكتابة، فحذرته أن تنال منه رطوبة البلاط في مجلسه الطويل، فقال: لا عليك يا جورج، إني لأحب أن أحس الرطوبة من تحتي ... فينشط رأسي ... ثم استمر في مجلسه يكتب وليس معه ولا حواليه من وسائل العلم إلا قلمه وأوراقه، حتى فرغ من المقدمة في ساعات ...»
قال: «فلما تم طبع الديوان أهدى نسخة منه فيما أهدى إلى العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، والشيخ اليازجي يومئذ أديب العصر وأبلغ منشئ في العالم العربي، وكان الرافعي حريصا على أن يسمع رأي اليازجي في شعره وأدبه، ومضى زمان ولم يكتب اليازجي، على حين تناولت كل الصحف والمجلات ديوان الرافعي ومقدمته بالنقد أو التقريظ، واحتفل به «المؤيد» احتفالا كبيرا فنشر مقدمته في صدره، والمؤيد يومئذ جريدة العالم العربي كله.»
قال: «واستعجبت أن يهمل أستاذنا اليازجي هذا الديوان فلا يكتب عنه، واغتم الرافعي غما شديدا؛ إذ كان كل ما يكتب الأدباء في النقد لا يغني عن كلمة يقولها اليازجي، فذهبت أسأله، فقال لي: أنت على ثقة أن هذه المقدمة من إنشاء الرافعي؟ قلت: هو كتبها بعيني فما أشك في ذلك، قال اليازجي: وأنا ما أبطأت في الكتابة عن الديوان إلا من الشك في قدرة هذا الشيخ على إنشاء مثل هذه المقدمة، فأنا منذ أسبوعين أبحث عنها في مظانها من كتب العربية ... قلت: يا سيدي، إنه ليس بشيخ، إنه فتى لم يبلغ الثالثة والعشرين ...»
وكتب اليازحي بعد ذلك في عدد يونيو سنة 1903 من مجلة الضياء في تقريظ الجزء الأول من ديوان الرافعي ما يأتي: ... وقد صدره الناظم بمقدمة طويلة في تعريف الشعر، ذهب فيها مذهبا عزيزا في البلاغة، وتبسط ما شاء في وصف الشعر وتقسيمه وبيان مزيته، في كلام تضمن من فنون المجاز وضروب الخيال ما إذا تدبرته وجدته هو الشعر بعينه ...
ثم انتقد اليازجي بعض ألفاظ في الديوان، وعقب عليها بقوله: «... على أن هذا لا ينزل من قدر الديوان وإن كان يستحب أن يخلو منه؛ لأن المرآة النقية لا تستر أدنى غبار، ومن كملت محاسنه ظهر في جنبها أقل العيوب، وما انتقدنا هذه المواضع إلا ضنا بمثل هذا النظم أن تتعلق به هذه الشوائب، ورجاء أن يتنبه إلى مثلها في المنتظر، فإن الناظم كما بلغنا لم يتجاوز الثالثة والعشرين من سنيه، ولا ريب أن من أدرك هذه المنزلة في مثل هذه السن، سيكون من الأفراد المجلين في هذا العصر، وممن سيحلون جيد البلاغة بقلائد النظم والنثر.»
1
بلغ الرافعي بالجزء الأول من ديوانه مبلغه الذي أراد، واستطاع بغير عناء كبير أن يلفت إليه أنظار أدباء عصره ، ثم استمر على دأبه ، فأصدر في سنة 1904 الجزء الثاني من الديوان، وفي سنة 1906 أخرج الجزء الثالث، وفي سنة 1908 الجزء الأول من ديوان النظرات، ومضى على سنته، معنيا بالشعر، متصرفا في فنونه، ذاهبا فيه مذاهبه، لا يرى له هدفا إلا أن يبلغ منزلة من الشعر تخلد اسمه بين الشعراء العربية.
وتألق نجم الرافعي الشاعر، وبرز اسمه بين عشرات الأسماء من شعراء عصره براقا تلتمع أضواؤه وترمى أشعتها إلى بعيد، ولقي من حفاوة الأدباء ما لم يلقه إلا الأقلون من أدباء هذه الأمة، فكتب إليه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يقول: «... أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفا يمحق به الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل.»
وكتب المرحوم الزعيم مصطفى كامل باشا يقول: «... وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي، قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان.»
وكتب حافظ، وقال البارودي، ونظم الكاظمي، وتحدث الأدباء والشعراء ما تحدثوا عن الرافعي الشاعر، وظل هو على مذهبه ذاك حتى سنة 1911، ثم تطورت به الحياة، وانفعلت أعصابه بأحداث الأيام، فانحرف عن الهدف الذي كان يرمي إليه من الشعر، وتوجه وجهة جديدة في الأدب سنتحدث عنها بعد.
ليس كل شعر الرافعي في دواوينه، وليس كل ما في دواوينه يدل على فنه وشاعريته، فالجيد الذي لم ينشر من شعر الرافعي أكثر مما نشر، وقد كان في نية الرافعي لو أمهلته المنية أن يتبرع لشعراء اليوم بأكثر ما في دواوينه، ثم يخرج منها ومما لم ينشر ديوانا واحدا مهذبا مصقولا، ليقدمه هدية منتقاة إلى الأدباء والمتأدبين، ولكن الموت غاله فبطل أمله وبقي عمله تراثا باقيا لمن يشاء أن يسدي يدا إلى العربية يتم بها صنيع الرافعي.
لم ينقطع الرافعي عن الشعر بعد تلك الفترة، ولكنه لن يقتصر عليه، وسنتحدث عن ديوان الرافعي الذي لم ينشر حين تحين الفرصة للحديث عن أعماله الناقصة.
شعراء عصره
قدمت الحديث عن شيوخ الرافعي في الشعر الذي أخذ عنهم أو اقتفى آثارهم أو جرى معهم على سنن، وأثبت ما كان بينه وبين حافظ من المنافسة، وما كان يتمتع به حافظ يومئذ من الشهرة والجاه والحظوة عند الشعب، تلك الشهرة التي ألهبت غيرة الرافعي وحفزته إلى الكفاح وحمسته إلى استكمال أسباب الغلبة، بعقد الأواصر وإنشاء المودات والدعاية لنفسه، ثم بينت ما كان بين الرافعي والكاظمي من صلة الحب والتقدير، وتساءلت في آخر القول: هل من الصلة بين الرافعي ويبن غير هؤلاء الثلاثة من شعراء الجيل؟ هل كان لغير البارودي وحافظ والكاظمي من شعراء العصر أثر في شعر الرافعي؟ وما مبلغ هذا الأثر؟ وما نتيجته؟ على أن الباحث لا يقنعه هذا التساؤل، وليس يكفيه من وسائل البحث أن يعلم من شعراء العصر هؤلاء الثلاثة فحسب، ولقد نشأ الرافعي الشاعر في أول هذا القرن وأوله حافل بثلة من الشعراء لم يجتمع مثلهم في زمان في بلد، فما مبلغ تأثر الرافعي بكل أولئك الشعراء المعاصرين؟
هنا أدع للرافعي نفسه أن يتحدث عن شعراء عصره، وما حديثه هذا إلا طرف من الدعاية التي كان يقوم بها لنفسه في أول عهده بالشعر؛ ليبلغ المنزل الذي يطمح إليه، وإنه ليكشف عن شيء من خلق الرافعي وكبريائه واعتداده بنفسه، ويدل على قوة الرافعي وعنفوانه وشدته في النقد؛ إذ كان هذا الحديث أول ما كتب الرافعي في النقد.
إن أدباء العربية عامة لا يعرفون من الخصومات الأدبية أشهر شهرة من الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره، فالخصومة بين الرافعي وطه، ويبن الرافعي والعقاد، وبين الرافعي وعبد الله عفيفي، وبينه وبين غير هؤلاء، هي خصومة مشهورة مذكورة في موضعها من تاريخ الأدب العربي في هذا الجيل، مشهورة مذكورة في موضعها في تاريخ النقد في العربية.
وإن قراء العربية عامة ليعرفون الرافعي الناقد معرفة بصيرة، ويعرفون شدته وعنفوانه في النقد، شدة حببته إلى الكثير، وألبت عليه الكثير، على أن من يريد أن يعرف أول شأن الرافعي في النقد فليقرأ مقال الرافعي «شعراء العصر في سنة 1905». •••
نشر الرافعي مقاله ذاك في عدد يناير سنة 1905 من مجلة الثريا بتوقيع (⋆)
وأحسبه أخفى اسمه وراء هذا الرمز حذر التهمة، وليبلغ به مبلغه من الدعاية لنفسه فقد جعل نفسه في الشعراء رابع الطبقة الأولى من طبقات ثلاث تنتظم كل من يعرف الرافعي من شعراء عصره، جعل الطبقة الأولى منهم على الترتيب: الكاظمي، والبارودي، وحافظ، والرافعي ...
والطبقة الثانية على الترتيب: صبري، وشوقي،
1
ومطران، وداود عمون، والبكري، ونقولا رزق الله، وأمين الحداد، ومحمود واصف، وشكيب أرسلان، ومحمد هلال إبراهيم، ثم ... حفني ناصف!
وفي الطبقة الثالثة: الكاشف، والمنفلوطي، ومحرم، وإمام العبد، والعزبي، ونسيم.
ثم ألحق بهؤلاء اثنين يعرفهما من شعراء العراق، هما: السيد إبرهيم، ومحمد النجفي.
وقد افتتح الرافعي مقاله بما يأتي:
قرأت في بعض أعداد «الثريا» كلمة عن «الأدب قديما وحديثا» فقلت: كلمة مألوفة، ولم ألبث أن رأيت جملة أخرى لأديب غيور على الشعراء، كان رأس الشعر بين أولها وآخرها كأنما شدخ بين حجرين، فقلت: إني أنظم الشعر فأسر، وأقرأ عنه فأسر، فما لي لا أنفثها والقوم قد أصبحوا يتنافسون في أسماء الشعراء كما يتنافسون في ألقاب الأمراء، وقد استويا في الزور، فلا أكثر أولئك شاعر ولا أكثر هؤلاء أمير!
ثم رأيت بعد أن عزم الله لي كتابة هذا المقال أن أتركه بغير توقيع، وإن كنت أعلم أن أكثر من يقرءونه كذلك سيخرجون من خاتمته كما لو كانوا أميين لم يقرءوا فاتحته، فإن الحكمة كلها والمعرفة بجميع طبقاتها أصبحت في أحرف الأسماء، فإن قيل: كتاب لفلان ... قلنا: أين يباع، وإن كان من سقط المتاع، على أن اسمي قد لا يكون في غير بطاقتي وكتبي إلى أصحابي القليلين، وفي سجل بعض الجرائد والمجلات، فليظنني القارئ ما ضرب على رأسه الظن ...
وسأذكر في هذه الأسطر كل من عرفته أو اتصل بي اسمه من الشعراء، وأقطع عليه رأيي، فإما وسعه فكمل به، وإما أظهره كما هو في نفسه، لا كما هو عند نفسه، ولذلك فقد ضممتهم إلى ثلاث طبقات، وجاريت في تسمية بعضهم بالشعراء عادتنا المألوفة.
ثم كتب رأيه بعد ذلك في كل شاعر ممن ذكرت مقتبسا من شعره مستشهدا به على ترتيبه في موضعه من طبقته.
وكان مما قاله عن صديقه ومزاحمه حافظ: «... وأكثر شعره في هذه الأيام (سنة 1905) أضعف من قبل ... والذين لم تستقم ألسنتهم ولم تزل أفكارهم على سقم يقولون: إن شعر حافظ اليوم خير منه في ديوانه الأول؛ وذلك لأنهم لا يدركون موقع الخيال الشريف، ولا يهتزون للمعنى البكر إلا في اللفظ الثيب، وهؤلاء يفضلون «شوقي» عليه، وهيهات بعد أن استنوق الجمل ...!»
وكتب عن نفسه: «لو كان هذا الشاعر - يعني نفسه - كما أسمع عنه، أكون قد ظلمته إذا لم أقدمه عن هذا الموضع - الرابع من الطبقة الأولى - فقد أخبرت أنه لم يتم الرابعة والعشرين من عمره؛
2
ولذلك فإني لا أكتب عنه إلا ما أعرف من شعره، سواء كان فتى أو كهلا، وهو قد طبع من ديوانه الجزء الأول من سنة مضت، وذكر في مقدمة شرحه أنه نظمه في عامين، وأنه لم يقل الشعر إلا منذ ثلاث سنوات من طبع ذلك الجزء، ولم ألبث أن رأيت منذ أشهر في بعض أعداد مجلة «الجامعة» تقريظا مسهبا جدا للجزء الثاني من ديوان هذا الشاعر، فأكبرت ذلك، ولا شك أنه ينظم اليوم في الجزء الثالث قياسا على ما تقدم ...
ومما امتاز به هذا الشاعر ولعه الشديد بالغزل، وبلوغه فيه أسمى ما يبلغه النظم، وله مزية أخرى، وهي غوصه على المعاني في الأغراض التي لم تطرق، وكثيرون يعدونه بذلك شاعر مصر، وديوانه معروف، وشعره مشهور ... إلخ.»
وقال عن شوقي: «سيأخذ بعض القراء العجب إذا رأى شوقي بك ثاني الطبقة الثانية وهو هو، شوقي بك شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية، ولكنا نعجب أكثر منه إذا رأينا الشوقيات قد انقلبت إلى شوكيات، فأي ذوق سليم يطمئن لهذه المعاني المكررة وتلك الألفاظ النافرة من مثل: «قضى أريحي القوم» وغيرها، ولا أدري لهذا الانقلاب سببا إلا إذا صح ما يقال من أن «صبري وسلمان» كانا يهذبان شعر الرجل من قبل، وهو قول لا أجزم به ولا أرفضه ... ... وإنما اشتهر قديما يوم كان الكاظمي في العراق، والبارودي في سيلان ، وصبري من مهذبي شعره على ما يقال، وحافظ في السودان، والرافعي لم يقل الشعر بعد - على ما قيل لي! - وأثبت له الشهرة إضافته إلى الحضرة الخديوية، على نحو ما يذكر النحاة في باب «الجر» بالمجاورة ...»
وختم المقال بقوله: «وسنرى ما يكون من امتعاض الشعراء بعد هذا المقال، ولكني أطلب إليهم أن يخفضوا عن أنفسهم، فلا أنا من معية الأمير، ولا من حاشية السفير، وليس ما كتبت إلا رأيي، فليبق كل في رأيه وعند نفسه أشعر الشعراء.»
وذيلته مجلة «الثريا» بما يأتي: ألقى إلينا مكتب بريد الزيتون يوما ملفا ضخما واردا من مصر، وداخله كتاب موجز ومعه المقالة المتقدمة للنشر. أما الكتاب فهذه صورته بعد الديباجة: ... دونك مقالة بكرا لم ينسج على منوالها بعد في العربية، حرية بأن تصدر بها مجلتك الغراء، ولا يروعنك شدة لهجتها، فكلها حقائق ثابتة، وإن آلمت البعض؛ فإن الحق أكبر من الجميع، وإني لبالمرصاد لكل من ينبري للرد عليها، وأنا كفء للجميع، وما إخال أحدا يستطيع أن ينقض حرفا مما كتبته، وإن هم لزموا الصمت فحسبك من سكوتهم إذ ذاك إقرارا بأني أنزلت كل شاعر في المنزلة التي يستحقها.
ولا يعنيك معرفة اسمي، فأنا ابن جلا وطلاع الثنايا، فانظر إلى ما قيل وليس لمن قال، وبعد هذا فإن أعجبتك مقالتي فانشرها وإلا فاضرب بها عرض الحائط، وإني أقترح عليك أن تنشر جميع ما يردك من الردود في المعنى، سواء جاهر أصحابها بأسمائهم أو تستروا، فإن الموضوع طلي شهي، وفي إطلاقك الحرية للكتاب ما ينشط بهم لحرية الجولان في المضمار.
قالت الثريا: وقد تصفحنا المقالة فراعنا شدة لهجة الكاتب، وبتنا نقدم رجلا ونؤخر أخرى في نشرها، إلى أن تغلب علينا الميل لنشرها، إن لم يكن لشيء فلكثرة ما حوته من رائق الأشعار لفحول الشعراء ... وهم نخبة شعراء مصر في هذا العصر، فأقدمنا على نشرها كما وردتنا بالحرف الواحد، غير متحملين تبعتها، وللكتاب الأدباء الحرية في الرد عليها، وأبواب الثريا ترحب بكل ما يردها من هذا القبيل، سواء من المشتركين أو غيرهم.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم
3
أحسب أن لهذا المقال أهمية كبيرة لمن يريد أن يدرس الرافعي دراسة أوسع، قائمة على قواعد من العلم والتحليل النفسي، وإنما يستأهل هذا الاهتمام من ثلاث نواح:
أولا:
إنه أول ما أنشأ الرافعي في النقد، فهو كالمقدمة لهذه المعارك الطاحنة التي نشبت بين الرافعي ولفيف من أدباء عصره بعد ذلك بعشرين سنة، فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في النقد أن يبدأ من هنا.
ثانيا:
إنه ثبت جامع لأسماء الشعراء الذين نشئوا مع الرافعي في جيل واحد، وقرأ لهم ونظر في شعرهم نظر الناقد أو نظر المعجب المحتذي، فلا بد لمن يريد أن يتحدث عن الرافعي في الشعر، وعن الشعراء الذين تأثر بهم أو تأثروا به أن يعرف هؤلاء الشعراء.
ثالثا:
إن في هذا المقال لونا من ألوان الدعاية التي كان يقوم بها الرافعي لنفسه؛ ليبلغ الهدف الذي كان يرمي إليه بين أدباء العصر، فلا بد لمن يريد أن يدرس وسائل الرافعي إلى الشهرة وذيوع الصيت أن يقرأ هذا المقال.
وبعد؛ فإن فيه شيئا من أخلاق الرافعي المزهو بنفسه، المعتد بعمله، القوي بإيمانه، المتقحم على مواطن الهلاك؛ الرافعي القزم الضعيف الذي وقف على السفح تعتمد خاصرته على راحته وهو ينظر إلى فوق ليقول للشعراء العمالقة على القمة: انزلوا إلي أو أصعد إليكم، فأرميكم إلى بطن الوادي أشلاء ممزقة ليس فيها عضو إلى عضو، ولا يسمع لكم صريخ ...!
لقد كان الرافعي طويل اللسان من أول يوم ...!
بين أهله
إذا رأيت رجلا موفقا فيما يحاوله، مسدد الخطا إلى الهدف الذي يرمي إليه، فاعلم أن وراءه امرأة يحبها وتحبه!
إنني لا أعرف - فيمن أعرف - أحدا تنطبق عليه هذه الحكمة انطباقها على حياة الرافعي؛ فالواقع الذي يعرفه كل من خالط الرافعي وعرف طرفا من حياته الخاصة، أنه ما كان ليبلغ مبلغه الذي بلغ لولا الحياة الهادئة التي كان يحياها في بيته، فإلى زوجه يعود فضل كبير في نجاحه وتوفيقه وهدوء نفسه، هذا الهدوء الذي هيأه لدراسة نفسه ودراسة من حوله والتفرغ لأدبه وفنه، لا يشغله عنهما شاغل مما يشغل الناس من شئون الأهل والولد.
وقد تزوج الرافعي في الرابعة والعشرين من عمره، ولزواجه قصة فيها طرافة وفيها مجال للفكر والنظر، وما دمت قد أخذت على نفسي أن أكتب عن الرافعي في كل أطواره، فلا علي أن أقول ما أعرف من قصة زواج الرافعي، ولا أحسبني بذلك أتجاوز ما لي من الحق أو أتعرض لعتب أو ملامة، لقد خرج الرافعي من ملك نفسه وأهله إلى حكم التاريخ، وللتاريخ حق واجب الوفاء.
وزوج الرافعي مصرية صريحة النسب، من أسرة البرقوقي المعروفة في «منية جناج - دسوق» وأخوها الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب «البيان»،
1
وقد كانت صلة الأدب بين الرافعي وعبد الرحمن البرقوقي هي أول السبب في هذا الزواج.
حدثني المرحوم الرافعي قال: «... كنت في الرابعة والعشرين، وكنت أعرف عبد الرحمن البرقوقي نوعا من المعرفة التي تربط بين شابين ترافقا في الطبع، واتفقا في الغاية، وكان عبد الرحمن طالبا أزهريا ولوعا بالأدب، له حظوة ومكان عند الأستاذ الإمام؛ إذ كان من تلاميذه الأدنين، وكنا نلتقي أحيانا، فسرني منه ما سره مني، وكان يعيش عيشة مترفة ليست منها حياة الأزهريين؛ إذ كان له من غنى أبيه ومن جاه أسرته عز وكرامة ... فما تعارفنا حتى تصافينا، ثم اتصل بيننا الود، فكنت له - وكان لي - أصفى ما يكون الصديق للصديق ...
لم أكن أعرف أخا له أو أختا، ولم يجر في بالي قط أن الصلة بيننا ستتجاوز ما بيننا، حتى كان يوم جلست فيه أتحدث إلى نفسي، فكأنني سمعت صوتا من الغيب يهتف بي أن صديقي عبد الرحمن هو صهري وأخو زوجي ... وانتبهت وأنا أسأل نفسي: أله أخت؟ يا ليت ...! لو كان إنني إذن من السعداء ...
وكانت نفسي في الزواج، فما هي إلا أن تحرك في نفسي هذا الخاطر حتى سعيت إلى صديقي عبد الرحمن، وقلت له وقال لي، وجرنا الكلام إلى حديث الزواج ، فقلت لصاحبي: من لي يا أخي بالزوجة التي أريد؟ ووصفت له الفتاة التي تعيش في أحلامي، فلما فرغت من حديثي قال صاحبي: أنا لك بما تريد. قلت: أتعرف؟ قال: هي هدية أقدمها إليك، قلت: من؟ قال: أختي!»
قال الرافعي: «وغشيتني غشية من الفرح، فما تلبثت حتى مددت إليه يدي فقرأنا الفاتحة، وما وقع في نفسي وقتئذ أنني أمد يدي لأخطب عروسي لنفسي، ولكني أمدها لأتعرف إلى العروس التي خطبتها علي الملائكة وأثبتت نبأ الخطبة في لوح الغيب.»
وبنى بأهله، وعاشا أهنأ ما يكون زوج وزوج، ثلاثا وثلاثين سنة - ثلث قرن - لم يدخل الشيطان بينهما، ولم يتخاصما لأمر، إلا مرة ...
قال الأستاذ جورج إبراهيم: «لقد حضرت عرس الرافعي، وصحبته طوال يومه حتى صعد إلى جلوة العروس، وشهدت اضطرابه وخجلته، واستمعت إليه من بعد يتحدث عن سعادته ويغبط نفسه على حظه وتوفيقه، فما شكا إلي مرة واحدة هما ناله، ومضى عام ... وجاءني ذات يوم، فجلسنا نتحدث، وتسرحنا في الحديث، ولكن وجه الرافعي كان ينم على سر يطويه، ثم لم يلبث أن أفصح، قال: يا جورج، لقد عزمت على أمر ... سأطلق زوجي! وراعني هذا النبأ ونال مني، قلت: تطلقها! لماذا؟ قال: إن إخوتها يجحدون حقها في تركة أبيها لا يريدون أن تستمتع منها بشيء ... قلت: فهذا هو السبب؟ قال: نعم! قلت: ويهون عندك أن تأخذها بما اقترف أخوها؟ ... مصطفى، إنك جبار، أو لا، فاذكر أن الطلاق جريمة لم يقترفها قبلك أحد من أسرة الرافعي، أو لا هذا ولا ذاك، فاذكر أن أهل «طرابلس الشام» لا يذكرون الطلاق إلا كما يذكرون نادرة معيبة وقعت مرة ولن تتكرر من بعد ... فكن بعض أهلك يا صاحبي ...»
قال: «وأطرق الرافعي هنيهة ثم قال: أحسبتني أفعلها؟!»
قال: «ولم يدخل الشيطان من بعد بينه وبين أهله؛ إذ كان كل منهما يعرف لصاحبه حقه وواجبه ... ومضت اثنتان وثلاثون سنة بعد هذه الحادثة، كما يمضي شهر العسل، أو شعر الغزل، ليس فيه إلا العطف والمحبة والاحترام.» •••
كان الرفاعي يعيش في بيته عيشة مثالية عالية، فهو زوج كما يجب أن يكون الزوج، وأب كما يجب ان يكون الأب، وما كان منكورا لأحد من أهله إن الرافعي ليس موظفا كسائر الموظفين، عمله في الخارج وحسب، بل كانوا جميعا يعلمون ما عليهم لهذا الرجل الكبير، ويشعرون بما عليه من تبعات تفرضها عليه مكانته الأدبية، فيهنئون له أسباب الهدوء والراحة والاطمئنان، كان في بيته كالملك من الحكومة الدستورية، يملك ولا يحكم، ويعيش في جو من الاحترام والرعاية والطاعة فوق الأحزاب وفوق المنازعات، فمن ذلك لم تكن «سياسة» البيت تشغله أي شغل أو تشغب على هدوئه وتعكر صفوه، فكان خالصا لنفسه، منقطعا لفنه وعمله الأدبي، فدار كتبه له هو وحده، وطعامه مهيأ في موعده وعلى نظامه، وفراشه ممهد في موضعه لساعته، ونظامه الذي يحقق له الهدوء والراحة ونشاط الفكر مرعي مضبوط.
على أنه كان إلى ذلك يعرف واجبه لزوجه وأولاده، فما هو إلا أن يفرغ من عمله حتى تراه بين أهله مثلا عاليا من الحب والوفاء، وأنا ما عرفت أبا لأولاده كما عرفت الرافعي؛ إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حبا بحب، ثم لا يمنعه هذا الحب الغالي أن يكون لهم أبا فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد ناصحا برفق حين يحسن الرفق، مؤدبا بعنف حين لا يجدي إلا الشدة والعنفوان. •••
وما دمت بصدد الحديث عن الرافعي في أهله، فإن واجبا علي أن أتحدث هنا عن شيء من «حب الرافعي» أراه يتصل بهذا الموضوع:
في فترة ما من حياة الرافعي - سيأتي الحديث عنها بتفصيل أوفى فيما بعد - كان للرافعي هوى وغرام، ووقع له في هواه ما يقع للمحبين من ضرورات الحب ودافع نفسه ما دافع فلم يجد له طاقة على المقاومة، واحتال على الخلاص فما أجدته الحيلة إلا هما على هم، وكان حبه أقوى منه، ولكن دينه وأخلاقه كانت أقوى من حبه.
وقال لنفسه: «ما أنا وهذا الحدث الذي يعترض طريقي ويغلبني على إرادتي؟ إن في بيتي امرأة أحبها وتحبني - والحب عند الرافعي لا يأبى الشركة - وإن لها علي حقا ليس منه أن يكون مني لغيرها نظرة أو ابتسامة إلا أن تأذن لي! ماذا يكون من أمري وأمرها غدا أمام الله حين يطلب كل ذي حق حقه؟ أأقول لها: نعم، قد ضيعت حقك وأعطيت من قلبي الذي لا أملك لمن لا تملك؟ ويلي! إنها الخيانة والإثم والعار!»
وذهب إلى زوجه فحدثها وحدثته، وأفضى إليها بخبره وكشف لها عن نفسه، ثم قال: وأنت يا زوجتي، هل يخفى عليك مكانك مني؟ ولكن ...
واستمعت إليه زوجته هادئة مطمئنة ... ثم أذنت له ... وكتب الرافعي رسالته الأولى إلى صاحبته التي غلبته على قلبه، وقرأت زوجته الرسالة وطوتها وأرسلت بها إلى صندوق البريد ...
وجاء جواب صاحبته فقرأته زوجته كما قرأت رسالته، وصار هذا دأبهما من بعد ... لا ترى زوجته لها حقا عليه إلا أن تعرف، ولا يرى على نفسه في ذلك ملامة ما دامت زوجته تعرف ...!
وأنشأ هذا الحب سلسلة من الطرائف في الأدب العربي تم بها نقص العربية في فلسفة الحب والجمال، هي «رسائل الأحزان» و«السحاب الأحمر» و«أوراق الورد»، ولكن أحدا لم يقرأ القصة الأخرى ... قصة هذا الوفاء وهذه التضحية؛ لأن الرافعي لم ينشرها فيما ألف من الكتب في فلسفة الجمال والحب ...!
من الشعر إلى الكتابة
ملكة الإنشاء - إنشاء الجامعة المصرية - تاريخ آداب العرب - إعجاز القرآن - حديث القمر - شيوخه في الأدب. ***
بلغ الرافعي الشاعر مبلغه بعد سنة 1905، ونزل منزله بين شعراء العصر، وجرت ريحه رخاء إلى الهدف المؤمل، فامتد نظره إلى جديد ...
وأخذ يروض قلمه على الإنشاء، لعله يبلغ فيه مبلغه في الشعر، فأنشأ بضع مقالات مصنوعة فتنته وملكت إعجابه، فتهيأ لأن يصدر كتابا مدرسيا في الإنشاء سماه «ملكة الإنشاء» يكون نموذجا للمتأدبين وطلاب المدارس، يحتذون فنه وينسجون على منواله، ووعد قراءه أن ينتظروه، وأحسبه كان جادا فيما وعد لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فظل الوعد قائما بينه وبين قرائه حتى نسيه ونسوه.
ولا أحسب أن شيئا ذا بال قد فات قراء الرافعي بعدم نشر هذا الكتاب، وحسب الأدباء والباحثين في التاريخ الأدبي أن يقرءوا من هذا الكتاب الذي لم ينشر، مقالات ثلاثا نشرها الرافعي في الجزأين الثاني والثالث من ديوانه، وفي الجزء الأول من ديوان النظرات، إعلانا ونموذجا لكتابه، فإن في هذه المقالات الثلاث كل الغناء للباحث، تدله على أول مذهب الرافعي في الأدب الإنشائي، وطريقته ونهجه.
1
إنشاء الجامعة المصرية
قلت: إن الرافعي كان جادا فيما وعد بإصدار كتابه «ملكة الإنشاء» لولا أمور نشأت من بعد وصرفته عن وجهه، فهذا كان يوم إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1907، كان قد مضى على الرافعي يومئذ عشر سنين في مدرسته التي أنشأها لنفسه وكان فيها المعلم والتلميذ، يدرس ويطالع ويتعلم لا يرى أنه انتهى من العلم إلى غاية، وما كان يدرس ليكون عالما في الأدب، أو راويا في التاريخ، أو أستاذا في فرع من فروع المعرفة، وإنما كان يدرس ليتزود للشعر زاده، وليبلغ من العلم مبلغا يعينه على أن يقول وينشئ، فلما أنشئت الجامعة المصرية، تطلع إلى ما يقال هناك في دروس الأدب، لعله يجد فيه الجديد الذي يتشوف إليه ويطلبه، فماذا وجد هناك؟
مضى على إنشاء الجامعة سنتان وما استحدثت شيئا في الأدب يفتقر إليه الرافعي، وما تحدث أساتذتها حديثا في الأدب لا يعرفه الرافعي ... ماذا؟ أهذا كل ما هناك؟ ... وأيقن الرافعي من يومئذ أنه شيء، فلبث يتربص ...
وطال انتظار الرافعي وما استطاعت الجامعة أن تثبت له أن فيها دروسا للأدب، وما استطاع الرافعي أن يقنع نفسه بأن في الجامعة أساتذة يدرسون الأدب، فكتب مقالا في الجريدة يحمل على الجامعة وعلى أساتذة الجامعة، وعلى منهج الأدب في الجامعة، ورن المقال رنينه وأحدث أثره، فاجتمعت اللجنة الفنية للجامعة، ونشرت دعوة على الأدباء إلى تأليف كتاب في «أدبيات اللغة العربية» جعلت جائزة للفائز فيه مائة جنيه، وضربت أجلا لتقديمه إليها سبعة أشهر، وقرأ الرافعي دعوة الجامعة، فما رضي ولا هدأت نفسه، لقد كان أمله يومئذ أكبر من ذاك، إن مائة جنيه شيء مغر لمثل الرافعي الأديب الناشئ، والموظف الصغير، والزوج العائل: أبي وهيبة وسامي ومحمد، ولكنه كان يطمح في أكثر من مائة جنيه، ويطمع في أن يكون هو أستاذ الأدب بالجامعة.
إنهم على الأغلب سيعهدون بتدريس الكتاب لغير مؤلفه، فيكون الحاضر لديهم كالغائب عنهم، ولا فضل لدارهم إلا أنها مصدر التلقين، فإذا طبع الكتاب صارت كل مكتبة في حكم الجامعة؛ لأن العلم هو الكتاب لا الذي يلقيه، وإلا فما بالهم لا يعهدون بالتأليف لمن سيعهدون إليه بالتدريس؟ وهل يقتصرون على أن يكون من كفاية الأستاذ القدرة على إلقاء درسه دون القدرة على استنباط الدرس واستجماع مادته حتى لا يزيد على أن يكون هو بين تلامذته التلميذ الأكبر ...؟
لم تنفض إدارة الجامعة يدها من قوم هم رؤساء الصناعة، وظهور مناصبها العالية، وألسنة الحكم فيها، ثم تلتمس من ضعف الأفراد ما لم تؤمله في قوة الجماعة، وهي تعلم أن الحمل الذي تتوزعه الأكف يهون على الرقاب؟
2
وما سبعة أشهر لمن يريد أن يؤلف في تاريخ آداب العرب؟ إنه فن لم يتناوله أحد من قبل، وإن مراجع البحث لكثيرة، وإن من وراء ذلك جهدا لا يطيقه إنسان!
وكتب الرافعي مقاله الثاني في «الجريدة» ينعت الجامعة ولجنة الجامعة، ويتأبى على الدعوة التي دعت، ويقرر أن الذين دعوا الدعوة إلى وضع الكتاب وجعلوا لذلك العمل إلى فصاله سبعة أشهر، إنما مست بهم الحاجة إلى كتاب وأعوزهم مؤلفه، فالتمسوه بتلك الدعوة يفتشون عنه في ضوء الجائزة ... ومضى الرافعي يتجنى ويتدلل، وعادت الجامعة تفكر في الأمر.
وأعادت نشر المسابقة لتأليف الكتاب، وزادت المدة إلى سنتين، والجائزة إلى مائتين، وتعهدت بطبع الكتاب المختار.
ووجد الرافعي بذلك ما يشغله، فعاد إلى نفسه، وأغلق دار كتبه عليه ...
تاريخ آداب العرب
إن كثيرا من الأدباء لا يرضيهم أن يعترفوا للرافعي بيد على العربية أو يروا له صنيعا في الأدب يستحق الخلود، إلا حين يذكرون كتابه «تاريخ آداب العرب» وإنه لكتاب حقيق بأن يذكر فيذيع فضل الرافعي على الأدب والأدباء.
انقطع الرافعي لتأليف كتابه من منتصف سنة 1909، إلى آخر سنة 1910، وفي سنة 1911 أتم طبع الكتاب على نفقته قبل أن يحل الأجل الذي عينته الجامعة.
لم يكن الرافعي طامعا في جائزة الجامعة؛ ولذلك لم يتقدم إليها به قبل طبعه، ترفعا عن قبول الحكم فيه لجماعة ليس منهم من هو أبصر منه بالمحكوم فيه.
وكان أسبق المؤلفات ظهورا إلى دعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب العلامة جورج زيدان، ثم الجزء الأول من تاريخ آداب العرب للرافعي، «سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقا مطبعيا».
3
وكانت مقالات الرافعي في «الجريدة» وكتابه «تاريخ آداب العرب» من بعد، هما السبب في تدريس الآداب العربية وتاريخها في الجامعة المصرية، وهما السبب كذلك في وضع ما وضع من الكتب في هذا العلم.
وأعان الرافعي على جمع ما جمع من وسائل البحث لكتابه مكتبات ثلاث بطنطا، كلها حافل بالنادر من كتب العربية، مطبوعها ومخطوطها، هي: مكتبة الرافعي، ومكتبة الجامع الأحمدي، ومكتبة القصبي.
4
وكان من وسائل تشجيعه على إتمامه وطبعه، ما أعانه به مدير الغربية الأديب المرحوم محمد محب باشا من معونات أدبية ومادية ...
ليس من همي هنا أن أتحدث عن القيمة الأدبية لكتاب الرافعي «تاريخ آداب العرب»، فقد فرغ الأدباء من الحكم عليه، وما منهم أحد إلا له فيه رأي محمود وثناء مستطاب، وما ناله أحد بنقد إلا الأديب طه حسين الطالب بالجامعة المصرية يومذاك؛ إذ قال في مقال نشرته له «الجريدة» سنة 1912: ... هذا الكتاب الذي نشهد الله على أننا لم نفهمه ...
لكنه عاد فصحح رأيه فيه سنة 1926، فاعترف بأنه لم يعجبه أحد ممن ألفوا في الأدب إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي «فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابة تاريخ آداب العرب.»
5
نال الرافعي بكتابه هذا مكانا ساميا بين أدباء عصره، وشغل به العلماء وقتا غير قليل، وحسبك به من كتاب أن يقضي الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد أسبوعا يخطب عنه في مجالس العاصمة ،
6
وقد كتب عنه مقالا ضافيا في الجريدة جاء فيه:
قرأنا هذا الجزء، فأما نحوه فعليه طابع الباكورة في بابه، يدل على أن المؤلف قد ملك موضوعه ملكا تاما، وأخذ بعد ذلك يتصرف فيه تصرفا حسنا، وليس من السهل أن تجتمع له الأغراض التي بسطها في هذا الجزء إلا بعد درس طويل وتعب ممل ... وأما أسلوب الرافعي في كتابه فإنه سليم من الشوائب الأعجمية التي تقع لنا في كتاباتنا نحن العرب المتأخرين، فكأني وأنا أقرؤه أقرأ من قلم المبرد في استعماله المساواة وإلباس المعاني ألفاظا سابغة مفصلة عليها، لا طويلة تتعثر فيها، ولا قصيرة عن مداها تودى ببعض أجزائها ...
وكتب عنه الأمير شكيب أرسلان - وهو أشهر كتاب العربية في ذلك الوقت
7 - مقالة في صدر المؤيد جاء فيها:
لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه للناس منه، لاستحق أن يحج إليه، لو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديرا بأن يعكف عليه ...
وقال عنه المقتطف: «إنه كتاب السنة ...» وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب.
وأسلوب الرافعي في هذا الكتاب أسلوب العالم الأديب، يجد فيه كل طالب طلبته من العلم والأدب والبيان الرفيع، وكان الرافعي يومئذ قد أتم الثلاثين ...!
وفي السنة التالية، أصدر الرافعي الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، وموضوعه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وهو الذي أصدره من بعد في طبعته الثانية باسم «إعجاز القرآن»، وباسمه الثاني يعرفه قراء العربية، وقد طبعه على نفقته المغفور له الملك فؤاد - رحمه الله، ومات الرافعي وفي مكتبته أصول الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، ومعها تعلقات كان ينوي إضافتها إلى الجزء الأول في طبعته الثانية فعاجلته المنية.
8 •••
هل كان للرافعي خيرة في المذهب الجديد الذي ذهب إليه عندما شرع يكتب «تاريخ آداب العرب»؟
وهل كان يعني ما يفعل حين انحرف عن الهدف الذي كان يسعى إليه في إمارة الشعر، إلى المنحى الجديد في ديوان الأدب والإنشاء؟
هل كان عن قصد ونية أن يتخلى الرافعي عن أماني الشباب وأوهام الصبا وأخيلة الفتيان وأحلام الشعراء، ليقف نفسه على العربية وتراث العربية يستبطن أسرارها ويغوص على فرائدها، وعلى الإسلام وأبطال الإسلام يكشف عن مآثرهم وينشر آثارهم؟ ...
الحق أن الرافعي لم يكن له خيرة في شيء من ذلك، ولا كان يعنيه، ولا توجهت إليه نيته، ولكنه ألف تاريخ آداب العرب؛ لأنه وجد في نفسه رغبة إلى أن يؤلف في تاريخ آداب العرب، وكتب في إعجاز القرآن؛ لأن إعجاز القرآن باب في تاريخ الأدب، فلما أخرج كتابيه إلى الناس، لم يلبث أن ارتد إليه الصدى مما يقول الناس، فإذا هو عند أكثرهم أديب ليس مثله في العربية، وإذا هو كاتب من الطراز الأول بين كتاب العربية، وإذا هو صاحب القلم الذي يكتب عن إعجاز القرآن فيعجز، ويتحدث عن الإسلام حديث المؤمن إلى المؤمن، حديث قلب إلى قلب ليس بينهما حجاب فكل ما ينطق يبين ... ووجد الرافعي كأنما اكتشف نفسه!
وهنا بدأ الرافعي الكاتب الذي يعرفه اليوم قراء العربية، على حين أخذ الرافعي الشاعر يتصاغر ويختفي رويدا رويدا حتى نسيه الناس أو كادوا، لا يتحدثون عنه إلا كما يتحدثون عن شاعر استمعوا حينا إلى أغاريده العذاب، ثم ترك دنياهم إلى العالم الثاني ليتحدث إليهم من صفحات التاريخ.
لقد عرف الرافعي من يومئذ أن عليه رسالة يؤديها بين أدباء الجيل، وأن له غاية أخرى هو عليها أقدر وبها أجدر، فجعل الهدف الذي يسعى إليه أن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه، يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال، وأن ينفخ في هذه اللغة روحا من روحه يردها إلى مكانها ويرد عنها، فلا يجترئ عليها مجترئ ولا ينال منها نائل، ولا يتندر بها ساخر، إلا انبرى له يبدد أوهامه ويكشف عن دخيلته.
ونظر فيما يكتب الكتاب في الجرائد، وما يتحدث به الناس في المجالس، فرأى عربية ليس من العربية، هي عامية متفاصحة، أو عجمة مستعربة، تحاول أن تفرض نفسها لغة على أقلام المتأدبين وألسنتهم، فقر في نفسه أن هذه اللغة لن تعود إلى ماضيها المجيد حتى تعود «الجملة القرآنية» إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء، وما يستطيع كاتب أن يشحذ قلمه لذاك إلا أن يتزود له زاده من الأدب القديم.
وعاد الرافعي يقرأ من جديد، ينظر فيما كتب الكتاب وأنشأ المنشئون في مختلف عصور العربية، يبحث عن التعبير الجميل، والعبارة المنتقاة، واللفظ الجزل، والكلمة النادرة، فيضيفها إلى قاموسه المحيط ومعجمه الوافي؛ لتكون له عونا على ما ينشئ من الأدب الجديد الذي يريد أن يحتذيه أدباء العربية. •••
هذا سبب مما عدل بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى مذهبه الجديد في الأدب والإنشاء، وثمة سبب آخر كان الرافعي يصرح به كثيرا لمن يعرفه؛ ذلك أنه كان يرى في الشعر العربي قيودا لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن العواطف المضمرة في نفسه، هكذا كان يقول هو، وأقول أنا: إنه كان يعجز أن يصب في قصيدة من الشعر ما كان يستطيع أن يكتبه في سهولة ويسر مقالا من مقالاته الشعرية الرائعة التي يعرفها قراء العربية فيما قرءوا للرافعي، والحق أن الرافعي بطبعه شاعر في الصف الأول من الشعراء، لا أعني الشعر المنظوم، فذلك ميدان سبقه فيه كثير من شعراء العصر، بل أعني الشعر الذي هو التعبير الجميل عن خلجات النفس وخطرات القلب ووحي الوجدان ووثبات الروح، ولقد كان - رحمه الله - بما فيه من اعتداد بالنفس، يكتب المقال الفني المصنوع، فيقيس لفظه بمعناه، ويربط أوله بآخره ويجمع بين أطرافه كل ما ينبض به قلبه من معاني السرور والألم، والرجاء واليأس، والرغبة والحرمان، فإذا فرغ من إنشائه جلس يترنم به ويعيده على سمعه الباطن، ثم لا يلبث أن يلتفت إلى جليسه قائلا: «أسمعت هذا الشعر؟ أرأيت شاعرا في العربية يملك من قوة البيان ما يجمع به كل هذه المعاني في قصيدة منظومة ...؟»
هذه العبارة التي كان يسمعها جلساء الرافعي كثيرا، تفسر لنا قول الرافعي: «إن في الشعر العربي قيودا لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه الشاعرة، أو تؤيد ما أدعيه أنا، من أنه كان يشعر بالعجز عن الإبانة عن كل خواطره الشعرية في قصيدة من المنظوم، ولا يعجزه البيان في المنثور. نعم، كان شعر الرافعي أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره ...»
أفترى في العربية شاعرا يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من «أوراق الورد» في قصيدة منظومة دون أن يتحيف المعنى ويخل بالميزان؟
لا أحسب أن الرافعي كان يعني ما يقول حين يزعم أن القيود في الشعر العربي من أسباب الضعف في الشعر، فهو نفسه لم يكن يستطيع أن يجهر بهذا الرأي، بل أحسبه في بعض نقداته الأدبية أنكر مثل هذا القول على أديب من الأدباء وراح يتهمه بمحاولة الغض من قدر الشعر في العربية، فما أراه كان يقول ذلك إلا تعبيرا عن معنى تأبى كبرياؤه الأدبية أن يصرح به. •••
ذلك هو السبب الثاني الذي عدل بالرافعي عن الاستمرار في قرض الشعر معنيا به مقصورا عليه.
لم يهجر الرافعي الشعر هجرا باتا بعد أن اتخذ لنفسه هذا المذهب الجديد، ولكنه لم يجعل إليه كل همه، واتجه بقلبه ولسانه إلى الهدف الجديد، فلا يقول الشعر إلا بين الفينة والفينة إذا دعته داعية من دواعي النفس أو من دواعي الاجتماع، وسنرى فيما سيأتي بعد، أنه قد صبا إلى الشعر ثانية عندما مس الحب قلبه، واتقدت جذوته في أعصابه سنة 1923، فدعته نفسه، وعندما اتصل ببلاط الملك فؤاد - رحمه الله - سنة 1926، فدعته داعية الجماعة.
حديث القمر
قلت: إن الرافعي بطبعه كان شاعرا، ولكن شعره كان أقوى من أداته، وكانت قوالبه الشعرية تضيق عن شعوره، فنزع إلى النثر الفني، وقلت: إنه كان يرمي إلى أن يعيد «الجملة القرآنية» إلى مكانها مما يكتب الكتاب وينشئ الأدباء؛ لتعود اللغة على أولها فصيحة جزلة مبينة، وإنه أخذ على نفسه أن يكون نموذجا في هذا الأدب الجديد يحتذيه أدباء العربية، وقدمت في أول هذا الفصل أن الرافعي كان على نية إصدار كتاب مدرسي سماه «ملكة الإنشاء» يكون عونا للمتأدبين وطلاب المدارس على الاقتباس لإجادة الإنشاء. فذلك بعض ما دفعه إلى إصدار كتابه «حديث القمر» من بعد.
وقد أنشأ هذا الكتاب بعد رحلة إلى لبنان في سنة 1912، عرف فيها شاعرة من شواعر لبنان، وكان بينها وبين قلبه حديث طويل في الحب،
9
فلما عاد من رحلته، وجد في نفسه حاجة إلى أن يقول فقال، فكان حديث القمر!
وهو أول ما نشر الرافعي من أدب الإنشاء، أصدره بعد كتابيه: تاريخ آداب العرب، وإعجاز القرآن، وما بي أن أصفه لقراء العربية، فهو مشهور متداول وهو أسلوب رمزي في الحب، على ضرب من النثر الشعري، أو الشعر النثري، يصف من عواطف الشباب وخواطر العاشق وما إليهما في أسلوب فني مصنوع لا أحسبه مما يطرب الناشئين من قراء العربية في هذه الأيام، إلا أن يقرءوه على أنه زاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ومادة لتوليد المعاني وتشقيق الكلام في لفظ جزل وأسلوب بليغ.
ومن هذا الكتاب كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين، ومنه كان أول زادي وزاد فريق كبير من القراء الذي نشئوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم.
شيوخه في الأدب
أما إذا وصلت إلى هذا المكان من تاريخ الرافعي فإني أسأل نفسي: عمن أخذ الرافعي هذا المذهب في الكتابة، وبمن تأثر من كتاب العربية القدامى والمحدثين؟
هذا سؤال لا أجد جوابه فيما حدثني به الرافعي أو أحد من أهله وصحابته، وما أستطيع أن أثبت شيئا في هذا المقام يعتمد عليه الباحث، وأكبر ظني أن الرافعي نفسه كان لا يعرف أستاذه في الأدب والإنشاء، فما كان همه أول همه أن يكون كاتبا أو منشئا، ولكن تطورات الزمن هي ردته من هدف إلى هدف، وألزمته أن يكون ما كان، وقد قرأ الرافعي كثيرا وأخذ عن كثير، فمذهبه في الكتابة من صنع نفسه، هو ثمرة درس طويل وجهاد شاق، اختلطت فيه مذاهب بمذاهب، وتداول عليه أدباء وأدباء من كتاب العربية الأولين.
ولكني أجد من الفائدة هنا أن أشير إلى اثنين من أدباء العربية كان يقرأ لهما الرافعي أكثر ما يقرأ إلى آخر أيامه، هما: الجاحظ، وصاحب الأغاني، وكان يعجب بأدبهما ويعجب لإحاطتهما عجبا لا ينقضي وإعجابا لا ينتهي، وكان لا بد له حين يهم بالكتابة بعد أن يجمع عناصر موضوعه في فكره أو في مذكرته، أن يفتح جزءا من الأغاني، أو كتابا من كتب الجاحظ يقرأ فيه شيئا مما يتفق، ليعيش فترة ما قبل الكتابة في جو عربي فصيح.
وأحسبه إلى ذلك قد تأثر كثيرا في صدر أيامه بما كان يكتب الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلتي «الضياء والبيان».
ومما لا يفوتني إثباته في هذا المجال أن مجلة «الهلال» قد استفتت أدباء العربية يوما منذ سنوات، في أي الكتب العربية تعين الأديب الناشئ على مادته؟ وكان للرافعي في هذا الاستفتاء جواب لا أذكره، أحسبه يفيد الباحث عن المصدر لأدب الرافعي.
وسمعته مرة يقول: إن كلمة قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب، قوله يصف السماء ذات صباح: «وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل.»
قال الرافعي: «وأعجبتني بساطة التعبير وسهولة المعنى، فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء.»
أفيحق لنا بهذا أن نزعم أننا عرفنا واحدا من شيوخ الرافعي في الأدب والإنشاء ...!
في سنوات الحرب
كان الرافعي - رحمه الله - شاعر النفس، مرهف الحس، رقيق القلب، قوي العاطفة؛ يرى المنظر الأليم فتنفعل به نفسه ويتحرك خاطره ويتفطر قلبه، وتقص عليه نبأ الفاجعة فلا تلبث وأنت تحكي له أن تلمح في عينيه بريق الدمع يحبسه الحياء، وقد كان الرافعي يقرأ فيما يرد إليه من بريد قرائه كثيرا من المآسي الفاجعة يسأله أصحابه الرأي أو المعونة، فما يقرؤها إذ يقرؤها كلاما مكتوبا، ولكنها تحت عينيه حادثة يشهدها ويرى ضحاياها، فما تبرح ذاكرته من بعد إلا مع الزمن الطويل.
ولقد وقعت الحرب العالمية الأولى واستعرت نارها في الميادين البعيدة لا يبلغ إلينا منها نار ولا دخان ولا يراق دم، ولكنها أرسلت إلى مصر الفقر والجوع والغلاء، فلم يكن ضحاياها في مصر بالجوع والمتربة أقل عديدا من ضحاياها هناك في الميدان ... كيف كان يعيش العامل المسكين في تلك الأيام؟ رباه! إنني ما أزال أذكر يوم أرسلني والدي - وأنا غلام بعد - أستدعي النجار لعمل عندنا، فوجدته جالسا في أهله يأكلون، كانوا ستة قد تحلقوا حول قصعة سوداء فيها كومة من فتات الخبز إدامه الماء، تتسابق أيديهم إليه في نهم كأنما يخشى كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية ...!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء؛ لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتا ما، ثم تقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رمادا في الهواء ...!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيرا مما يرى ويسمع، فاحتبس الدمع في عينيه، ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه.
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحتشد آثاره، والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل ما يحمل من هم الشعب في قلبه الكبير، حتى امتلأ الإناء يوما ففاض. •••
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له في نظام الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي ...؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: رب، لم كتبت علي هذا ...؟ لماذا حكمت بذلك ...؟ لماذا قدرت وقضيت ...؟ ما حكمتك فيما كان ...؟ ألم يكن خيرا لو كان ما لم يكن ...؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الرضا، فيعود معتذرا يقول: رب، لقد ظهر حكمك ودقت حكمتك فمغفرة وعفوا ...!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان، وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبدا في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات، أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض ، ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول: «رب ما أدق حكمتك، وأعظم تدبيرك ...!» وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء.
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضا، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت، فدمعت عيناه، ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول: «حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني ... ليتهم يعلمون شيئا من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس! ... كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدر منك وتدبير حكيم!»
ثم شرع يؤلف كتابه «المساكين».
كتاب المساكين
أخرج الرافعي كتابه هذا في سنة 1917، وهو الكتاب الرابع مما ألف في المنثور، وثاني ما ألف في أدب الإنشاء، ويعرف به الرافعي في الصفحة الأولى منه فيقول: «هو كتاب أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس ...»
وقدم له بمقدمة بليغة في معنى الفقر والإحسان والتعاطف الإنساني، يقول فيها: «هذا كتاب حاولت أن أكسو الفقر من صفحاته مرقعة جديدة ... فقد ولله بليت أثواب هذا الفقر وإنها لتنسدل على أركانه مزقا متهدلة يمشي بعضها في بعض، وإنه ليلفقها بخيوط من الدمع، ويمسكها برقع من الأكباد، ويشدها بالقطع المتنافرة من حسرة إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى هم، وأقبح من الفقر ألا يظهر الفقر كاسيا أو تكون له زينة إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم الموتى الأولين ...»
والكتاب فصول شتى، ليس له وحدة تربط بين أجزائه، إلا أنه صور من آلام الإنسانية كثيرة الألوان متعددة الظلال، تلتقي عندها أنة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث، فهنا صورة «الشيخ علي» الرجل الذي يعيش بطبيعته فوق الحياة وفوق الناس؛ لأنه يعيش في نعمة الرضا، وإلى جانبه قصة الغني الشيخ الذي حسب أنه سيطر على الحياة؛ لأنه ملك المال، وهذه صاحبته الحسناء الصغيرة التي انتشلها الشيخ بماله من الفقر الجائع فوهب لها المال، ولكنه سلبها نعمة الشعور بالحياة، وهذا، وهذه ... من صور المساكين الذين يعيشون يحتسون الدموع أو يتطهرون بالدموع .
وأول أمر الرافعي في تأليف كتاب «المساكين» أنه كان في زيارة أصهاره في «منية جناج» فلقي هناك الشيخ علي، والشيخ علي هذا رجل يعيش وحده، ليس له جيب يمسك درهما، ولا جسد يمسك ثوبا، ولا دار تؤويه، ولا حقل يغل عليه، يجوع فيهبط على أول دار تلقاه يتناول ما يمسك رمقه، ويدركه النوم فيتوسد ذراعه حيث أدركه النوم من الدار أو الطريق، رجل يعيش بطبيعته فوق كل آمال الناس وآمال الحياة، ولقيه الرافعي واستمع إلى خبره، فعرف من فلسفته فلسفة الحياة، ووجد عنده الحل لكل ما في نفسه من مشكلات، فكان هذا الكتاب من وحي الشيخ علي الفيلسوف الصامت في الرافعي الأديب، واجتمعت له مادة الكتاب في مجلس واحد لم ينطق فيه أحد بكلمة.
ويصف الرافعي الشيخ علي فيقول: «... هو حليم لنفسه، غضوب لنفسه، وكذلك هو في الخفة والوقار، والضحك والعبوس، والزهو والانقباض، وفي كل ضدين منهما لذة وألم، كأنه جزيرة قائمة في بحر لا يحيط بها إلا الماء، فلا صلة بينهما في المادة وإن كانت هي فيه، فالناس كما هم وهو كما هو، يرونه من جفوة الزمان أضعف من أن يصاب بأذى، ويرى نفسه من دهره أقوى من أن يصيب بأذى، ويتحاشونه رأفة ورحمة، ويتحاماهم أنفة واستغناء، ثم إن مسه الأذى من رقيع أو سليط أحسن إلى الفضيلة بنسيان من أساء إليه، فيألم وكأن ألمه مرض طبيعي، ولا فرق عنده في هذه الحال بين أن يمغص بطنه بالداء أو يمغص ظهره بالعصا ...! وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدا، فلم تقهره الدنيا؛ لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهرها هو؛ لأنها لم تظفر به. ... وهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات الأربع كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف ، وكل ما ردت عليك الغبطة من بسطة في الجسم أو سعة في المال أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوته على خوف. ... فهو أجهل الناس في الدنيا وأجهل الناس بالدنيا ... وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة، فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج، حسبك مائقا لم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع ...»
هذا هو الشيخ علي الذي أوحى إلى الرافعي كتاب المساكين ونسب إليه القول فيه ورده إلى إلهامه، وهو عنده النموذج الكامل للرجل السعيد والفيلسوف الصحيح.
وقد فرغ الرافعي من كتاب المساكين في سنة 1917، وفرغ الشيخ علي من دنياه بعد ذلك بقليل، ولكن روحه ظلت تعمل في نفس الرافعي وتملي عليه وتلهمه الرأي إلى آخر أيامه بعد ذلك بعشرين سنة، والواقع أن الرافعي كان يؤمن بفلسفة التسليم والرضا فيما لا طاقة له به، إيمانا كان مادة حياته ونظام عمله، وإيمانه ذاك هو الذي كان يفيض عليه أمارات المرح والسرور حتى في أعصب أوقاته وأحرج ساعاته، فكنت لا تراه إلا مبتسما أبدا أو ضاحكا ضحكة السخرية والاستسلام. •••
كتاب المساكين الذي يقول عنه المرحوم أحمد زكي: «لقد جعلت لنا سكشبير كما للإنجليز شكسبير، وهيجو كما للفرنسيين هيجو، وجوته كما للألمان جوته.» ... هو كتاب اجتمع على إخراجه سببان: أهوال الحرب التي حطت على مصر بالجوع والقحط والغلاء، والشيخ علي الجناجي.
أغاني الشعب
اسلمي يا مصر - نشيد الاستقلال - البحر المنفجر. ***
لم يوفق شاعر من شعراء العربية توفيق الرافعي في تأليف الأناشيد، ولم يكتب لنشيد وطني أو طائفي من الذيوع والشهرة والانسجام مع الألحان ما كتب لأناشيد الرافعي، فهو بذلك خليق أن نسميه «شاعر الأناشيد».
وقد ولع منذ نشأته في الشعر بالأناشيد الوطنية والأغاني الشعبية، يفتن في نظمها، ويبدع في أوزانها وأساليبها، ففي سنة 1903 أخرج في الجزء الأول من ديوانه بضع قصائد وطنية، تفيض عاطفة وتشتعل حماسة، واشتهر من بينها قطعته «الوطن» التي يقول في مطلعها:
بلادي هواها في لساني وفي دمي
يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
وذاعت على ألسنة تلاميذ المدارس، يحملهم المعلمون على استظهارها في دروس المحفوظات إلى يومنا هذا، كما اشتهر كثير من قصائده الوطنية وأغانيه الشعبية، وجاء في هامش ديوانه بعد تمام هذه المقطوعات:
قد تمت القطع التي نظمت للنشء من تلامذة المدارس، وقال ناظمها: إنه إذا وجد الناس أقبلوا عليها أقبل هو على نظم غيرها مما هو أرقى، غير مبال بوعورة هذا المسلك الذي لم يسلكه قبله أحد، فها نحن أولاء ننتظر من الصحفيين وشبان العصر أن يأخذوا بيده في هذا المشروع، حتى لا يغيض ما بقي في ذلك الينبوع ...
1
ثم دأب على نظم أمثال هذه الأغاني، ينشر منها طرفة رائعة في كل جزء من ديوانه، فنشر نشيد الفلاحة المصرية، وأرجوحة سامي، وغيرهما، وأذاع في الصحف كثيرا مما نظم من «أغاني الشعب».
وعرف الرافعي في نفسه هذه الميزة التي فاق بها شعراء العربية في باب هو من الشعر في ذلك العصر من صلبه وقوامه، فأجمع أمره على إخراج ديوان «أغاني الشعب» يضع فيه لكل جماعة أو طائفة من طوائف الشعب نشيدا أو أغنية عربية تنطق بخواطرها وتعبر عن أمانيها، وقد جرى الرافعي في هذا الميدان شوطا بعيدا، وأنجز طائفة كبيرة من أغاني الشعب نشر بعضها وما يزال سائرها في طي الكتمان بين أوراقه الخاصة ومؤلفاته التي لم تنشر بعد.
وإنك لترى الرافعي في هذه الأغاني والأناشيد، له طابع وروح غير ما تعرف له في سائر شعره، فتؤمن غير مضلل أن الرافعي هبة الزمان للعربية ليزيد فيها هذا الفن الشعري البديع الذي تقطعت أنفاس شعراء العربية دونه منذ أنشد شاعرهم في الزمان البعيد: «نحن بنو الموت إذا الموت نزل ...» ثم لم يقل أحد من بعده شعرا يترنم به في الحرب، أو يدعو إلى الجهاد، ويستنفر إلى المعركة، حتى أنشد الرافعي.
ويقيني أن اسم الرافعي إذا كتب له الخلود بين أسماء الشعراء في العربية، فلن يكون خلوده وذكره؛ لأنه ناظم ديوان الرافعي، أو ديوان النظرات، أو المدائح الملكية في المغفور له الملك فؤاد، أو قصائد الحب والغزل بفلانة وفلانة من حبائبه الكثيرات، ولكنه سيخلد ويذكر؛ لأنه شاعر الأناشيد.
وأشهر أناشيده: «اسلمي يا مصر» و«إلى العلا، إلى العلا بني الوطن» و«حماة الحمى ...» ولكل نشيد تاريخ. •••
نهضت الأمة نهضتها الرائعة في سنة 1919، ودوى صوت الشعب هاتفا: إلى المجد إلى المجد، إلى الموت أو الحرية، وصاح صائح الجهاد يدعو كل نفس من داخلها، فإذا الأمة صوت واحد، على رأي واحد، إلى هدف واحد، وإذا مظهر رائع من مظاهر الإيمان بحق الموجود في وجوده يتمثل في كل مصري، ويستعلن على كل لسان في مصر.
واجتمع رأي طائفة من رجالات مصر على أن يكون لهذه النهضة نشيد يعبر عن أمانيها وغايتها، ويكون أغنية كل مصري، تجتمع عندها خواطر نفسه، وخلجات فكره، وهمسات قلبه، فيكون صوتها من صوته، ولحنها من أحلامه، وبيانها من معاني نفسه.
وتلفت الناس يفتشون عن ذلك الشاعر الموهوب الذي يؤملون أن تتحدث الأمة بلسانه وتهتف بشعره، وسمت لجنة النشيد جائزة وضربت أجلا ...
وتبارى الشعراء في الافتنان والإجادة، وتقدم كل شاعر ببضاعته، وتقدم الرافعي فيمن تقدم، ولكن اثنين لهما مكانهما وخطرهما بين شعراء العصر لم يتقدما بشيء إلى لجنة النشيد، هما: «شوقي» أمير الشعراء، و«حافظ» شاعر النيل. أما حافظ فلأنه من المحكمين في اختيار النشيد، وأما شوقي ... فمن يدري.
وكان على رأس «لجنة النشيد» الوزير العالم الأديب، الأستاذ جعفر والي،
2
فكأنما عز عليه أن ينتهي الأجل المضروب فيتقدم الرافعي، ويتقدم الهراوي، ويتقدم عبد الرحمن صدقي، ويتقدم غير هؤلاء ممن يقول الشعر، وممن لا يحسن إلا أن يزن فاعلاتن ومفعولاتن على كلام، ولا يتقدم شوقي وحافظ.
ونسأت اللجنة الأجل المضروب، وسعى الساعون إلى الشاعرين الكبيرين ليحملوهما على الاشتراك في المباراة، فأما حافظ فأصر وأبى، وأما شوقي ... يرحمه الله، لقد كان حريصا على أن يقول الناس في كل مناسبة، لقد قال شوقي ... ولكن ماذا يقول في ذلك اليوم؟
وكان لشوقي نشيد أنشأه منذ عهد لتفتتح به «فرقة عكاشة» موسمها التمثيلي ، فماذا عليه لو تقدم بهذا النشيد القديم إلى لجنة المباراة؟
وتقدم شوقي إلى اللجنة بنشيده المشهور:
بني مصر مكانكمو تهيا
فهيا مهدوا للمجد هيا
وتساءل الأدباء بينهم: لماذا مدت اللجنة الأجل المضروب؟ فلم يلبثوا أن جاءهم الجواب الصريح، فعرفوا أن اللجنة لم تفعلها إلا حرصا على أن يكون النشيد المختار من نظم شوقي ...
عندئذ نجمت ثورة أدبية حامية، وتمرد الأدباء على اللجنة وحكم اللجنة، وهل كان لهم أن يطمئنوا إلى عدالتها وقد ذاع الحكم قبل موعد الفصل في القضية؟
وكان الرافعي على رأس الثائرين، فأنشأ بضع مقالات في «الأخبار»، وللأخبار يومئذ مذهبها السياسي، وكاتبها الأول هو المرحوم أمين الرافعي، فسحب الرافعي نشيده من اللجنة قبل أن يسمع الحكم فيه، وراح يعلنها ثورة صاخبة على اللجنة وأعضاء اللجنة، وعلى شوقي وأنصار شوقي وقال في نشيده ما يقال وما لا يقال، وتابعه جمهرة من الأدباء، فكتب المازني والعقاد في «الديوان»، وكتب غير المازني والعقاد، وشوقي - رحمه الله - رجل كان - على فضله ومكانته وعلى منزلته في الشعر - ضيق الصدر بالنقد والناقدين، فمن هذا كان بينه وبين الرافعي شيء من يومئذ، إن لم يكن من قبل يوم نشر الرافعي مقاله في «الثريا» عن شعراء العصر في سنة 1905، فما التقيا من بعد حتى لقيا الله، على أن أحدا من أدباء العربية لم ينصف شوقي بعد موته أو يكتب عنه مثل ما كتب الرافعي عن شوقي في مقتطف ديسمبر سنة 1932، وهو نموذج من الأدب الوصفي أحسبه نادر المثال فيما يكتب الكتاب عن الأدباء المعاصرين. •••
ومضت لجنة المباراة في طريقها غير آبهة لما يقال، ومضى الرافعي في ثورته، ثم لم يلبث أن جمع لجنة غير اللجنة، من أصدقائه وصفوته والآخذين عنه؛ لتنظر في نشيد الرافعي وحده.
وأصدرت اللجنة الأصيلة حكمها، فكان الفائز الأول هو شوقي، وفاز من بعده الهراوي وعبد الرحمن صدقي، وأعلنت اللجنة الأخرى أن نشيد الرافعي هو النشيد القومي المصري ... وسبقت بين المغنين جائزة؛ ليصنعوا لحنا لنشيد الرافعي:
إلى العلا إلى العلا بني الوطن
إلى العلا كل فتاة وفتى
وفاز الموسيقار الكبير الأستاذ منصور عوض بالسبق إلى اللحن والجائزة!
ليس من همي هنا أن أوازن بين نشيدي شوقي والرافعي، فقد مات نشيد الرافعي «إلى العلا ...» بعد أن سبقه نشيد شوقي إلى الموت بعشر سنوات، ولم تجد كل المحاولات في بعثه ونشره ... وإذا كان لي أن أقول شيئا هنا في الفرق بين النشيدين، فهو أن أصف كيف كان استقبال الناس لنشيد الرافعي واحتفائهم به في كل مكان، وكيف كان نشيد شوقي.
لقد سمعت نشيد الرافعي أول ما سمعته في حفل رسمي أقيم لإذاعته بطنطا في سنة 1921 أو 1922 بمسرح البلدية، فما أحسب أني رأيت من بعد نشيدا احتفل له الناس ما احتفلوا لنشيد الرافعي يومئذ، فإذا كان قد مات بعد ذلك بسنين وجر عليه النسيان أذياله، فما أظن ذلك كان لضعف فيه أو نقص يعيبه، ولكننا نعيش في شعب أكبر فضائله أن ينسى ...
اسلمي يا مصر
وتطورت الفكرة الوطنية فتمثلت بشرا في سعد زغلول، فهو المصري الذي لو أرادوا أن يمثلوا ذلك الشعب العريق إنسانا تراه العين لما وجدوا إلا صورته، ولو سألوا: من الرجل الذي يقول أنا الأمة صادقا لما وجدوا غيره ...
وتطورت فكرة النشيد القومي عند الرافعي، فرأى رؤياه في منامه ... فلما أصبح ألف نشيده «اسلمي يا مصر»، وما كان هم الرافعي عندما ألفه أن يجعله نشيدا قوميا، إنما قصد إلى أن يجعله بيانا رمزيا على لسان سعد، أو كما يقول الرافعي في خطابه إلى سعد في جبل طارق:
وما أردت بإظهار نشيدك إلا أن تظهر في كل فرد من الأمة على قدر استعداده، ويبقى اسمك الجليل مع كل مصري على الدهر ليكون مصدرا من مصادر إمداده.
ويقولون: إنه نشيد يقربك من الأجيال الآتية، وأنا أقول: إنهم هم يتقربون به إليك، ويجدون منه الوسيلة لتقبيل اسمك المحبوب؛ إذ لا يستطيعون مثلنا تقبيل يديك، ويجدون في كل زمن من شرح هذا الاسم الكبير أنه الرجل الذي خط قلم الأزل بيده كتاب نهضته الكريمة، واختاره الله للأمة كما اختار الأنبياء إلا أنه نبي الفكر والعزيمة ...
قلت: إن الرافعي لم يكن يعني بإنشاء نشيده «اسلمي يا مصر» أن يجعله نشيدا قوميا، فإنه لمطمئن إلى أن نشيده «إلى العلا ...» ماض في طريقه إلى هذا الهدف، إنما كان يعني أن يضع في هذا النشيد صوت سعد كما تصورت حقيقته في نفسه، لكن نشيده ما كاد ينشر ويذاع، حتى أبدت البلاد رأيها، فقام الطلبة والأدباء والفنانون يدعون دعوتهم إلى اتخاذه نشيدا قوميا ليجعلوا صوت سعد في هذا النشيد صوت البلاد، وليتخذوا ما فيه من معاني المجد شعارا لكل مصري؛ أن كان صوت سعد يومئذ هو صوت كل مصري.
وتألفت اللجان في مختلف البلاد لإعلانه وإذاعته، وتسابق الملحنون إلى ضبط نغمته ورسم لحنه، فكان أسبقهم إلى ذلك الموسيقار منصور عوض، والموسيقار صفر علي، واللحن الأول أدق اللحنين وأوفاهما بالغاية، ولكن اللحن الثاني أذيع وأعم، وبه تنشده فرق الكشافة المصرية بعد أن صار نشيدها الرسمي.
نشيد الاستقلال
ونجحت الدعوة نجاحها المؤمل، فصار نشيد «اسلمي يا مصر» هو نشيد مصر القومي من سنة 1923 إلى سنة 1936 حين أعلنت الحكومة عن المباراة العامة لتأليف نشيد قومي يهتف به الشعب وتعترف به الحكومة.
في هذه الفترة كان الرافعي على نية إنشاء نشيد وطني جديد؛ إجابة لرغبة تقدم بها إليه شبان الوفد، فما أذاعت الحكومة بيانها عن المباراة حتى تقدم بنشيده الجديد:
حماة الحمى، يا حماة الحمى
هلموا، هلموا لمجد الزمن
لقد صرخت في العروق الدما
نموت، نموت، ويحيا الوطن
كما تقدم بنشيده الآخر: «اسلمي يا مصر»، ولأمر ما استبعدت لجنة المباراة النشيد الثاني، ومنحته الجائزة الثانية على النشيد الأول، وما أريد أن أعرض لرأي اللجنة وحكمها في هذا النشيد الجديد، فذلك باب من النقد الأدبي ليس من قصدي التعرض له في هذا المقال، فإن للتاريخ الأدبي حكمه في هذا الشأن، يوم تنسى الأحقاد وتمحي العداوات. •••
ليس ما ذكرت هو كل جهد الرافعي في الأناشيد، وليس بهذا وحده يستحق أن نخلع عليه هذا اللقب الذي لا أرى غيره من شعراء العربية جديرا به، فما أستطيع أن أحصي كل ما أنشأ الرافعي في هذا الباب، وحسبي أن أذكر بنشيده الخالد الذي أنشأه في سنة 1927 ليكون شعار «الشبان المسلمين»، فهنا في هذا النشيد يعرف الرافعي الشاعر المسلم المجاهد الذي وقف قلمه وبيانه على خدمة المسلمين والعرب.
أما نشيد «الملك»، ونشيد «بنت النيل»، ونشيد «الطلبة» الذي أنشأه؛ ليكون به هتاف تلاميذ المدرسة الثانوية بطنطا، فذلك فن من البيان له فصل بعنوانه في تاريخ الأدب العربي.
البحر المنفجر
في أناشيد الرافعي عامة، تعرف له طابعا وروحا ونغمة هي سر نجاحه فيما ألف من أناشيد، ويميل في أناشيده الوطنية خاصة إلى إبراز معنى القوة في سبك اللفظ ولحن القول، ولو أنك سمعته مرة وهو في خلوته الشعرية يحاول شيئا من هذه الأناشيد لسمعت لحنا له رنين يشترك فيه صوت الرافعي، ونقر أصابعه على المكتب، وخفق نعله على أرض المكان، وعلى أن الرافعي كان أصم لا يسمع قصف المدافع، فإنه كان لا يستوي له النظم إلا في مثل هذه الحال، واسألوا صديقنا الأستاذ مصطفى درويش مفتش التحقيقات بوزارة المعارف، ماذا رأى وماذا سمع يوم صحب الرافعي من طنطا إلى القاهرة وكان يؤلف في القطار نشيده «حماة الحمى ...»؟
واسألوا الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف تحدثكم عن خبر الرافعي يوم جلس إليها وهي تعالج تلحين نشيده «بنت النيل»، ويوم جلست إليه تعزف له على البيانة لحنها لنشيد «اسلمي يا مصر»، وهو يسمعها بعينيه تتبعان أصابعها على المعزف وهو ينقر على الأرض بعصاه ورجليه وينفخ شدقيه، وفي أذنيه وقر ثقيل ...!
هذه النغمة التي كانت تتمثل للرافعي في سمعه الباطن وهو يعالج نشيدا من الأناشيد، كان لها أثرها الفني في عمله، وهي هي التي كانت تشعره أحيانا بالعجز عن أن يجد في موازين الشعر العربي النغمة التي كان يريدها في أناشيده كطبل الحرب، فلما هم أن يضع نشيد الطلبة:
مجدا مجدا مدرستي
مدرستي مجدا مجدا
عن علمي عن تربيتي
مدرستي حمدا حمدا
لم يجد له نغمة تلائمه فيما يعرف من بحور الشعر، فاخترع له هذا الميزان الذي يزنه به قارئه، وسماه «طبل الحرب»، ولكن صاحب «المقطم» أشار عليه أن يسميه «البحر المنفجر»، وتفعيلاته: «فعل، فعل، فو» مكررة في كل شطر، مع بعض علل في الميزان يمكن إدراكها بالموازنة بين الشعر وتفعيلاته. •••
هذا هو الرافعي شاعر الأناشيد، وهذا جهده وما بلغ، وقد كان على نية إصدار ديوان «أغاني الشعب» لولا أن عاجلته المنية، فلو أن أدباء العربية ذكروا يوما أن عليهم واجبا لإمام من أئمة الأدب العربي كان يعيش في هذا العصر فاجتمعوا على العناية بآثاره وإتمام رسالته الأدبية، لأخرجوا لقراء العربية ذخرا من الأدب والبيان الرفيع لا يقدر على إنشاء مثله جيل كامل من مثل أدباء هذا الزمان ...!
الرافعي العاشق
الحب عن الرافعي - هو وهي - شعر وفلسفة - وحب وكبرياء - هي وهو. تعقيب - رسائل الأحزان - السحاب الأحمر - أوراق الورد. *** (1) «إن المرأة للشاعر كحواء لآدم، هي وحدها تعطيه بحبها جديدا لم يكن فيه، وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلا ...» (2) «إن النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق ...» (3) «... إن ملكة الفلسفة في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإبهامها وثرثرتها ...»
الرافعي
أتراني أستطيع الحديث عن الرافعي العاشق فأوفي القول وأبلغ الغاية ... وهل يكون لي أن أدعي أنني أكتب في هذه الصفحات تاريخ الرافعي إذا أنا لم أعرض لحديث الرافعي العاشق ...؟
وهل خلت فترة في حياة الرافعي من الحب؟
ذلك الرجل الذي لا يتخيله أكثر من لم يره إلا شيخا معتجر العمامة مطلق العذبة مسترسل اللحية مما قرءوا له من بحوث في الدين وآراء في التصوف وحرص على تراث السلف وفطنة في فهم القرآن مما لا يدركه إلا الشيوخ، بل مما لا يدركه الشيوخ.
هذا الذي يكتب عن إعجاز القرآن، وأسرار الإعجاز، والبلاغة النبوية، ويصف عصر النبوة ومجالس الأئمة وكأنه يعيش في زمانهم وينقل من حديثهم ...
هذا الذي كانت تتصل روحه فيما يكتب - من وراء القرون - بروح الغزالي، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيب، فما تشك في أن كلامه من كلامهم وحديثه من إلهام أنفسهم ...
هذا الذي تقرأ له فتحسبه رجلا من التاريخ قد فر من ماضيه البعيد وطوى الزمان القهقرى ليعيش في هذا العصر ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في عصر بعيد ... ... هذا الرجل كان عاشقا غلبه الحب على نفسه وما غلبه على دينه وخلقه ...!
إن الحديث عن حب الرافعي لحديث طويل، فما هي حادثة أرويها وأفرغ منها، وحبيبة واحدة أصفها وأتحدث عنها، ولكنها حوادث وحبيبات، وعمر طويل بين العشرين والسابعة والخمسين، لم يشرق فيه صباح ولم يجن مساء إلا وللرافعي جديد في الحب، بين غضب ورضا، ووصل وهجر، وسلام وخصام، وعتب ودلال، وحبيب إلى وداع وحبيب إلى لقاء ... وشاب الرافعي وما شاب قلبه، وظل وهو يدب إلى الستين كأنه شاب في العشرين ... ومات وعلى مكتبه رسالة وداد من صديقة بينها وبينه جواز سفر وباخرة وقطار، وكان في الرسالة موعد إلى لقاء ...! •••
قلت مرة للأستاذ الزيات صاحب «الرسالة» وبين الرافعي وأجله عام: هل لك في موضوع طريف عن الرافعي أنشره لقراء الرسالة؟ إن للرافعي في الحب لحديثا يلذ ويفيد ...
قال: ومن لي بهذا؟
قلت: أنا لك.
قال: ولكنه حديث يغضب الرافعي!
قلت: وعلي أنا أن يرضى ...
وذهبت إلى الرافعي فأفضيت إليه بعزمي. قال: أوتفعلها؟ أفكان لهذا مجلسك مني كل مساء، تسترق السر لتدخره إلى يوم تنشره فيه على الناس بثمن ...؟
قلت: لو أنه كان سرا لم يعلمه غيري ما عقدت العزم على شيء، ولكنه «سر» على لسانك إلى كل من تتحدث إليه! ...
وما كان للرافعي سر يستطيع أن يطويه بين جوانحه يوما وبعض يوم، فكأنما أذكرته - بما قلت - بعض ما كان ناسيا، فعاد يقول: وماذا تريد أن تقول في حديثك عن حبي؟
قلت: حديثا لو هم غيري أن يجعل منه مقالا لقرائه لما كان الرافعي هو الرافعي عند من يقرؤه، ولكن أحسبني أنا وحدي الذي يستطيع أن يقول: إن الرافعي كان يحب فما يغير شيئا من صورة الرافعي كما هو في نفسه وكما هو عند من يعرفه، إنني أنا وحدي الذي يعرف الحادثة وجوها وملابساتها وما كان في نفسك منها، ولعلي يوم عرفت كنت أسمع نبضات قلبك وخلجات وجدانك ومرمى أملك وما كانت غايتك في الحب ومداك، أما غيري فهل تراه يعرف إلا الحادثة؟ وحسبه أن يقول: إن الرافعي يحب ... ثم تكون الفضيحة التي تخشاها وأنت منها طاهر الإزار ...
واستمع الرافعي إلى حديثي ثم أطرق هنية وعاد يسألني: وهل أقرأ ما تعده قبل أن تنشره؟
قلت: لك ما تريد.
قال: أنت وشأنك! •••
وأجمعت أمري، وأعددت فكري، وتهيأت للكتابة، ثم شغلتني العناية بطبع «وحي القلم» وتصحيح تجاربه عن الوفاء بما وعدت ... ومات الرافعي!
فإن يكن في الحديث عن «الرافعي العاشق» حرج فلا علي فقد استأذنته فأذن، وما أكتب الآن إلا مستمدا من روحه، راويا من بيانه، ولدي شهودي من كتبه ورسائله وما يعرفه أصدقاؤه وصفوته، وإذا كان الرافعي قد خفت صوته إلى الأبد فلا سبيل إلى أن أسمع رأيه فيما أكتب عن تاريخ قلبه، فإني لمؤمن شديد الإيمان بأنني ما أزال في رضاه ومنزلتي عنده، وإن كان بيننا هذا البرزخ الذي لا أعرف متى أجتازه إليه فأسمع من حديثه ويسمع من حديثي!
الحب عند الرافعي
وهل في الحب عار أو مذمة؟
هذا سؤال يجب أن يكون جوابه إلى جانبه قبل أن أمضي في هذا الحديث. أما الحب الذي أعنيه - وكان يعنيه الرافعي - فشيء غير الحب الذي يدل عليه مدلول هذه الكلمة عند أبناء هذا الجيل ...
إن الحب عند الناس هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، ولكنه عند الرافعي هو حياة النفس إلى السمو والإشراق والوصول إلى الشاطئ المجهول، هو نافذة تطل منها البشرية إلى غاياتها العليا، وأهدافها البعيدة، وآمالها في الإنسانية السامية، هو مفتاح الروح إلى عالم غير منظور تتنور فيه الأفق المنير في جانب من النفس الإنسانية، هو نبوة على قدر أنبيائها، فيها من الوحي والإلهام، وفيها الإسراء إلى الملإ الأعلى على جناحي ملك جميل ... هو مادة الشعر وجلاء الخاطر وصقال النفس وينبوع الرحمة وأداة البيان.
كذلك كان الحب عند الرافعي، ولذلك كان يحب ... وسعى إلى الحب أول ما سعى على رجليه، منطلقا بإرادته ليبحث في الحب عن ينبوع الشعر، فلما بلغ أغلق الباب من دونه فظل يرسف في أغلاله سنين لا يستطيع الفكاك من أسر الحب.
وكانت «عصفورة» أول من فتح لها قلبه فسيطرت عليه وغلبته على نفسه، وهي فتاة من «كفر الزيات» لقيها ذات يوم على الجسر، وسنه يومئذ إحدى وعشرون سنة، فهفا إليها قلبه، وتحرك لها خاطره، وكان للرافعي في صدر شبابه على «جسر كفر الزيات» مغدى ومراح، ومن عيون الملاح على هذا الجسر تفتحت زهرة شبابه للحب، وجاشت نفسه بمعاني الشعر.
ومن وحي هذا الحب كان أكثر قصائد الرافعي الغزلية في الجزء الأول من الديوان، ومنه كان ولوعه في صدر أيامه بلقب شاعر الحسن!
وبلغ الرافعي بعصفورة إلى غايته، واشتهر «شاعر الحسن» وترنم العشاق بشعره وما بلغت عصفورة إلى غايتها، ثم مضى كل منهما إلى طريق، وأتم الرافعي طبع ديوانه ... وكما ينتهي الحب الذي هو حيلة الحياة لإيجاد النوع، إلى الزواج أو إلى الغاية الأخرى ثم يبدأ في تاريخ جديد، كذلك انتهى حب الرافعي وعصفورة وأنجب ثمرته الشعرية في الجزء الأول من الديوان، ثم كان تاريخ جديد ...
وعلى مثال هذا الحب كم كانت له حبيبات وكم أنجبن من ثمرات، وإنه ليخيل إلي أن الرافعي كان كلما أحس حاجة إلى الحب راح يفتش عن «واحدة» يقول لها: تعالي نتحاب؛ لأن في نفسي شعرا أريد أن أنظمه، أو رسالة في الحب أريد أن أكتبها ...! ولقد سمعته مرة يقولها لإحداهن ... وسمعت إحداهن مرة تقول له: متى أراني في مجلسك مرة لتكتب عني رسالة في «ورقة ورد»؟
على أن الرافعي كان له إحساس عجيب في مجالس النساء! وكان لهن عليه سلطان وله عليهن سحر وفتنة، وهو في هذه المجالس فكه مداعب رائق النكتة لا تملك السيدة الرزان في مجلسه إلا أن تخرج عن وقارها، وكانت هذه أداته في استمالتهن حين يلتمس الوحي أو يجد الحاجة إلى أن يقرأ شعرا في عين ساحرة، فإذا استوى له ما أراد عاد إلى مكتبه لينشئ وينظم وتنتهي قصة حب.
وكان يسمي كل جميلة «شاعرة»؛ لأنها تمنحه الشعر، و«الشواعر» عنده طبقات، على مقدار ما يبعثن فيه من الشاعرية، ويرهفن من إحساسه، ففلانة شاعرة كالمتنبي وهذه كالبحتري، وتلك بنت الرومي، ورابعة بشار بن برد، وخامسة عبد الله عفيفي أو شاعر الرعاع ...
وحين يجلس في الشرفة من قهوة «لمنوس» بطنطا وتمر به الجميلات في رياضتهن أو في حاجتهن، تسمع ثبتا حافلا بأسماء الشعراء يبدأ من مهلهل بن ربيعة وينتهي بفلان الذي يؤمل أن يكون أمير الشعراء بعد أن يموت كل الشعراء ...!
هذه لمحات أذكرها على غير صلتها بالموضوع؛ لأنها تشير إلى بعض عناصره، على أنني - وقد بلغت هذا القدر من الحديث - لم أبدأ القول بعد عن حب الرافعي الذي أنشأت هذا الفصل للحديث عنه.
إنها حادثة وقعت في تاريخ الرافعي وسنه ثلاث وأربعون سنة فأنشأته خلقا جديدا، كانت دعابة من مثل ما قدمت فأوشكت أن تكون علة، فلما اختار الله له أنقذه بكبريائه من دائه، ولكنه خلف في قلبه جرحا يدمى، ولكنها كانت بركة في الأدب وثروة في العربية.
من تكون هذه الشاعرة التي غلبته على إرادته فغلبها بكبريائه؟ ما شأنها، وما خبرها؟ ...
هو وهي
لقد وضعك حسنك في طريقي موضع البدر، يرى ويحب ولا تناله يد ولا تعلق بنوره ظلمة نفس، ولكن كبرياءك نصبتك نصبة الجبل الشامخ، كأنه ما خلق ذلك الخلق المنتثر الوعر إلا لتدق به قلوب المصعدين فيه ... كوني من شئت أو ما شئت، خلقا مما يكبر في صدرك ومما يكبر في صدري، كوني ثلاثا من النساء كما قلت أو ثلاثة من الملائكة، ولكن لا تكوني ثلاثة آلام. انفحي نفح العطر الذي يلمس بالروح، واظهري مظهر الضوء الذي يلمس بالعين، ولكن دعيني في جوك وفي نورك. اصعدي إلى سمائك العالية، ولكن ألبسيني قبل ذلك جناحين. كوني ما أرادت نفسك، ولكن أشعري نفسك هذه أني إنسان ...!
هو
إن أمي ولدت نفسي، ونفسي هي ولدتني، فلا ترج أن تصيب في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب ...
هي «رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معا، هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته ...
كانا في الحب جزءين من تاريخ واحد، نشر منه ما نشر، وطوى منه ما طواه، على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي، فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه.»
1 •••
ولم تكن «هي»
2
أولى حبائبه ولكنها آخر من أحب، عرفها وقد تخطى الشباب وخلف وراءه أربعين سنة ونيفا حافلة بأيام الهناءة، مشرقة بذكريات الهوى والصبابة والأحلام، وكان بينهما في السن عمر غلام يخطو إلى الشباب.
3
سعى إلى مجلسها يوم «الثلاثاء» سعي الخلي إلى اللهو والغزل، يلتمس في مجلسها مادة الشعر، وجلاء الخاطر، وصقال النفس، ومجلسها في كل «ثلاثاء» هو ندوة الأدب ومجمع الشعراء، وجلس إليها ساعة، وتحدث إليها، وتحدثت إليه، وكان كل شيء منها ومما حولها يتحدث في نفسه، ولمسه الحب لمسة ساحر جعلت في لسانه حديثا ولعينيه حديثا، وطال انفرادها به عن ضيوفها، فما تركته إلا لتعتذر إليهم فتعود إليه ... ثم قامت تودعه إلى الباب وهي تقول: «متى تكون الزيارة الثانية؟» فنهى النفس عن الهوى ونسأ الأجل إلى غد ...!
ووقع من نفسها كما وقعت من نفسه، فما افترقا من بعدها إلا على ميعاد، ومحت صورتها من ماضيه كل ما كان في أيامه وكل من عرف، لتملأ هي نفسه بروعتها ودلالها وسحرها، وانتزعها هو من أيامها فما بقي لها من أصحابها وصواحبها غير مصيف
4
مشغلة في الليل والنهار.
وكان الرافعي أول من يغشى مجلسها يوم الثلاثاء وآخر من ينصرف، فإن منعه شيء عن شهود مجلسها في القاهرة كتب إليها من طنطا وكتبت إليه، على أن يكون له عوض مما فاته يوم وحده ...
كان يحبها حبا عنيفا جارفا لا يقف في سبيله شيء، ولكنه حب ليس من حب الناس، حب فوق الشهوات وفوق الغايات الدنيا؛ لأنه ليس له مدى ولا غاية.
لقد كان يلتمس مثل هذا الحب من زمان ليجد فيه ينبوع الشعر وصفاء الروح، وقد وجدهما، ولكن في نفسه لا في لسانه وقلمه، وأحس وشعر وتنورت نفسه الآفاق البعيدة، ولكن ليثور بكل ذلك دمه وتصطرع عواطفه، ولا يجد البيان الذي يصف نفسه ويبين عن خواطره ...
بلى، قد كتب ونظم وكان من إلهام الحب شعره وبيانه، ولكنه منذ ذاق الحب أيقن أنه عاجز عن أن يقول في الحب شعرا وكتابة، ومات وهو يدندن بقصيدة لم ينظمها ولم يسمع منها أحد بيتا؛ لأن لغة البشر أضيق من أن تتسع لمعانيها أو تعبر عنها؛ لأنها من خفقات القلب وهمسات الوجدان.
و«هي» أديبة فيلسوفة شاعرة، فمن ذلك كان حبها وكان وحبه «من خصائصها أنها لا تعجب بشيء إعجابها بدقة التعبير الشعري ... إنها تريد أن تجمع إلى صفاء وجهها وإشراق خديها وخلابتها وسحرها، صفاء اللفظ وإشراق المعنى وحسن المعرض وجمال العبارة، وهذا هو الحب عندها ...» «... ولا يستخرج عجبها شيء كما يعجبها الكلام المفنن المشرق المضيء بروح الشعر، فهو حلاها وجواهرها، وما لسوق حبها من دنانير غير المعاني الذهبية، فإنها لا تبايعك صفقة يد بيد، ولكن خفقة قلب على قلب.»
5 •••
وكذلك تحابا، وتراءيا قلبا لقلب، وتكاشفا نفسا لنفس، ومضى الحب على سنته، ونظر الرافعي إليها وإلى نفسه وراح يحلم، وخيل إليه أنه يمكن أن يكون أسعد مما هو لو أنها ... لو أنها كانت زوجته ...
6
ثم عاد إلى نفسه يؤامرها فأطرق من حياء ... وكانت خطرة عابرة من خطرات الهوى أطافت به لحظة وما عادت، وقالت له نفسه كلاما وقال لنفسه كلاما آخر، فكأنما انكشفت له أشياء لم يكن يراها من قبل بعيني العاشق، فلم تكد القصة تبلغ نهايتها وتنحل العقدة، حتى جاءت كبرياؤه لتخط الخاتمة ...
وراح الرافعي يوما إلى ميعاده، وكان في مجلسها شاعر
7
جلست إليه تحدثه ويحدثها، ودخل الرافعي فوقفت له حتى جلس، ثم عادت إلى شاعرها لتتم حديثا بدأته، وجلس الرافعي مستريبا ينظر، وأبطأت به الوحدة، وثقل عليه أن تكون لغيره أحوج ما يكون إليها، ونظر إلى نفسه وإلى صاحبه، وقالت له نفسه: «ما أنت هنا وهي لا توليك من عنايتها بعض ما تولي الضيف ...؟» فاحمر وجهه وغلى دمه، ورمى إليها نظرة أو نظرتين، ثم وقف واتخذ طريقه إلى الباب ... واستمهلته فما تلبث، وكتب إليها كتاب القطيعة ...!
وعاد إليه البريد برسالتها تعتذر وتعتب وتجدد الحب في أسطر ثلاثة، ولكن الرافعي حين وجد كبرياءه نسي حبه، وكان هو الفراق الأخير ...!
كان ذلك في سنة 1923.
وثابت إليه نفسه رويدا رويدا، وخلا إلى خواطره وأشجانه ليكتب رسائل الأحزان!
ومضت ثلاث عشرة سنة، أو أربع عشرة سنة، لم يلتقيا وجها لوجه، إلا مرة في حفل أدبي في طنطا، فما كانت إلا نظرة وجوابها، ثم فر أحدهما من الميدان وخلف الآخر ينتظر ...
8
على أن الرافعي لم ينس صاحبته قط، وعاش ما عاش بعد ذلك وما تبرح خاطره لحظة، وما يأنس إلى صديق حتى يتحدث إليه فيما كان بينه وبين «فلانة»
9
ثم يطرق هنيهة ليرفع رأسه بعدها، وهو يقول: «هل يعود ذلك الماضي؟ إنها حماقتي وكبريائي، ليتني لم أفعل، ليت ...!» ثم ينصرف عن محدثه إلى ذكرياته، ويطول الصمت ...
وكان لا ينفك يسأل عنها من يعرف خبرها، حتى عرف أنها سافرت إلى الشام في سنة 1936 تستشفي فأقامت هناك، فهفت إليها نفسه وتحركت عاطفته إليها في لون من الحب وغير قليل من الندم، فكتب إلى صديقة في «دمشق» لتزورها في مستشفاها
10
وتكتب إليه بخبرها، فكتبت إليه:
11 ... بالصدق يا صديقي أنني كلما استعدت بذاكرتي وصية «فلانة» المؤلمة ونتيجتها المحزنة، اعترتني حالة انقباض شديد وحزن لا حد له ... إن الموت في مثل هذه الحالات يعد كنزا ثمينا لا يحصل عليه إلا السعيد، وإني أتهمك قانونا ... بأنك كنت سبب جنونها، فماذا كان عليك لو لبيت الدعوة ؟ آه، لقد كنت قاسيا وفي منتهى القسوة، فهل كان يحلو لك تعذيبها بهذا الشكل، وإلا فماذا تقصد من هذه القطيعة؟ إن المرأة على حق حين تظن، لا، بل حين تعتقد أن الرجل ... لا، السكوت أولى الآن ...
أما هذه «الوصية» التي تشير إليها الكاتبة في رسالتها، فلست أعرف ما هي، فلم تقع لي كل رسائل الكاتبة، ولست أعرف أين كان يخبؤها الرافعي من مكتبه، ولعل ولده «الدكتور محمد» يدري، فإن كان؛ فإن كان عليه حقا للأدب أن يحتفظ بما عنده من الرسائل إلى أوانها، فسيأتي يوم تكون فيه هذه الرسائل شيئا له قيمته في البحث الأدبي. •••
قلت: إن الرافعي قطع ما بينه وبين صاحبته منذ ثلاث عشرة سنة، لم يلتقيا فيها إلا مرة، ولكنه كان يكتب لها وتكتب له رسائل لا يحملها ساعي البريد؛ لأنه كان ينشرها وتنشرها في ثنايا ما تنشر لهما الصحف من رسائل أدبية، يقرؤها قراؤها فلا يجدونها إلا كلاما من الكلام في موضعها من الحديث أو المقالة أو القصة، ويقرؤها المرسل إليه خاصة فيفهم ما تعنيه وما تشير إليه، ثم يكون الرد كذلك، حشوا من فضول القول في حديث أو مقالة أو قصة، هي رسائل خاصة ولكنها على أعين القراء جميعا وما ذاع السر ولا انكشف الضمير، وفي أكثر من مرة والرافعي يملي علي مقالاته، كان يستمهلني برهة ليعيث في درج مكتبه قليلا فيخرج ورقة أو قصاصة يملي علي منها كلاما، ثم يعود إلى إملائه من فكره، وأعرف ما يعنيه فأبتسم ويبتسم، ثم نعود إلى ما كنا فيه، وتنشر المقالة، فلا نلبث أن نجد الرد في رسالة تكتبها «فلانة» فيتلقاها الرافعي في صحيفتها كما يفض العاشق رسالة جاءته في غلافها مع ساعي البريد من حبيب ناء ...
هي طريقة لم يتفاهما عليها ولكنهما رضياها، وأحسب ذلك نوعا من الكبرياء التي ربطتهما قلبا إلى قلب، والتي فرقت بينهما على وقدة الحب وحرقة الوجد والحنين! •••
وكنت أسير مع الرافعي مرة بالقاهرة في شتاء سنة 1935، فلما انتهينا إلى القرب من مبنى جريدة «الأهرام»، قال لي: «مل بنا إلى هذا الشارع!» ولم تكن لنا في ذلك الشارع حاجة، ولكني أطعته، وانتهينا إلى مكان، فوقف الرافعي معتمدا على عصاه، ورفع رأسه إلى فوق وهو يقول: «إنها هنا، هذه دارها، من يدري؟ لعلها الآن خلف هذه النافذة ...!»
قلت: «من؟» قال: «هي!»
قلت: «ولكن النوافذ مغلقة جميعا ولا بصيص من نور، فأين تكون؟»
قال: «لعلها الآن في السيما، إذا كان الصباح فاغد علي مبكرا لنزورها معا، إن بي حنينا إلى الماضي ... ليتني ... ولكن أترى من الائق أن أزورها بعد كل ما كان؟»
قلت: «وما يمنع؟ أحسبها ستسر كثيرا بلقياك ...!»
قال: «إذن في الصباح، وستكون معي، ولكن احذر، احذر أن تغلبك على قلبك ... أو أن تسمح لخيالك أن يسبح وراء عينيك ... إنها فاتنة!»
قلت: «لا؛ إنها عجوز، فما حاجتي بها ...؟» وضحكت مازحا.
فزوى ما بين عينيه وهو يقول: «وي! عجوز! إنها أوفر شبابا منك!»
قلت: «قد يكون ذلك لو أن السن قد وقفت بها منذ اثنتي عشرة سنة ...!»
قال: «صدقت ...! اثتني عشرة سنة ...!»
وسكت وسكت حتى أوصلته إلى دار أخيه على شاطئ النيل عند فم الخليج، فلما كان الصباح غدوت عليه فأذكرته موعده! فابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول: «يا بني، إنها ليست هناك، إن «تلك» قد ذهبت منذ اثنتي عشرة سنة، أما «هذه» فأظنني لا أعرفها ... إنني أحذر على الماضي الجميل أن تتغير صورته في نفسي ... بحسبي أنها في نفسي ...!»
ثم لم يلبث بعد ذلك أن جاءه النبأ أنها سافرت إلى الشام لعلة في أعصابها ...!
شعر وفلسفة، وحب وكبرياء (1) «إن في الرجل شيئا ينقذ المرأة منه وإن ملك بحبها، وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه؛ فيه الرجولة إذا كان شهما، وفيه الضمير إذا كان شريفا، وفيه الدم إذا كان كريما، فوالذي نفسي بيده، لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره، إلا عاذت - والله - بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة.» (2) «... ويسرف علي بغضها أحيانا، فأتلهف عليها في زفرات كمعمعة الحريق حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة، فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس، ثم يسرف علي حبها أحيانا، فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته، يتطوح من غمرة إلى غمرة، فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مائة درجة لأهبط مائة درجة ...!» (3) «لقيتها وما أريد الهوى ولا تعمده قلبي، ولا أحسب أن فيها أمورا ستئول مآلها، وكنت أظن أن المستحيل قسمان: ما يستحيل وقوعه فلا تفضي إليه، وما يمكن وقوعه فتهمله فلا يفضي إليك، ولكن حين توجد المعجزة تبطل الحيلة، ومتى استطردك القدر الذي لا مفر منه، أقبل بك على ما كنت منه تفر.» (4) «... إنها لأبلغ ذات لسان، وأبرع ذات فكر، وأروع ذات نفس، ولو كنا سليلي أبوة ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفا، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفا، وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي أشهد لها ...!» (5) «... دعني أقول لك: إني أبغض من أحبها ... وإن هذا البغض وجه آخر من الحب، كالجرح: ظاهره له ألم وباطنه له ألم.» (6) «... وكما ينشأ الكفر أحيانا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب!»
الرافعي
أترى صوتي يبلغ إليها حيث تقيم بالشام شاردة الخيال مستطارة القلب؟
12
أم ترى صوتي يبلغ إليه تحت أطباق الثرى وبيننا هذا القدر من عمر الزمان كأنه من البعد وانفساح المدى سنوات وسنوات؟
إنه ليخيل إلي أن هذا الحديث الذي أكتبه عنها وعنه هو رسالة من الغيب. إلى هذه الحبيبة الواجدة المحزونة، من الحبيب الذي أحبها أعنف الحب وأرقه وما تراءى لها مع ذلك في عمره الطويل إلا الرجل القاسي الذي حطم قلبها بقسوته وكبريائه، ومات وما تلقت رسالته الأخيرة، فنفذت روحه من أقطار السموات لتمليها علي وفيها المعذرة والاستغفار ...
آه لو تدرين كم كان يحبك أيتها الحبيبة! ... فهل كنت ...؟ ولكن ... ولكن لا سبيل إلى ما فات ...! •••
لقد أحبها جهد الحب ومداه، حبا أضل نفسه وشرد فكره وسلبه القرار، ولكنه حب عجيب، ليس فيه حنين الدم إلى الدم، ولكن حنين الحكمة إلى الحكمة، وهفوة الشعر إلى الشعر، وخلوة الروح إلى الروح في مناجاة طويلة كأنها تسبيح وعبادة، وأسرف عليه هذا الحب حتى عاد في غمراته خلقا بلا إرادة فليس له من دنياه إلا «هي»، وليس له من نفسه إلا ما تهب له من نفسه!
والرافعي رجل كان له ذات وكبرياء، فأين يجد من هذا الحب ذاته وكبرياءه؟ هكذا سألته نفسه! •••
وأحبها أديبة فيلسوفة شاعرة تستطيع أن ترتفع إلى سمائه وتحلق في واديه، وله مثل قدرتها على الطيران والتحليق في آفاق الشعر والحكمة والخيال، فما التقيا مرة حتى كان حديثهما فنونا من الشعر وشذرات من الفلسفة وقليلا من لغة العشاق في همس من لغة العيون ... وقال لها مرة: «إن الحب يا عزيزتي ...»
قالت: «إن فلسفة الحب ...»
قال: «بل، أعني حقيقة الحب ومعناه ...»
قالت: «دع عنك يا حبيبي ... إن أحلام الحب هي شيء غير الحب، أفأنت تريد ...؟»
فاختلجت شفتاه وأطرق، وراح يسأل نفسه: «ما الحب؟ وما فلسفة الحب؟ يا ضيعة المنى إن كان الحب شيئا غير الذي في نفسي!»
وتحدث ضميره في ضميرها فابتسمت وهي تقول: «أنا ما أحببتك رجلا، بل فكرا وروحا ونفسا شاعرة، وأنت بكل ذلك ملء نفسي وملء قلبي، فلا تلتمس في طباع أنثى وإلا ضل ضلالك أيها الحبيب ...!»
قال: «فهل رأيتني يا حبيبتي إلا فكرة تطيف أبدا بك، وروحا ترفرف حواليك، ونفسا تغترف الشعر والحكمة من وحي عينيك ...؟»
قالت: «دع عنك ذكر عيني يا حبيبي، إن الحب ليس هناك، إن الحب ...»
قال: «لا تحدثيني عن الحب، يخيل إلي أني أعرفه؛ لأني أجد مسه على قلبي كلذع الجمر، ولكن آه، ولكنك أنت ...»
وقالت له نفسه: «إنك - يا صاحبي - تضرب في بيداء، إن الشعر والحكمة والفلسفة لا تلد الحب، فهل أحببتها أنت إلا للشعر والحكمة والفلسفة؟ فلن تجد بذلك منها الحب، إن الحب من لغة القلب، أما هذه ...»
وكان يحبها أديبة فيلسوفة شاعرة، فعاد يباعد بينه وبينها؛ أنها فيلسوفة شاعرة! •••
وهي امرأة كانت - إلى أدبها وفلسفتها - «فتنة خلفت امرأة، فإذا نظرت إليك نظرتها الفاترة فإنما تقول لقلبك: إذا لم تأت إلي فأنا آتية إليك ... وهي أبدا تشعر أن في دمها شيئا لا يوصف ولا يسمى، ولكنه يجذب ويفتن، فلا تراها إلا على حالة من هذين، حتى ليظن كل من حادثها أنها تحبه وما به إلا أنها تفتنه ...
رشيقة جذابة تأخذك أخذ السحر؛ لأن عطر قلبها ينفذ إلى قلبك من الهواء، فإذا تنفست أمامها فقد عشقتها ...
أما أنوثتها فأسلوب في الجمال على حدة، فإذا لقيتها لا تلبث أن ترى عينيك تبحثان في عينيها عن سر هذا الأسلوب البديع، فلا تعثر فيهما بالسر، ولكن بالحب وتنظر نظرة الغزال المذعور ألهم أنه جميل ظريف فلا يزال مستوفزا يتوجس في كل حركة صائدا يطلبه ...»
13
والرافعي رجل كان - على دينه وخلقه ومروءته - ضعيف السلطان على نفسه إذا كان بإزاء امرأة، فما هو إلا أن يرى واحدة لها ميزة في النساء حتى يتحرك دمه، وتنفعل أعصابه، وما كان - رحمه الله - يرى في شدة الإحساس بالرجولة وفي سرعة الاستجابة العصبية إلى المرأة إلا أنها أحد طرفي النبوغ، أو أحد طرفي النبوة كما كان يقول، فما كان يرى له وقاية من سحر المرأة حين يحس أثرها في نفسه إلا أن يسرع في الفرار، وكثيرا ما كان يقول: «الفرار الفرار، إنه الوسيلة الواحدة إلى النجاة من وسوسة الشيطان وغلبة الهوى ...!»
وقالت له نفسه: «ما أنت وهذا الحب الذي سلبك الإرادة وغلبك على الكبرياء، ويوشك أن يهوي بك من وسوسة النفس وفتنة الهوى إلى أرذال البشرية ...!»
فكان لصوت النفس في أعماقه صدى بعيد ... •••
وكان يحبها ليجد في حبها ينبوع الشعر، فما وجد الحب وحده، بل وجد الحب والألم وثورة النفس وقلق الحياة، ووجد في كل أولئك ينابيع من الشعر والحكمة تفيض بها نفسه وينفعل بها جنانه ويضيء بها فكره، وكان آخر حبه الألم، وكانت آلامه أول قدحة من شرار الشعر والحكمة ...
وقالت له نفسه: «ها أنت ذا قد بلغت من الحب ما كنت ترجو، فلم تبق إلا الغاية الثانية، وإنك عنها لعف كريم ...!» •••
وهي فتاة ذات جمال وفتنة، ولها لسان وبيان، وما يمنعها دينها ولا شيء من تقاليد أهلها أن يكون لها مجلس من الرجال في ساعة في يوم من كل أسبوع، يضم من شعراء العربية ورجالاتها أشتاتا لا يؤلفها إلا هذا المجلس المعطر بعطر الشعر وعطر المرأة الجميلة، أفتراهم يجتمعون في دارها كل أسبوع لتتوارى منهم خلف حجاب فلا سمر ولا حديث؟!
والرافعي غيور شموس كثير الأثرة، لا يرضيه إلا أن يكون على رأس الجماعة، وقالت له نفسه: «أأنت هنا وحدك أم ترى لكل واحد من هؤلاء هنا هوى وحبيبا ...؟» •••
وكانت القطيعة بين الرافعي وبينها من أجل ذلك كله، من أجل أن له ذاتا وكبرياء، وما يريد أن تفنى ذاته وكبرياؤه في امرأة، ومن أجل أنها فيلسوفة وشاعرة، وما تجتمع الفلسفة والحب في قلب حواء، ومن أجل أنها أنثى وأنه رجل له دين ومروءة وزوجة ودار، ومن أجل أنه بلغ مبلغه منها حين وجد الألم في حبها فوجد ينبوع الشعر الذي كان يفتقد، ومن أجل أنه الرافعي الغيور الظنين الكثير الأثرة والاعتداد بالنفس ...!
وخيل إليه حين كتب إليها رسالة القطيعة في يناير سنة 1924 أنه يبغضها، وأن هذا الحب الذي قطعه عن دنيا الناس عاما بحاله قد انتهى من تاريخه وطواه القدر في مدرجة الفناء، وأن نفسا كانت في الأسر قد خرجت إلى فضاء الله ...
وأحس في نفسه حديثا طويلا يريد أن يفضي به، وشعر كأن في قلبه نارا تلظى، واصطرعت في نفسه ذكريات وذكريات، وخيل إليه أنه يكاد يختنق، فصاح من كل ذلك مغيظا محنقا يقول: «أيتها المحبوبة، إنني أبغضك ... إنني أبغضك أيتها المحبوبة!»
ليت شعري، أكان الرافعي يعني ما يقول؟ أكان على يقين حين زعم أنه يبغضها؟ أم أنه استعار للحب لفظا متكبرا من كبريائه العاتية فسماه البغض، وما هو به، ولكنها ثورة الحب حين يبلغ عنفوانه فتختلط به مذاهب الفكر ومذاهب النظر فلا يبقى فيه شيء على حقيقته؟
كلا، ما أبغض الرافعي صاحبته يوما منذ كانت، ولا استطاع أن يفك نفسه من وثاقها، وما هذه الثورة التي ألهمته كتابيه «رسائل الأحزان»، و«السحاب الأحمر» إلا لون من ذلك الحب وفصل من فصوله وكان الخطأ في العنوان، فلما ثابت إليه نفسه نزا به الحنين إلى الماضي، ولكن كبرياءه وقفت في سبيله، فظل حيث هو، ولكن قلبه ظل يتنزى بالشوق والحنين ...!
وجاءت صاحبته إلى طنطا بعد ذلك بقليل، مدعوة إلى حفلة خيرية لتخطب، وكان الرافعي مدعوا لمثل ما دعيت له، وعلى غفلة التقت العيون، فدار رأس الرافعي وذهب به، وعاد الزمان القهقرى، لينشر ماضيه على عينيه، وزلزلت نفسه زلزالا شديدا، حتى أوشك أن تغشاه غاشية، وحاول أن يتحدث فوقفت الكبرياء بين قلبه ولسانه، وخشي أن يفتضح فنهض عن كرسيه منطلقا إلى الباب، ولحقه صديقه الأديب جورج إبراهيم، فأفضى إليه بذات صدره وودع صاحبته بعين تختلج، ومضى ...
وانتهى الحفل، ووقفت «هي» تدير عينيها في المكان فما استقرتا على شيء، ووجدت في نفسها الجرأة على أن تقول: «أين الرافعي؟» فما وجدت جوابا ... وكان الرافعي وقتئذ جالسا إلى مكتبه ينشئ قصيدة لمجلة المقتطف عن بعث الحب ... وكان آخر لقاء ...! •••
ولقيت الرافعي في خريف سنة 1932، فتسرحنا في الحديث عن الحب، فكشف لي عن صدره في عبارات محمومة وكلمات ترتعش، ثم قال: «... وإن صوتا ليهتف بي من الغيب أن الماضي سيعود، وأنني سألقاها، وسيكون ذلك في تمام عشر سنين من رسالة القطيعة، في يناير سنة 1934 ...» وأخذ يقبض أصابعه ويبسطها، ثم قال: «نعم، بعد أربعة عشر شهرا سيكون هذا اللقاء ... إن قلبي يحس، بل إنني لموقن ... بعد أربعة عشر شهرا، في تمام السنة العاشرة منذ فارقتها مغضبا، سنلتقي ثانية، ويعود ذلك الماضي الجميل، إنها تنتظر، وإنني أنتظر ...!» وظل على هذا اليقين أشهرا وهو يحصي الأيام والأسابيع كأنه منها على ميعاد ...!
ومضت السنوات العشر، ومضى أربعون شهرا بعدها، وما تحقق أمله في اللقاء حتى لقي الله ...! •••
هذا هو الرافعي العاشق، جلوت صورته كما عرفته، أما هي، أما صاحبته التي كان من تاريخه معها ما كان، فهل كانت تحبه؟ وما كان هذا الحب؟ وماذا كانت غايته؟
هي وهو
أتذكر إذ التقينا وليس بيننا شابكة فجلسنا مع الجالسين، لم نقل شيئا في أساليب الحديث غير أننا قلنا ما شئنا بالأسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما؟ ... وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل، كأن في كلينا قلبا ينتظر قلبا من زمن بعيد؟ ... ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسلحتها ... وأثبت اللقاء بشذوذه أنه لقاء الحب ...؟
وقلت لي بعينيك: أنا ... وقلت لك بعيني: وأنا ... وتكاشفنا بأن تكاتمنا؟
وتعارفنا بأحزاننا كأن كلينا شكوى تهم أن تفيض ببثها؟
وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تضع الحزن في نفس من يراها، فإذا هو إعجاب، فإذا هو إكبار، فإذا هو حب؟
وعودت عيني من تلك الساعة كيف تنظران إليك؟
وجعلت أراك تشعر بما حولك شعورا مضاعفا كأن فيه زيادة لم تزد؟
وكان الجو جو قلبينا ...
وتكاشفنا مرة ثانية بأن تكاتمنا مرة ثانية ...
هي ... بماذا أصف مكانا للحب كأنما مر به سر الخلود فإذا الوقت فيه لا يشبه نقصانا من العمر، بل زيادة عليه، وكانت يا حبيبتي كل دقيقة وثانيتها في مجلسك الساحر كأنها بعض الفكرة والحس لا بعض الزمان والمكان ... ... وكنت وما أشعر من سحرك إلا أني بإزاء سر وضعني في ساعة من غير الدنيا وحصرني فيك وحدك ...
وهاجمتني من يقظتي واقتحمت علي من حذري ...
وخليتني وعينيك، وخليتني وما كتب علي ...
واتسعت روحي لتشملك، فما كنت تتكلمين ولا تضحكين ولا تخطرين في غرفتك، ولكن في داخل نفسي ... ... وكنا نتكلم ولكن ألفاظنا تتعانق أمامنا ويلثم بعضها بعضا من حيث لا يراها إلا عيناي وعيناك.
وتراءت النفسان فملأتا المكان بأفراح الفكر، واستفاض السرور على جمالك بمعنى كلون الزهرة النضرة، هو عطرها للنظر.
وقلت لي بجملتك: أنا ... وقلت لك بجملتي: وأنا ...
هو
إني لأعرفه عرفاني بنفسي، فما بي شك فيما أكتب عن حبه، ولقد خلطني بنفسه زمنا فإني لأسمع نجواه وأقرأ سره وأعرف ذات صدره، فما أصف من حبه إلا مستيقنا كأنما أنقل عن لوح مسطور في فؤادي، أو أثبت من حادثة في تاريخ أيامي ماثلة في نفسي بصورها وألوانها وحوادثها فما يغيب عني منها شيء، ولولا تقاليد الناس وآداب الجماعة لمزقت النقاب عن وجه الحديث وجلوته على القراء في بيان سافر كإشراق الضحى، ولكن ... ولكنها هي ...
أما هي فما في يدي شيء من خبرها إلا ما حدثني به الرافعي أو حدثتني رسائله، فما أتحدث عن حبها إلا راوية يكتب ما يسمع لا ما يشهد، أو محققا يضع كلمة إلى كلمة، ويزاوج بين رسالة ورسالة، ليخرج منهما معنى ليس في يده من حقيقته شيء إلا ما يهديه الفكر وصواب الرأي وملابسات الحادثة.
وإنها لأديبة شاعرة يعرفها كثير من قراء العربية وأعرفها عرفانهم، وحسبي هذا مقدمات إلى النتيجة، وما يعسر على من يمسك طرف الخيط أن يصل إلى آخره. •••
لقد التقيا وما بينهما شابكة ولا يربطهما سبب، فما كانت إلا نظرة وجوابها حتى ارتبطا قلبا إلى قلب، وكان الأدب رباط بينهما أول ما كان، ثم استجرهما الحديث إلى فنون من الكلام فكشفت له عن آلامها وكشف لها عن آلامه، فكان عطف وإشفاق، ثم تحدثت عن أحلامها وتحدث عن أحلامه، فكان الحب، ثم ... ثم كانت القطيعة حين بلغ الحب غايته ونال مناله من نفسها ومن نفسه، فافترقا حين كان يجب أن يبدأ اللقاء ليتذوقا سعادة الحب ويقطفا من ثمراته ... وضرب الدهر من ضرباته فإذا هو تحت الرغام، وإذا هي في المستشفى تتمرض من وهن في أعصابها! •••
لم تكن «هي» تقصد الحب ولا تعمدته ولا كان هو، ولكنها أديبة تعرف موازين الكلام، لقيت الأديب الذي تعجب به ويفتنها بيانه، فأحبته «عقلا جميلا»، كما تسميه في بعض رسائلها ...
وكان سعيه إليها يلتمس الشعر والحكمة، والشعر والحكمة هما رابطتها إليه وفاتنتها به، فتصنعت له لتفتنه وتزيده شعرا وحكمة، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيده، ثم تصنعت لتزيد هي به؛ لأنها وجدت به نفسها، ووجدت به الشعر والحكمة والبيان، فأحبته «أستاذها ومرشدها»؛ لأنه أوحى إليها ما عجز دونه الآخرون؛ لأنه فجر لها ينبوع الشعر وعلمها البيان، هكذا تقول في بعض رسائلها ... •••
وهي فتاة لم يسالمها الدهر ولم تزل منذ كانت غرضا لسهام الأيام، تنوشها الآلام من كل جانب، ولها نفس شاعرة تضاعف أحزانها فتجعل لها من كل هم همين، وإن حواليها لكثيرا من الأصدقاء يزدلفون إليها ويخطبون ودها، ولكنها تريد الصديق الذي يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه أكثر مما تريد، الصديق الذي لا تسمع منه إلا كلمات الزلفى والتحبب واصطناع الهوى والغرام ... وتحدث إليها الرافعي وتحدثت إليه، وقصت عليه من أحزانها، فاخضلت عيناه وأطرق، فوضعت يدها على يده وهي تقول: «سأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر، وسأدعوك قومي وعشيرتي، أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دواما بالمحبين، وسأدعوك أخي وصديقي، أنا التي لا أخ لي ولا صديق، وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة، أنا التي تتخيل في قوة الأبطال ومناعة الصناديد!
وسأبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري ...!»
14
وأحبته «صديقا» تفزع إليه إذا ضاقت بآلامها وحزبتها الهموم ... •••
وهي الفتاة التي لم تعرف في حياتها إلا التجهم والعبوس، ولم تعرف من دنياها إلا الجد الصارم، ولم يكن لها من عمل غير الاستغراق في الفكر، أو الاستغراق في الفن، وإنها لأنثى وإن كانت فيلسوفة شاعرة ...
والرافعي رجل كان لا يحمل من هم، فما يدع المزاح والدعابة، وإن الدنيا لتصطرع حواليه وإن كان القضاء منه بمرصد يراه ويتوقعه، وإنه ليهزل في أجد الجد وأحرج الساعات هزله في أصفى حالاته وأسعد أيامه، فما يجالسه ذو هم إلا سري عنه، كأنما يمسح قلبه فيمحو أحزانه ...
وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته «الرفيق الأنيس» الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه ... •••
واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين، ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة صافية لا تعرف الخداع والتزوير، ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامة لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال، ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت، وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها، وأحست في نفسها إحساسا ليس لها به عهد، فتناولت قلمها لتكتب له:
15
سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد، وسأستمع إلى جميع الأصوات؛ علي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأشرح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك ... وسأبتسم في المرآة ابتسامتك.
في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك ...
سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل ...
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورا؛ لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون. أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم! أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم ...!
وكان حبها إعجابا بالعقل الجميل، ثم تقديرا لأستاذها الذي فجر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالا للصديق الذي وجدت مفزعها إليه، ثم انعطافا إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم ... ثم حبا يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه ...
وأضلها الهوى وأضله، وخيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفع محلا لو أنها منعته بعض ما تمنحه، وخيل إليه أنه يستطيع، وقالت له: «أنا لا أشفق على آلامك، وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟» وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته، ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت، وما عرفت إلا من بعد أنه يحبها حبا لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان، وما عرف إلا من بعد أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان ...
وعرف وعرفت، ولكن العقدة لم تجد من يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر، وظل وظلت وبينهما البعد البعيد على هوى وحنين ... حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصت على الأحياء ...
تعقيب
16 ... هذه قصة الرافعي وفلانة، كما رواها لي، وكما يعرفها كثير من خاصته، وإني لأعلم أن كثيرا ممن يعرفونها ويعرفونه سيدهشون إذ يقرءون قصة هذا الحب، وسيتناولونها بالريبة والشك، وسيقول قائل، وسيدعي ومدع، وسيحاول محاول أن يفلسف ويعلل، ولا علي من كل أولئك ما دمت أروي القصة التي أعرفها، والتي كان لها في حياة الرافعي الأدبية تأثير أي تأثير يرد إليه أكثر أدبه من بعد، وحسبه أنه كان الوحي الذي استمد منه الرافعي فلسفة الحب والجمال في كتبه الثلاثة: رسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحسبي أنني قدمت الوسيلة لمن يريد أن يدرس هذه الكتب الثلاثة على أسلوب من العلم جديد!
على أني مسئول أن أبرئ نفسي أمام قدس الحق، فأعترف هنا بأن ما رويت من هذه القصة كان مصدره الرافعي نفسه، مما حدثني به وحدث أصحابه، أو مما جاء في رسائل أصحابه إليه ممن كانوا يعرفون قصته، وما بي شك فيما روي من هذا الحديث، فما جربت عليه الكذب، ولا كان هناك ما يدعوه إلى الاختراع والتزيد كما يزعم من يزعم، ولكنها حقيقة أثبتها للتاريخ؛ لعل باحثا مدققا يوفق في غد إلى إثبات ما أعجز اليوم عن التعليل له.
على أن الرافعي قد أقرأني رسالة أو رسالتين بخط «فلانة» إليه، وهما وإن لم تدلا دلالة صريحة على حقيقة ما رويت من قصة هذا الحب، لا تنفيانها كذلك، بل لعلهما أقرب إلى الإثبات منهما إلى النفي، والحذر طبيعة المرأة!
ثم إن الرافعي لم يخصني وحدي برواية هذه الحادثة، فإن عشرات من الأدباء في مصر قد سمعوها منه، ومنهم من يعرف «فلانة» معرفة الرأي والنظر، ومنهم من كان يغشى مجلسها لا يتخلف عنه مرة، ومنهم من كان الرافعي يقصد بالحديث إليه أن يكون بريدا بينهما ينقل إليها حديثه شفة إلى شفة، وفي الناس برد إن لم تزد على ما سمعت من حديث الحب لم تنقص منه شيئا! فلو أن الرافعي كان يتزيد فيما روى لي ولأصحابي من حديث هذا الحب لخشي مغبة أمره، وإن «فلانة» يومئذ ذات جاه وسلطان!
وثمة برهان آخر لا يتناوله الشك: وهو رسالة من رسائلها نقلها الرافعي من كتاب من كتبها المعروفة لا أسميه، إلى كتابه أوراق الورد،
17
يزعم أنها رسالة منها إليه في كتاب، جوابا على رسالة بعث بها إليها - وكانت هذه بعض وسائلهما في المراسلة كما رويت من قبل
18 - وأوراق الورد معروف مشهور، وكتابها معروف مشهور كذلك، ومما لا يحتمل الشك أن تكون «فلانة» لم تقرأ هذه الرسالة في كتاب الرافعي ولم ينبهها أحد إليها، وأبعد منه في الشك أن تكون قد قرأت هذه الرسالة المنشورة قبل ذلك في كتاب يحمل اسمها ثم لم تفهم ما يعنيه الرافعي، ولا شيء وراء ذلك إلا أن تكون قرأت، وفهمت، وسكتت، ولا شيء بعد إلا أن يكون بينهما شيء يؤيد ما رواه الرافعي من قصة هذا الحب ...! •••
على أن اعتراضات ثلاثة توجهت إلى ما رويت من هذه القصة، لا بد من التنبيه إليها؛ أما أحدها فمن الأستاذ الأديب جورج إبراهيم، فهو ينكر علي أن أستند إلى هذه الرواية، ويروي لي أنه صحب الرافعي في أولى زياراته لفلانة، وشهد ما كان من تأثر الرافعي وانفعاله وجذبته، ولكنه إلى ذلك ينكر أن يكون بين الرافعي وفلانة صلة بعد هذه الزورة، ويصحح ما رويته عن الرافعي - وكان من سامعيه - بأنه حب من طرف واحد، اختلطت فيه مذاهب الفكر ومذاهب النظر فشبه للرافعي ما شبه، فما يحكيه هو صورة ما في نفسه لا صورة ما كان في الحقيقة ...!
فالرافعي عند الأستاذ جورج إبراهيم لم يكذب، ولكنه أخطأ التقدير والنظر، وعندنا أن عدم علم الأستاذ جورج أن صلة ما كانت بين الرافعي وفلانة بعد الزورة الأولى لا ينفي أن الصلة كانت حقيقة ولم يعلم بها، فحديثه من ثم لا ينفي شيئا ولا يثبته، ويبقى بعد ذلك ما يستنبط من الرأي على هامش القصة.
وقريب مما يرويه الأستاذ جورج، ما تستنبطه جريدة المكشوف في بيروت في حديث تناولت به بعض ما نشرنا من قصة حب الرافعي. •••
وتعقيب ثان توجه به صديقنا الأستاذ فؤاد صروف - محرر المقتطف - على ما رويناه، قال:
لقد سمعت هذه القصة من الرافعي كما رويتها، فما أشك في صحة ما تكتب، ولكني أسأل: هل كانت «فلانة» تبادل الرافعي الحب ...؟
هاك خبرا يدعوك معي إلى هذا السؤال: في يناير من سنة 1934 - أو 1935 - دعتني «فلانة» إلى مقابلتها، فلما شخصت إليها رأيت في وجهها لونا من الغضب، فدفعت إلي رسالتين من رسائل الحب بعث بهما الرافعي إليها لأرى رأيي فيهما، ثم قالت: ماذا تراني أفعل لأذود عن نفسي؟ أتراني أتقدم في ذاك إلى القضاء؟
قال الأستاذ صروف: «فاعتصمت بالصمت من لا ونعم، وتركت لها أن تستشير غيري، ولست أدري ما كان بعد ذلك!»
قلت: وهذه رواية جديرة بأن تذكر - ومعذرة من ذكرها إلى الأستاذ صروف - على أنها لا تدل على شيء في هذا المقام أكثر من أن فلانة لم يكن يروقها في سنة 1934 أن يتحبب إليها الرافعي، فماذا كان أمره وأمرها قبل ذلك بعشر سنين؟
أيكون لهاتين الرسالتين اللتين يتحدث عنهما الأستاذ صروف صلة بما كان في نفس الرافعي من يقين بأنه سوف يلقى فلانة ليصل ما انقطع من حبال الود بعد عشر سنين من يوم القطيعة.
19
أعني: هل حاول الرافعي - بعد عشر سنين من القطيعة - أن يعيد ما كان بهاتين الرسالتين فلم يصادف قلبا يستجيب لدعائه؟
على أن هذا الخبر - أيضا - لا ينفي شيئا ولا يثبته، ولكنه يفتح بابا إلى الاستنباط والرأي.
ولكن مما لا شك فيه أن الرافعي لم يكن يعلم شيئا عن وقع هاتين الرسالتين في نفس صاحبته، ولا أحسبها صنعت شيئا يدل على مبلغ استيائها من هاتين الرسالتين، وإلا لما ظل يتعلق بالأمل في لقائها إلى شتاء 1935، وكنت معه لما هم بزيارتها.
20 •••
وثمة اعتراض ثالث يعترضه الدكتور زكي مبارك، وما كان لي أن أثبته هنا لولا أن أثبته هو في كتاب من كتبه نشره على الناس منذ قريب،
21
ولولا أن أشار إليه في مقالات نشرها في مصر وفي العراق وفي بيروت!
والدكتور زكي مبارك أديب مشهور، ولكن آفته - ولكل أديب آفة - أن يدس أنفه فيما يعنيه وما لا يعنيه، وهو قد شاء أن يحشر نفسه في هذه القصة التي لا يهمه منها إلا أن يعلن للناس - والإعلان عن نفسه بعض خصائصه الأدبية - أنه كان يجلس إلى «فلانة» جنبا لجنب في الجامعة المصرية بضع سنين!
وليس يهمنا أن يجلس الدكتور زكي مبارك جنبا لجنب إلى فلانة أو إلى نساء الأرض جميعا - كما يريد أن يتعالم عنه الناس في أكثر ما يكتب - ولكنه يزعم أن ما كتبناه عما كان بين الرافعي وفلانة ليس من الحقيقة في شيء؛ لأنه كان يجلس مع فلانة جنبا إلى جنب في الجامعة بضع سنين فلم تحدثه يوما أن حبا كان بينها وبين الرافعي ...!
فمن شاء أن يقرأ مثلا للحجة الواضحة في أدب الدكتور زكي مبارك، فليقرأ هذه الحجة، على شرط أن يكون مؤمنا بأن الدكتور زكي مبارك لا يجلس إلى «فلانات» ولا يجلس إليه «فلانات» إلا ليحدثنه عما كان لهن من جولات في ميادين الحب يسألنه الرأي والمعونة!
وليدع القارئ بعد ذلك حديث الدكتور عن العري والعراة، وعن «الأديب العريان ...» الذي روى هذه القصة.
وعفا الله عن أهل الأدب! •••
هذا كل ما تلقيت من اعتراض المعترضين من أهل الأدب أو من أهل الدعوى، وعلى أي الوجوه انتهى رأي الأدباء في تحقيق هذه القصة، فإن ما لا شك فيه أن الرافعي كان يحب «فلانة»، وهذا حسبي، فما يعنيني من هذا التاريخ إلا إثبات المؤثرات التي كانت تعمل في نفس الرافعي فتلهمه الشعر والبيان، أما هي وما كان منها وحقيقة عواطفها، فشيء يتصل بتاريخها هي بعد عمر مديد!
ونعود إلى تتمة القصة بالحديث عن كتب الرافعي في فلسفة الجمال والحب.
رسائل الأحزان
هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت ، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا، ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان كالحياة ماضيا إلى قبر ...!
الرافعي
خرج الرافعي من مجلس صاحبته مغضبا على ما روينا، في نفسه ثورة تؤج، وفي أعراقه دم يفور، وفي رأسه مرجل يتلهب، وكتب إليها كتاب القطيعة وأرسل به ساعي البريد، ثم عاد إلى نفسه فما وجد فيما كتب شفاء لنفسه، ولا هدوءا لفكره، ولا راحة في أعصابه، وأحس لأول مرة منذ كان الحب بينه وبين صاحبته أنه في حاجة إلى من يتحدث إليه، وافتقد أصحابه فما وجد منهم أحدا يبثه أحزانه ويفضي إليه بذات صدره، ويطرح بين يديه أحماله، لقد شغله الحب عن أصحابه عاما بحاله لا يلقاهم ولا يلقونه، ولا يتحدث إليهم ولا يتحدثون، فلما عاد إليهم كان بينه وبينهم من البعد ما بين مشرق عام ومغربه، بلياليه وأصباحه وتاريخه وحوادثه، وثقلت عليه الوحدة وضاقت بها نفسه، ففزع إلى قلمه يشكو إليه ويستمع إلى شكاته، فكتب الرسالة الأولى من «رسائل الأحزان» إلى صديقه الذي خصه بسره ... إلى نفسه ...
وترادفت رسائله من بعد مسهبة ضافية يصف فيها من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته، في أسلوب فيه كبرياء المتكبر، ولوعة العاشق، ومرارة الثائر الموتور، و... وذلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان.
بدأ الرافعي كتابه «رسائل الأحزان» في يناير سنة 1924، وانتهى منه في مساء 17 من فبراير سنة 1924. •••
يخاطب الرافعي نفسه في «رسائل الأحزان» على أسلوب «التجريد» فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبث والشكوى، ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفا من الرسائل يدير عليها أسلوبا من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه.
أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئا مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل ، إلى صاحبته ثم نشرها كتابا تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه، فهي رسائله إليها على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه.
وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخلق، يتمنى العاشق لو كان له ملء الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول ...! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: «إنه يحبك»، يعني: «أنا أحبك!» ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب ...!
وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان. «أنا ...» هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعت في نبره معنى شموخ الأنف، وصعر الخد، وكبرياء الخلق، لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: «أنا محروم ...!»
يا عجبا للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام ...!
وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: «هو»، ويعني: «أنا ...»؛ لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب ...! •••
إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتابا يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي، وهي كل حسبه من القراء، فمن ذلك لم يجر فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقراء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة، بل أرسلها خواطر مطلقة لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع، أو يجد فيها الملل وحيرة الفكرة وشرود الخاطر.
ولم يكتبها - كما يزعم - رسائل أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فن من فنون الرسائل لم يؤثر مثله فيما نقل إلينا من تراث الكتاب العرب، ليحتذيه المتأدبون وينسجوا على منواله، بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها.
وبذلك ظلت «رسائل الأحزان» عند أكثر قراء العربية شيئا من البيان المصنوع تكلفه كاتبه يحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقية قصة لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتابا من عيون الكتب فما تبقي منه إلا على الهامش والتعليق، وصلب الكتاب رماد في بقايا النار ...
فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذ شيئا كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذ أن الرافعي أنشأ في العربية أدبا يستحق الخلود. •••
قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان؛ ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كانا يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد، ولقد ردت صاحبته على رسالته هذه برسالة مثلها بعثت بها إليه مع بائع الصحف والمجلات ... ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب ...!
وسيأتي يوم يدرس فيه أدب فلانة صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذ لونا لذيذا من البحث؛ إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيدا أن يقرأ الأدباء يومئذ كتابا جديدا بعنوان «رسائلها ورسائله» بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسة مما نشر ونشرت في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنتي 1924 و1936.
أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حشو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، وأقرن تاريخا إلى تاريخ، وسببا إلى سبب؛ لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب ... •••
أراني لم أتحدث عن «رسائل الأحزان» كما يتحدث كاتب من الكتاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إلي، وإنما قدمت وسائل القول لمن يريد أن يقول، وأحسب أن كلاما سيقال عن رسائل الأحزان من بعد غير ما كان يقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين لن يكرر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهد الله على أنه لم يفهم منه حرفا، وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي لن يقتصر على قوله فيه من قبل: «إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا ...»؛ لأنه سيجد مجالا للقول في غير معانيه وبيانه. •••
ولكن في رسائل الأحزان شيئا غير ما قدمت من أشيائه؛ ذلك لأن الرافعي - رحمه الله - كان ولوعا بأن يضيف إلى كل شيء شيئا من عنده، وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب.
سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب كلاما وشعرا لا يتساوق مع القصة التي رويت، إلا أن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحيانا فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيرا جميلا وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة، فإن رأى الباحث شيئا من ذلك فلا يداخله الريب فيما أثبت من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها.
وسيجد في بعض الرسائل حديثا وشعرا عن لبنان وأيام لبنان، وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليذكر من يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جولان، وكان بعض من أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سمية صاحبتنا هذه، وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في «أوراق الورد»، وهي التي أنشأ من أجلها كتابه «حديث القمر»، على أن عمر الحب لم يطل بينهما؛ إذ تروجت وهاجرت مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك - وما تزال - فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذكر أيام هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة «حديث القمر»، أقحمه في رسائله؛ حرصا عليه وبخلا به على الضياع. •••
لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثا في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب، على أن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألح عليه الحب، أم زفرة مبغض يتلذع بالبغض قلبه؟ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغت به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضا يرد عليه كبرياءه وينتقم له، فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تقبله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنف وما بها إلا الترفق والحنان ...!
وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبت إليه ... وثارت ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر «السحاب الأحمر».
السحاب الأحمر
لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا ... ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصمين في عالم النفس، متحابان تباغضا ...
الرافعي
ترى ماذا كتبت إليه صاحبته بعدما قرأت رسائل الأحزان، فأثارت نفسه بعد هدأتها وردته من الغيظ والحنق إلى أن يقول: «يا هذه، لا أدري ما تقولين، ولكن الحقيقة التي أعرفها أن نفس المرأة إذا اتسخت كان كلامها في حاجة إلى أن يغسل بالماء والصابون وهيهات ...!» ويقول: «يجب على المدارس حين تعلم الفتاة كيف تتكلم أن تعلمها أيضا كيف تسكت عن بعض كلامها.»
من لي بأن أعرف ما كان وقع رسائل الأحزان في نفسها وما ردت به؟
إنه يتحدث في السحاب الأحمر عن التهمة والظنون، والكلام الذي لا يغسله الماء والصابون، والنجمة الهاوية، وخداع النظر في الحب، وفساد الرأي في الهوى، وطيش القلب في الاستسلام، ثم ... ثم يحاول أن يعتذر ...!
هنا الحلقة المفقودة في تاريخ هذا الحب، فلست أدعي المعرفة، ولقد كنت مع الرافعي مرة في مكتبه وبيننا السحاب الأحمر يقرأ لي بعض فصوله، فأشرت إليه عند فقرة من الكلام ليجيبني عن سؤال يكشف عن شيء من خبرها ومن خبره، فوضع الكتاب إلى جانبه وحدق في طويلا ثم سكت وسبحت خواطره إلى عالم بعيد، وراحت أصابعه تعبث بما على المكتب من أشيائه، ثم قال: «أرأيت القلم الذي تراءى لي السحاب الأحمر في نصابه بين عيني والمصباح ...؟» ثم دس يده في درج المكتب فأخرجه ودفعه إلي وهو يقول: «ضع النصاب بين عينيك والمصباح وانظر، ألست ترى سحابا يترقرق بالدم كأن قلبا جريحا ينزف؟ في شعاعة هذا النور تراءت لي هذه الخواطر تقرؤها في السحاب الأحمر ...»
ثم عاد إلى الصمت ولم أعد إلى السؤال ... •••
أحسب أن الرافعي حين أنشأ السحاب الأحمر كان في حالة عصبية قلقة لست أعرف مأتاها ومردها، ولكن فصول الكتاب تتحدث عن خبرها في شيء من الغموض والإبهام.
لقد أنشأ الرافعي رسائل الأحزان؛ ليكون رسالة إليها يتحدث فيها عن حبه وآلامه، ولست أشك أن صاحبته حين تأدت إليها رسائله قد فهمت ما يعنيه وعرفت ذات صدره، وأحسبها - وهي الأديبة الشاعرة - قد سرها أن تكون هي فلك الوحي لما في رسائل الأحزان من كل معنى جميل، أفتراها قد بدا لها أن تهيجه بالدلال والإغراء وقسوة العتب وتصنع الغضب، لتفتنه وتزيده وحيا وشعرا وحكمة ...؟
إن كانت هذه رسالتها إليه فما أراها قد بلغت بها إلا أن هاجت كبرياءه وأثارت نفسه، فكتب كتابه ولكن لغير ما أرادت وما قصدت إليه ... •••
يقوم السحاب الأحمر على سبب واحد، حول فلسفة البغض، وطيش الحب، ولؤم المرأة ...
على أن كل ما فيه لا يشير إلا لمعنى واحد، هو أن قلبا وقع في أسر الحب يحاول الفكاك فلا يستطيعه، فما يملك إلا أن يصيح بملء ما فيه: إنني أبغضك أيتها ... أيتها المحبوبة!
وكما يفزع الشخص إذا حزبه أمره إلى أصدقائه يستعينهم ويستلهمهم الرأي في بلواه، كذلك فزع الرافعي في السحاب الأحمر، ولكن إلى أصدقاء من غير عالمه يستعينهم على أمره. فهذا صديقه الشيخ علي صاحب المساكين، وهذا صفيه وصاحب نشأته الشيخ أحمد الرافعي، وذلك أستاذه ومثله العالي في دينه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهذه أم ضل ولداها الحبيبان، وتلك زوج يفارقها زوجها الحبيب إلى السجن، وهذا، وهذه، وتلك يحدثونه جميعا حديثهم عن الحب في رأي العين، وفي رأي القلب، وفي رأي العقل، ويحدثهم حديثه ... فما تلمح من أحاديث هؤلاء جميعا إلا أن الرافعي في جهاد عنيف بين قلبه وعقله، يريد أن يثبت الغلبة لعقله على هواه؛ ليخرج من أمر صاحبته برأيه وفكره وكبريائه، ثم لا تكون الغلبة في النهاية إلا للحب على رأيه وفكره وكبريائه.
على أن كتاب السحاب الأحمر ليس كله خالصا لصاحبته وإن يكن من وحيها؛ ذلك أن نسقه العجيب، ومحاولة الرافعي به أن ينصرف عنها، قد شرع له في الكتاب مسالك من القول لم تكن مما يقتضيه ما بينه وبين صاحبته. •••
في الفصل الأول من السحاب الأحمر، يتحدث الرافعي عن فتاة «عرفها قديما في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها، ثم يقف!» وهو يعني صاحبته التي أملت عليه «حديث القمر»، وإنك لتقرأ حديثه عنها، ووصفه لها، وما كان من أثرها في نفسه، فتسأل نفسك: أي شيء رده إلى هذه الذكرى البعيدة فأيقظها في نفسه بعد اثنتي عشرة سنة محا الزمان بها في قلبه وأثبت! فلا تلبث أن تجد الجواب في الأسطر الأخيرة من هذا الفصل:
إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة إلى أن يبتذل ...
إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر ...
من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل ...!
أتراه بهذا يوازن بين واحدة وواحدة، ليقول لهذه: إن تلك كانت خيرا منك؟ وهل تحسبه كان يعتقد ذلك؟ أما أنا فأعرف من أخلاق الرافعي أن هذا معنى لم يكن يعنيه، ولكنها مساومة في الحب يريد بها أن يهيج غيرة صاحبته ليردها إليه، أو أنه أراد أن ينقذ كبرياءه فيزعم لصاحبته أنه لم يكن يعنيها برسائل الأحزان؛ لأن هنالك أخرى ... •••
وتقرأ «النجمة الهاوية» في الفصل الثاني، فتسمعه يقول: «تتم آمالنا حين لا نؤمل!» فما تشك أن هناك رسالة إليها، رسالة يمليها الحب المغيظ المحنق، يحاول فيها أن يوهمها أنها لم تعد شيئا في نفسه، وأنه قد تمت آماله واستراحت نفسه فليس له فيها أمل ولا يتعلق بها رجاء، ثم يستطرد في معاني البغض والهجر والقطيعة بأسلوب قاس عنيف، ولكن قلبه العاشق المفتون ينبض في كلماته، فما ينتهي الفصل حتى يستعلن حبه من وراء كلمات البغض وهو يقول: «أشأم النساء على نفسها من لا تحب ولا تبغض، وأشأمهن على الناس من إذا عدت مبغضيها لا تعد إلا الذين أحبوها ...!» وإنني لأعرف الرافعي وأستمع إلى همسات قلبه، فهل ترى ترجمة هذه العبارة إلا أنه يقول: «إنني أحبك يا أشأم النساء»؟
اقرأ في آخر هذا الفصل الصاخب قوله:
يا من على الحب ينسانا ونذكره
لسوف تذكرنا يوما وننساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر
له صباح، متى تدركه أخفاكا
ويتحدث في الفصل الثالث عن السجين تحمله عربة السجناء إلى قضائه، وزوجته التي تحبه تشيعه بنظراتها الجازعة، فتعرف من وصفه لساعة الفراق بين الزوجين الحبيبين، أي خاطرة في الحب ألهمته هذا الفصل البديع، وكأنك تسمع الرافعي يتحدث فيه عن نفسه مما فعل به الفراق: «ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء؛ لأن أرواحا أخرى فارقتها، ففي الموت يمس وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي، وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها، وهو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!
وإنما الحبيب وجود حبيبه؛ لأن فيه عواطفه، فعند الفراق تنتزع قطعة من وجودنا فنرجع باكين ونجلس في كل مكان محزونين كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت ...
ترى العمر يتسلسل يوما فيوما ولا نشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبه القلب فينا بغتة معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجار كتطاير عدة سنين من الحياة ...»
ويتحدث في الفصلين الرابع والخامس عن تجارة الحب،
22
وعن المنافق، فتلمح من وراء حديثه معنى لا يريد أن يفصح عنه، وإنه لبسبب مما كان بينه وبين صاحبته، أفتراه يشير به إلى شيء من أسباب القطيعة؟
وفي الفصل السادس يتحدث عن حب الأم في قصة والدة ضل ولداها الصغيران ثم اهتدت إليهما: «الحب! ما الحب إلا لهفة تهدر هديرها في الدم، وما خلقت لهفة الحب أول ما خلقت إلا في قلب الأم على طفلها ... حب الأم في التسمية كالشجرة، تغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها ولا تزال تتمكن بجذورها وتمتد بفروعها حتى تكتمل شجرة بعد أن تفني عداد أوراقها ليالي وأياما، وحب العاشقين كالثمرة؛ ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تقطف، ولكنها تنسي الشفاه التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض والشمس والماء في الشجرة القائمة ... ... لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوة وهي اللذيذة وهي المنفردة باسمها ...
وهكذا الرجل أغواه الشيطان في السماء بثمرة فنسي الله حينا، ويغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحيانا!»
وتراه في الفصول الثلاثة الباقية كأنما يحاول أن يروض نفسه على السلوان ويقنعها بأن الحب ليس هو رجولة الرجل، وليس هو إنسانية الإنسان، وليس هو كل ما في الحياة من لذة ومتاع، في كلام يجريه على ألسنة شيوخه وأصدقائه: الشيخ علي، والشيخ أحمد، والشيخ محمد عبده، يحاورهم ويحاورونه فتستمع في هذا الحوار إلى النجوى بينه وبين نفسه، وإلى الصراع بين عقله وهواه.
إن الرافعي بكبريائه وخلقه ودينه واعتداده بنفسه، لم يخلق للحب! ولكنه أحب؛ فمن ذلك كان حبه سلسلة من الآلام، وصراعا دائما بين طبيعته التي هو بها هو، وفطرته التي هو بها إنسان، وإنك لتلمح هذا الصراع الدائم في كل فصل من فصول السحاب الأحمر. •••
وفي كتاب السحاب الأحمر، تقرأ رأي الرافعي في القضاء والقدر، وإنه ليشعرك برأيه ذلك مقدار ما فعل به الحب وما فل من إرادته، فتراه يؤمن بأن الإنسان في دنياه ليس له كسب ولا اختيار فيما يعمل، ولكنه قضاء مقدور عليه منذ الأزل لا طاقة له على الفكاك منه، وإنه على ذلك لموقن بأن لله حكمة فيما قضى وقدر، وإن دقت حكمته على الأفهام: «ألا يا ماء البحر، ما أنت على أرض من الملح، فبماذا أصبحت زعاقا لا تحلو ولا تساغ ولا تشرب؟ إنك لست على أرض من الملح، ولكنك يا ماء البحر ذابت فيك الحكمة الملحة ...!»
قلت في الفصل السابق: إن رسائل الأحزان عند أكثر قراء العربية هو شيء من البيان المصنوع تكلفه كاتبه؛ ليحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده ... لأنه بقية قصة لم تنشر معه ...
أما السحاب الأحمر فهو كتاب كامل، احذف منه فصلا أو فصلين في أوله، وشيئا من فضول القول في سائره، تجد فنا في العربية لا يقدر عليه إلا الرافعي، فجرده من قصته أو انسبه إليها، فإنك واجد فيه أدبا يستحق الخلود، وبيانا يزهى على البيان، وشعرا وحكمة ما زال الأدباء يدورون عليهما حتى وجدوهما في أدب الرافعي. •••
في رسائل الأحزان أراد الرافعي أن تعرف صاحبته من حاله ومن خبره ما أراد، فأغراها بالترفع والدلال عليه، وفي السحاب الأحمر حاول أن يشعرها أنه قد فرغ من أمرها وفرغت من أمره فما لها عنده إلا البغض والإهمال، وما له عندها إلا اللهفة على ما كان من أيامه. أفتراه في السحاب الأحمر قد بلغ ما أراد؟
هيهات أن يخفى الهوى!
استمع إليه يحاول أن يهيج فيها الغيرة ويبعث اللهفة ويوقظ الحنين ويؤرث البغضاء ويثير الندم، فلا يكاد يبلغ آخر الرسالة حتى ينسى ما قصد إليه ليدع لقلبه أن يقول:
ويلي على متدلل
ما تنقضي عني فنونه
كيف السلو وفي فؤا
دي لا تفارقني عيونه؟!
يرحمك الله يا صديقي!
أوراق الورد ... إنه ليس معي إلا ظلالها، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلال الحية كائن لا يفنى ، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجما إلى لغة عينيه، أصبحت أراها في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكري.
كان لها في نفسي مظهر الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه، ثم خضوعي لها خضوعا لا ينفعني ... فيدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله، ثم خضوعها لخيالي خضوعا لا يضرها.
وما أريد من الحب إلا الفن، فإن جاء من الهجر فن فهو الحب ...
كلما ابتعدت في صدها خطوتين رجع إلي صوابي خطوة.
لقد أصبحت أرى ألين العطف في أقسى الهجر، ولن أرضى بالأمر الذي ليس بالرضا، ولن يحسن عندي ما لا يحسن، ولن أطلب الحب إلا في عصيان الحب، أريدها غضبى، فهذا جمال يلائم طبيعتي الشديدة، وحب يناسب كبريائي، ودع جرحي يترشش دما، فهذه لعمري قوة الجسم الذي ينبت ثمر العضل وشوك المخلب، وما هي بقوة فيك إن لم تقو أول شيء على الألم ...
أريدها لا تعرفني ولا أعرفها، لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها ... تتكلم ساكتة وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل كلام طويل ...
الرافعي
هدأت ثائرة الرافعي هونا ما، وفاءت إليه نفسه، واعتدلت مقادير الأشياء في عينيه، وعاد إلى حالة بين الرضا والغضب، وبين الحب والسلوان، فاستراح إلى اليأس ... لولا أثارة من الحنين تنزع به إلى الماضي، وبقية من الشوق واللهفة على ما كان، وفرغت أيامه من الحادثة لتمتلئ من بعد بالشعر والحكمة والبيان.
ومضت سبع سنين والحياة تذهب به مذاهبها، والذكرى تغشاه في خلوته وتداعبه في أحلامه، والأماني التي بعثرتها الكبرياء بددا في أودية النسيان تتخايل له في شكول وألوان، وخواطره من وراء ذلك تعمل، ونفسه الشاعرة تحس وتشعر وتنفعل بما يتعاقب عليها من الرؤى والأحلام، وأتم نظم قصيدته البارعة في «أوراق الورد» سنة 1931.
أوراق الورد هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الحب والجمال، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته، ويثبت تاريخا من تاريخه، في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخا ولا من بعد.
ويقول الرافعي: إنه جمع في أوراق الورد رسائلها ورسائله. أما رسائله فنعم ولكن على باب من المجاز، وأما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب؟ إلا رسالة واحدة وجزازات من كتب ونتفا من حديثها وحديثه.
بلى، إن في أوراق الورد طائفة من رسائله إليها، ولكنها رسائل لم تذهب إليها مع البريد، بل هي من الرسائل التي كان يناجيها بها في خلوته، ويتحدث بها إلى نفسه، أو يبعث بها إلى خيالها في غفوة المنى، ويترسل بها إلى طيفها في جلوة الأحلام، إلا رسالتين أو ثلاثا مما في أوراق الورد ... فلما أتم تأليفها وعقد عقدتها، بعث بها إليها في كتاب مطبوع بعد سبع سنين من تاريخ الفراق! •••
ولكن أوراق الورد ليس كله من وحي «فلانة» وليست كل رسائله في الكتاب إليها، فهنالك الأخرى، هنالك صاحبة «حديث القمر»، تلك التي عرفها في ربوة من لبنان منذ تسع عشرة سنة، وهنا فلانة ...
هما اثنتان لا واحدة: تلك يستمد من لينها وسماحتها وذكرياتها السعيدة معاني الحب التي تملأ النفس بأفراح الحياة، وهذه يستوحيها معاني الكبرياء والصد والقطيعة وذكريات الحب الذي أشرق في خواطره بالشعر وأفعم قلبه بالألم!
لقد مضت سبع سنين منذ فارق صاحبته «فلانة» كان قلبه في أثنائها خالصا لها، ولكن فكره كان يدور على معاني الشعر يلتمسه من هنا ومن هناك، فلما اجتمع له ما أراد، ضم أوراق الورد إلى أشواكه، وأخرجها كتابا للفن أولا، ثم لها من بعد.
هو كتاب ليس كله من نبضات قلبه الذي يعشقها وما زال متيما في هواها، ولكن فيه إلى جانب ذلك فكر المفكر وعقل الأديب وحيلة الفنان.
بلى، إنه كان يحبها حبا لا يتسع القلب لأن يشرك فيه غيرها، فكان «قلبه» لها من دون النساء جميعا، ولكن الذكريات كانت تتوزع «فكره» فتوحي إليه من هنا ومن هنالك ومما يستجد على خواطره من بعد في معاني الحب والبغض والود والقطيعة.
هو كتاب يصور نفسه وخواطره في الحب، ثم يصور فنه وبيانه في لغة الحب، ثم ... ثم لا يصور شيئا من بعد مما كان بينه وبين صاحبته على وجهه وحقيقته، إلا أن يتدبر قارئه ويستأني ليستخلص معنى من معنى على صبر ومعاناة في البحث والاستقراء.
فما رأيت من رسالة فيها اللهفة والحنين، وفيها التذلل والاستعطاف، وفيها تصنع الغضب ودعوى الكبرياء، وفيها المنى الحالمة تتواثب بين السطور في خفة الفراشة الطائرة، وما رأيت من معنى تحاول أن تمسكه فيفلت، فهو فصل يؤدي أداءه في قصة هذا الحب العجيب.
وما قرأت من رسالة تصف ما كان في خلوة نفس إلى نفس، وتقص عليك في لغة الماضي حديث قلب إلى قلب، وتكشف لك عن سر الابتسامة ومعنى النظرة، وتتحدث إليك عن جمال الطبيعة وفلسفة الكون، فهو ذكرى من الماضي البعيد، وكان حبا في القلب فصار حديثا في الفكر، ثم استتبع شيء شيئا.
وما قرأت من قول مزوق، وبيان منمق، ومعنى يلد معنى، وفكرة تستجر فكرة، وعبارة تتوكأ على عبارة، فهو من أداء الفن وولادة الفكر.
ولقد تجد رسالة كلها حنين ولهفة، أو حادثة وذكرى، أو فن من الفن، ولقد تجد كذلك رسالة غيرها تجمع هذه الثلاثة في قرن، ففيها قلب ينبض، وذكرى تعود، وبيان مصنوع.
فإذا أنت عرفت هذه الثلاثة، عرفت الكتاب، وعرفت صاحبه، وخرجت منه بشيء. •••
يبدأ أوراق الورد بمقدمة بليغة في الأدب يتحدث فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية بأسلوب هو أسلوب الرافعي، وإحاطة هي إحاطته، وسعة اطلاع لا تعرفها لغيره، وهذه المقدمة وحدها هي باب في الأدب العربي لم ينسج على منواله ولم يكتب مثله، تذكر قارئها ذلك النهج البارع الذي نهجه الرافعي العالم المؤرخ في كتابة «تاريخ آدب العرب»، فكان به أول من كتب في تاريخ الأدب وآخر من كتب ...
وتأتي بعد هذا الفصل مقدمة الرسائل، وفيها سبب تسمية الكتاب، وهو شيء مما كان بينه وبين صاحبته. يقول: إنه كان في مجلسها يوما ومعها وردة، فأخذت تحدثه عن الحب وعمر الحب، وعن الورد وعمر الورد، وكأنها تقول له: احذر أن تجعل حظك من الوردة أكثر من أن تستنشيها على بعد من دون لمسة البنان، واحذر في الحب ... قال: «ثم دنت الشاعرة الجميلة فناطت وردتها إلى عروة صاحبها، فقال لها: وضعتها رقيقة نادية في صدري، ولكن على معان في القلب كأشواكها ... فاستضحكت وقالت: فإذا كتبت يوما معاني الأشواك فسمها أوراق الورد ... وكذلك سماها.»
ويمضي في هذه المقدمة يتحدث عن حبه، وآلامه في الحب، ورأيه في الحب، وشيء مما كان بينه وبينها، ثم يتحدث عن نهجه في هذه الرسائل، وما أراد بها، وما أوحاها إليه، في أسلوب كله حنين، وكله شوق وألم.
ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة على ما أوضحت طريقها من قبل: فيها حنين العاشق المهجور، وفيها منية المتمني، وفيها ذكريات السالي، وفيها فن الأديب وشعر الشاعر، وفيها من رسائلها ومن حديثها ... •••
من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئا، ومن أراده رسائل وجوابها في معنى خاص لم يجد شيئا، ومن أراد تسلية وإزجاء للفراغ لم يجد شيئا، ومن أراده نموذجا من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى من يحب لم يجد شيئا، ومن أراده قصة قلب ينبض بمعانيه على حاليه في الرضا والغضب، ويتحدث بأمانيه على حاليه في الحب والسلوان، وجد كل شيء.
وهو في الفن فن وحده، لا تجد في بيانه ومعانيه ضريبا له مما أنشأ الكتاب وأنشد الشعراء في معاني الحب، على أنه بأسلوبه العنيف وبيانه العالي وفكرته السامية في الحب، لا يعرف قراءه في العربية، وكم قارئ استهواه عنوان الكتاب وموضوعه فتناوله بشوق ولهفة، فما هو إلا أن يمضي فيه صفحات قليلة حتى تسلمه يمناه إلى يسراه إلى الزاوية المهملة من مكتبته، ثم لا يعود إليه ...
وكم قارئ كان لا يعرف الرافعي الشاعر الثائر العنيف في حبه وبغضه وكبريائه، فلما قرأ «أوراق الورد» عرفه فأحبه فاستخلصه لنفسه فما يعرفه في الأدباء إلا أنه مؤلف أوراق الورد.
وكم وكم ... ولكن أوراق الورد ما يزال مجهولا عند أكثر قراء العربية وإن كان في مكتباتهم؛ لأن القارئ الذي يلذه أوراق الورد ما زال يتعلم في المدرسة كيف يقرأ ليستفيد ويضم فكرا إلى فكره لا ليتسلى ويهرب من فكره؛ لأن العربية ليس لها قراء ...!
ليت شعري أفي العربية كلها شاعر يستطيع أن ينظم ورقة واحدة من أوراق الورد أو يجمع معانيها في قصيدة؟ ابحثوا عن جمهور هذا الشاعر وقرائه يوم تسمعون قصيده ...
أرأيت إلى المنجم الذي يمتد في الأرض ويتغلغل بعروق الذهب؟ إنه كنز، ولكن من ذا يصبر على المعاناة في استخراجه والبلوغ إليه إلا أن يكون صاحب أيد وقوة؟ إنه كنز يطلبه الجميع، ولكنك لن تجد في الجميع من يقدر على استخلاصه من بين الصخور المتراكبة عليه وحواليه من طبقات الأرض إلا الرجل الواحد المحظوظ الذي يكون معه الصبر.
إن أوراق الورد منجم من المعاني الذهبية، لو عرفه المتأدبون من شبابنا لوضعوا يدهم على أثمن كنز في العربية في معاني الحب والجمال يكون لهم غذاء ومادة في الشعر والبيان.
وكان الرافعي - رحمه الله - يعتز بأوراق الورد اعتزازه بأنفس ما أنتج في أدب الإنشاء، ويباهي ويفتخر، وما أحسبه تعزى عن صاحبته بقليل إذ تعزى بما لقي من النجاح والتوفيق في إنشاء أوراق الورد، وكما تجد الأم سلوتها في ولدها العزيز عن الزوج الحبيب الذي طواه الموت، وجد الرافعي العزاء في أطفال معانيه عن مطلقته العنيدة ... لقد فارقها ولكنه احتواها في كتاب!
إن الأم لا تنسى زوجها الحبيب إذا فارقها وخلف بين يديها بضعة منه، ولكنها تجد العزاء عنه بشيء منه، وإن قلبها ليخفق بذكراه في عيني هذا الحبيب الصغير، وكذلك لم ينس الرافعي، ولكنه وجد السلوان ... لقد أفلتت من يده، ولكنها خلفت ذكراها معه، ذكرى حية ناطقة تتمثل معاني وكلمات في كتاب يقرؤه كلما لج به الحنين فكأنه منها بمسمع ومشهد قريب!
يرحمه الله! لقد مات، ولكن قلبه ما يزال ينبض يتحدث عن آلامه وأشواقه في قلب كل محب يقرأ كتابه فيجد فيه صورة من قلبه وعواطفه وآماله ...
يرحمه الله!
في النقد
الرافعي وطه حسين - تحت راية القرآن - كليلة ودمنة - شاعر الملك - الرافعي والإبراشي باشا - الرافعي وعبد الله عفيفي - الرافعي والعقاد - على السفود - وحي الأربعين. ***
سأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن شيء مما كان بين الرافعي وأدباء عصره، وإنه لحديث شائك، وإنني منه لفي حرج شديد، لقد مات الرافعي ولكنه خلف وراءه صدى بعيدا مما كان بينه وبين أدباء عصره من الخصومات الأدبية، فما أحد منهم إلا له عنده ثأر وفي صدره عليه حفيظة أو له عليه معتبة، ولقد اهتزت بلاد العربية كلها لنعي الرافعي وما اختلجت نفس واحد من خصومه فكتب إلى أهله كلمة عزاء، إلا رجلا واحدا كتب برقية إلى ولده، هو الدكتور طه حسين بك، فلا جرم كان بذلك أنزه خصوم الرافعي وأعرفهم بالأدب اللائق!
ولقد مضى ما مضى منذ ترك الرافعي دنياه، فهل رأيت أحدا منهم كتب شيئا عنه يناله بالمدح أو المذمة؟ وهل رأيت اللجنة التي تألفت لتأبينه قد استطاعت أن تحمل واحدا من هؤلاء على أن يشاركها فيما تعمل لتأبين الرافعي، أو قل لتأريخ عصر من عصور الأدب قد انطوى تاريخه بين أعيننا ويوشك أن يضيع في مدرجة النسيان ...؟
ليت شعري أكان الرافعي من الهوان في المنزلة الأدبية بحيث لا يذكره ذاكر من زعماء الأدب العربي ولما ينقض على موته بضعة أشهر، وبحيث تجتمع لجنة التأبين وتنفض وتحدد الموعد لحفلتها ثلاث مرات ثم لا تجد من يتقدم إليها ليقول في تأبين الرافعي، فتوشك أن تنسأ الأجل إلى غير ميعاد ... حتى إذا مضى العام فاحتفلت فلسطين، واحتفلت سوريا، واحتفل العراق، واحتفل العرب في المهاجر من وراء البحار بذكرى الرافعي، أقامت لجنة التأبين في مصر حفلتها كما اتفق أن تكون لا كما كان ينبغي أن تكون؛ تحرجا من التهمة بالعقوق ونكران الجميل!
ولكنه هو - يرحمه الله - الذي ألب على نفسه هذه العداوات حيا وميتا، لقد كان ناقدا عنيفا حديد اللسان، لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكانت فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة «من جهة الحرص على الدين ؛ إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معا إلا بقيامها معا»، وكان يؤمن بأنك «لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة» ... فكان بذلك كله ناقدا عنيفا، يهاجم خصومه على طريقة عنترة: يضرب الجبان ضربة ينخلع لها قلب الشجاع!
اقرأ له في أول كتاب المعركة: ... إنما نعمل على إسقاط فكرة خطرة إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه، فقد تكون غدا فيمن لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا جهلنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه ... فإن كان في أسلوبنا من الشدة، أو العنف، أو القول المؤلم، أو التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول بل عظة الثاني ...
وأول ما أعرف الرافعي في النقد، مقاله في «الثريا» عن شعراء العصر في سنة 1905،
1
ثم مقاله في الرد على المرحوم المنفلوطي في المنبر، وكان نشر مقالا يعارض به رأي الرافعي في الشعراء وينتصف به لصديقه المرحوم السيد توفيق البكري، فكتب المرحوم حافظ إلى الرافعي يقول: «قد وكلت أمر تأديبه إليك!»
ثم كانت مصاولات أدبية بينه وبين الجامعة المصرية غداة نشأتها في سنة 1908-1909، ثم مقالات عن الجديد والقديم، والعامية والفصحى، في مجلتي البيان والزهراء، ثم خصومة بينه وبين لجنة النشيد القومي في سنة 1921، ثم وقعت الواقعة بينه وبين الدكتور طه حول كتاب رسائل الأحزان في سنة 1924
2
في السياسة الأسبوعية، فكان هذا أول ما بينهما، ثم كانت المعارك العنيفة بينه وبين العقاد، وبينه وبين عبد الله عفيفي، وبينه وبين زكي مبارك، إلى ما لا ينتهي من المصاولات بينه وبين أدباء عصره.
على أن أشهر هذه المعارك شهرة هو ما كان بينه وبين طه، وبينه وبين العقاد، بل لعلها أشهر وأقسى ما في العربية من معارك الأدب، وإنها لجديرة بأن يؤرخ بها في تاريخ النقد كما كان العرب يؤرخون أيامهم ...
وإنني لأشعر أن علي واجبا أن أكشف عما أعرف من الأسباب الخاصة أو العامة التي نشأت بها هذه الخصومات الأدبية أو انتهت إليها، وإنني لأشعر بجانب ذلك أنني أكلف نفسي بهذا فوق ما أستطيع.
إن كل ما تناولته إلى الآن من تاريخ الرافعي كان له هو وحده، فلا علي ما دمت مطمئن النفس إلى ما أكتب، أما الآن فسيكون إلى جانب اسم الرافعي أسماء، وإنهم لذوو حول وسلطان، فما أدري أيرضون ما أكتب عنهم أم يسخطون، ولقد رأيت ما فعلت بالرافعي شجاعته فمات لم يذكره أحد منهم أو يترحم عليه، وما أنا كفء لهذه العداوات، ولست لها بأهل، وما لي طاقة بالدفاع عن نفسي، ولا لي أنصار ذوو لسان وبيان، وما تهون علي نفسي ...!
ولكن ... ولكن من عذيري يوم الحق من كتمان الشهادة؟ ولكن ... ولكن ما أنا إلا راوية يكتب ما رآه لا ما ارتآه، ولكن ... ولكن فلانا وفلانا اليوم أناسي تصول وتجول، وإنها غدا لصفحات من التاريخ تتحدث، ولكن ... ولكن التاريخ قد وقع فلا سبيل إلى محو فيه أو إثبات، ولكن ... ولكن الندم على ما كان لا يمحو من تاريخ الإنسان ما كان ...
فهذا عذري عند فلان وفلان ممن يتناولهم حديثي بما يغضب أو يسوء، فإن كان لي عندهم عذر من الكتمان إن كتمت الشهادة فإني على الأهبة لأن أطوي من هذا الحديث ما قد يغضب أو يسوء ...
أما وإن تاريخ الرافعي في هذا الفصل هو تاريخ الأدب في جيل من الأدباء، فإن كان من حق أحد أن يعتب علي لنشر هذا الفصل فإن حق الأدب لأوجب، وما أريد من فلان وفلان شيئا، وما لي عندهم حاجة، ولا لهم علي يد، فليغضب من يغضب للحق أو لنفسه فلا علي من غضبه أو رضاه، وإني لماض فيما أنا بسبيله ...
بين الرافعي وطه
في سنة 1922 كانت السياسة الأسبوعية هي صحيفة الأدب والثقافة، وفيها كان يعمل الدكتور طه حسين في الأدب وفي السياسة معا، ولم يكن بين الرافعي وطه يومئذ شيء يثير ثائرة في الصدر ، أو يدعو إلى عتاب وملامة ، ولكن إرهاصات كانت تسبق ذلك ببضع عشرة سنة ...
كان طه حسين في سنة 1909 هو الطالب المرموق في الجامعة المصرية، وكان الرافعي الشاعر ماضيا في الشعر على سنته، لا يعرف له أحد مذهبا غير الشعر، فلما نشر مقاليه المشهورين في «الجريدة» ينقد بهما أساليب الأدب في الجامعة، تنبهت إليه العيون، فلما أنشأ كتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1911، عرف الأدباء الرافعي العالم المؤرخ الراوية، وعرفه طه حسين الطالب بالجامعة.
أفكان الطالب طه حسين يرشح نفسه من يومئذ ليكون أستاذ الأدب بالجامعة فنفس على الرافعي أن يؤلف كتابا في تاريخ آداب العرب، فكتب ينقده ويقرر أنه لم يفهمه، ثم يقرر هذا المعنى ثانية في نقد «حديث القمر»، وثالثة في «رسائل الأحزان»؟
الحق أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة منذ أنشئت الجامعة، وقد كشف عن رغبته هذه في مقاليه بالجريدة، ولكن طه يومئذ كان طالبا في الجامعة، فمن الإسراف في المزاح أن ننسب ما كان بينهما من بعد إلى النفاسة أو المنافسة على كرسي الآداب في الجامعة! ولكنه صدر من تاريخ هذه الخصومة الأدبية لا بد من الإشارة إليه!
وثمة حديث آخر يشير إلى أول ما كان بين الرافعي وطه، رواه لي صديقنا الأديب عبد المعطي المسيري، صاحب «القهوة والأدب»، قال: «زار الرافعي إدارة «الجريدة» مرة لبعض شأنه، في سنة 1908 (أو سنة 1909)، فلما هم أن ينصرف طاف بمحرري «الجريدة» يحييهم - وبينهم طه حسين - ولكن الذي كان يصحب الرافعي في طوافه لم يعرفه طه ولم يقدم أحدهما للآخر، وعرفه الرافعي على الرغم من ذلك؛ إذ كان مثله لا يخفى واسمه على جبينه ... ولكن لم يحيه ولم يظهر له المعرفة؛ رعاية لعاطفته، وخشية أن يفهم طه أن الرافعي لم يعرفه إلا بعلته فيألم وتتأذى نفسه، ولكن طه طوى صدره على شيء للرافعي من يومئذ؛ لأن الرافعي انصرف دون أن يحييه كما حيا زملاءه العاملين معه في الجريدة!»
ونفخت السياسة الأسبوعية في الأدب روحا جديدة ، واتخذت لها أسلوبا في الدين وفي العلم وفي الأدب قال عنه جماعة من الأدباء: إنه إلحاد وكفر وضلال، وقالت طائفة: إنه المذهب الجديد في الدين والعلم والأدب، ثم مضت السياسة بما تكتب وبما تفسح من صدرها للكتاب، تقسم الأدباء إلى فرق ومعسكرات، وقديم وجديد، ورفعت في الجهاد راية ...
والرافعي رجل كان فيه عصبية للدين، وعصبية للقديم، فأيقن منذ قرأ العدد الأول من السياسة الأسبوعية أن سيكون له شأن مع السياسة وكتاب السياسة في غد ...
ونال الرافعي رشاش من بعض المعارك وإنه لبعيد عن الميدان، فأحس في نفسه رغبة في الكفاح فتحفز للوثبة ...
ودس كلمة إلى طه يذم أسلوبه بما يشبه المدح، ويعيب عليه التكرار وضيق الفكرة، قال الرافعي: فنشرها طه في السياسة قبل أن يستبين مغزاها وما ترمي إليه ... ثم عرف ...
وتهيأت أسباب الحرب ولم يبدأ أحد بالعدوان ... وتربص الرجلان في انتظار السبب المباشر لبدء المعركة ...
ثم أصدر الرافعي رسائل الأحزان، فسعى راجلا إلى دار السياسة؛ ليهدي إليها كتابه، وهناك التقى الرافعي وطه حسين وجها لوجه ... ونظر الرافعي إلى طه، واستمع طه إلى حديث الرافعي، وتصافح الخصمان قبل أن يصعدا إلى حلبة المصارعة، ونفخ الدكتور هيكل في صفارة الحكم، وبدأت المعركة.
وكانت مشادة حادة خرج الرافعي يتحدث عنها وصمت طه.
لمن يا ترى كانت الغلبة؟ الرافعي يقول: أنا ... وطه لا يتكلم، والدكتور هيكل ضنين بالحديث.
ومضت فترة، ثم نشر طه حسين رأيه في «رسائل الأحزان» في السياسة الأسبوعية، فرفع راية العداء وأعلن الحرب، ورد عليه الرافعي يقول: يسلم عليك المتنبي، ويقول لك:
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
ثم مضى في رده يهزأ ويسخر ويتجنى ويتحدى، في مقال طويل.
3
وطارت الشرارة الأولى فاندلعت ألسنة النار، فما خمدت حتى أحدثت أزمة وزارية، وأنشأت جفوة بين سعد وعدلي، وأوشكت أن تؤدي بعلي ماهر إلى المحاكمة، وهزت دوائر البرلمان، ثم انتهت في النيابة العمومية ... •••
لم تكن بداية هذه المعركة تنذر بما آلت إليه، فما كانت في أولها إلا الخصومة بين مذهبين في الأدب وأسلوبين في الكتابة، فما لبثت من بعد أن استحالت إلى حرب شعواء يتقاذف فيها الفريقان بألفاظ الكفر والضلال والإلحاد والغفلة والجمود، وانتقلت من ميدان الأدب واللغة إلى ميدان الدين والقرآن، ثم إلى ميدان السياسة والحكومة والبرلمان، ثم إلى ميدان القضاء، والدكتور طه رجل لا تستطيع أن تفرق بين مذهبه في الأدب ومذهبه في الدين، ولا بينهما وبين مذهبه في السياسة، والرافعي رجل كان لا يفرق بين الدين والأدب، ولا يعرف شيئا منهما ينفصل عن شيء أو يتميز منه، ولكنه في السياسة كان يتحلى بفضيلة الجهل التام، فلا تعرف له رأيا في السياسة تؤاخذه به أو تناقشه فيه؛ لأنه كان لا يعرف من السياسة إلا حادثة اليوم بأسبابها، لا بأصحابها، وكم جر عليه هذا الجهل السياسي من متاعب! وكم ألصق به من تهم! ولكنه هنا كان من عوامل توفيقه في هذه المعركة. •••
في سنة 1925 كانت الحكومة للأحرار الدستوريين ولأصدقائهم، والأحرار الدستوريون حزب طه حسين، نشأ بينهم ووقف قلمه على الدعاية لهم، فلما رأى علي ماهر باشا - وزير المعارف يومئذ - أن يضم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، انضم معها الدكتور طه حسين أستاذ الأدب العربي بالجامعة، على شرط الواقف!
ومضى الدكتور طه يحاضر طلابه في كلية الآداب محاضرات في الأدب الجاهلي على الأسلوب الذي رآه لهم، فلما استدار العام جمع طه محاضراته في كتاب أخرجه للناس باسم «في الشعر الجاهلي»، وقرأ الناس كتاب الدكتور طه حسين بعد أن سمعه طلابه منجما في كلية الآداب، فقرءوا رأيا جديدا في الدين والقرآن رجح ما كان عندهم ظنا بالدكتور طه حسين وكتاب السياسة الأسبوعية، فقال الأكثرون من القراء: هذا كفر وضلال، وقالت طائفة: هو خطأ في الفكر وإسراف في حرية الرأي، وقال الأقلون: بل هو الأسلوب الجديد لتجديد الآداب العربية وتحرير الفكر العربي، وظل الرافعي ساكتا؛ إذ لم يكن قد قرأ الكتاب بعد، فما نبهه إلى خطره إلا مقالان نشر أحدهما الأستاذ عباس فضلي القاضي، في السياسة الأسبوعية، وكتب ثانيهما الأمير شكيب أرسلان في كوكب الشرق، فكان فيهما الإنذار للرافعي بأنه قد آن أوانه ...
وانتضى الرافعي قلمه وكتب مقاله الأول فبعث به إلى جريدة «كوكب الشرق»، ثم مقالات ثلاثا بعده، ولم يكن قد قرأ الكتاب، ولا عرف عنه إلا ما نشرت الصحف من خبره، فكانت المعركة بذلك في ميدانها الأول، خصومة بين مذهبين في الأدب وفي الكتابة وفي طرائق البحث، على أن الرافعي لم ينس في هذه المقالات أن له ثأرا عند طه، فجعل إلى جانب النقد الأدبي في هذه المقالات شيئا من أسلوبه المر في النقد، ذلك الأسلوب الذي لا يريد به أن يفحم أكثر مما يريد أن يثأر وينتقم.
ثم تلقى كتاب الدكتور طه حسين فقرأه، فثارت ثائرته لأمر جديد ...
لقد كان شيئا منكرا أن يزعم كاتب أن له الحق في أن يتجرد من دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم، أو يناقش رأيا من الرأي في الأدب، أو يمحص رواية من الرواية في التاريخ، لم يكن أحد من كتاب العربية ليترخص لنفسه في ذلك فيجعل حقيقة من حقائق الدين في موضع الشك، أو نصا من نصوص القرآن في موضع التكذيب، ولكن الدكتور طه قد فعلها وترخص لنفسه، ومنح نفسه الحق في أن يقول قالة في القرآن وفي الإسلام وتاريخ الإسلام، وقرأ الرافعي ما قاله طه، فغضب غضبته للدين والقرآن وتاريخ المسلمين، ونقل المعركة من ميدان إلى ميدان ...
وكان طه في أول أمره عند الرافعي كاتبا يزعم أن له مذهبا جديدا في الأدب، فعاد مبتدعا مضلا له مذهب جديد في الدين والقرآن، فكما ترى البدوي الثائر لعرضه أن ينتهك، كان الرافعي يومئذ، فمضى يستعدي الحكومة والقانون وعلماء الدين أن يأخذوا على يده ويمنعوه أن تشيع بدعته في طلاب الجامعة ... وترادفت مقالاته ثائرة مهتاجة تفور بالغيظ وبالحمية الدينية وبالعصبية للإسلام والعرب، كأن فيها معنى الدم!
ونسي في هذه المقالات كل اعتبار مما تقوم به الصلات بين الناس، فما كان يكتب نقدا في الأدب، بل يصب لهيبا وحمما وقذائف لا تبقي على شيء ، وكان ميدانه في جريدة كوكب الشرق، وكوكب الشرق يومئذ هي جريدة الأمة وجريدة سعد، وجريدة الشرق العربي كله؛ فمن ذلك لم يبق في مصر قارئ ولا كاتب إلا صار له رأي في طه حسين وفي دينه، وإن للأمة من قبل رأيا في وطنيته ومذهبه، وحسبك بها من وطنية في رأي الشعب، وطه حسين هو عدو سعد!
ووقفت الدوافع السياسية إلى جانب الرافعي تؤيده وتشد أزره، وإن لم يكن له في السياسة باع ولا ذراع.
وبلغت الصيحة آذان شيوخ الأزهر، فذكروا أن عليهم واجبا للدفاع عن الدين والقرآن فجمعوا جماعتهم إلى جهاد.
وتساوقت الوفود إلى الوزارة تطلب إليها أن تأخذ طه بما قال؛ وإن طه لأثير في وزارة الأحرار الدستوريين وأصدقائهم، ولكنها لم تستطع أن تتجاهل إرادة الرأي الإسلامي العام ...
ومضى الرافعي في حملته تؤيده كل القوى وتشد أزره كل السلطات.
ونشطت النيابة العمومية لتنظر في شكاوى العلماء وتحدد الجريمة وتقترح العقاب، فعرف الدكتور طه حسين أن عليه وقتئذ أن يقول شيئا، فكتب كتابا إلى مدير الجامعة، يشهده أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... ولكن الرافعي لم يقنع فمضى في النقد على جادته!
ولم تجد الجامعة في النهاية بدا من جمع نسخ الكتاب من المؤلف ومن المكتبات لتمنع تداوله، لعل ذلك يرد الفتنة التي توشك أن تعصف بكل شيء حتى بالجامعة، ولكن الرافعي لم يقنع فاستمر في حملته على الدكتور طه حسين، ولا ظهير له يومئذ غير الدكتور زكي مبارك ...
ليس من شأني أن أنص الحكم في هذه القضية، فإن وثائق الدعوى ما تزال بين أيدي القراء، وليس يهمني لمن كانت الغلبة، فهذا كتاب للرواية لا للرأي، ولكن الذي يجب أن يعرفه القراء، هو أن الدكتور طه حسين لم يحاول الدفاع عن نفسه إلا دفاعا سلبيا فأوى إلى الصمت، ويزعم الدكتور زكي مبارك «أن الدكتور طه حسين كان معقول القلم واللسان - في هذه المعركة - بفضل الإشارات التي صدرت إليه بأن يترك العاصفة تمر، حتى لا يهزم أنصاره أمام الحكومة وأمام البرلمان!» وهو قول لا أدري أيقصد به الدكتور زكي مبارك أن ينتصر لطه أو للرافعي، ولكنه قول صديق عاقل على كل حال ...!
لقد كانت هذه المقالات التي ينشرها الرافعي في كوكب الشرق صيحة مدوية وصلت إلى كل أذن، فما أحسب أحدا في أدباء العربية وقرائها قد فاته منها شيء، وكان المصريون وقتئذ مكمومة أفواههم عن السياسة والحديث في شئونها، فلعلهم وجدوا في هذه المقالات ما يعزيهم عن شيء بشيء؛ إذ كان طه عندهم يومئذ ما يزال هو طه حسين عدو سعد، ومحرر جريدة السياسة، وصديق الأحرار الدستوريين ...!
لا أزعم أن اهتمام الناس جميعا في مصر بهذه المقالات؛ لأنهم جميعا قد صار لهم في شئون الأدب رأي، أو لهم في الذود عن الإسلام حمية، لا، ولكنه نوع من التعصب السياسي جاء اتفاقا ومصادفة في الوقت نفسه، ليكون تأييدا لقول الله وانتصارا لكلمته، على أن هذه المقالات بإقبال الناس عليها - لسبب أدبي أو لسبب سياسي - قد بعثت روحا دينية كانت راقدة، وأذكت حمية كانت خامدة، وألفت قلوبا إلى قلوب كانت متنافرة، ونبهت طوائف من عباد الله كانت أشتاتا لتعمل للذود عن دين الله.
وإني لأذكر مثلا مما كان من إقبال الناس على هذه المقالات، أنني - وكنت طالبا في دار العلوم - لم أكن أطيق الانتظار حتى يجيء بائع الصحف إلى الحي الذي أسكنه لآخذ منه كوكب الشرق، بل كنت وجماعة من الطلاب نستعجل فنقطع الطريق من «المنيرة» إلى «باب اللوق» راجلين لنشتري من الأعداد المبكرة المسافرة إلى حلوان؛ لنقرأها قبل أن يقرأها الناس. •••
وتطورت السياسة المصرية، وتخلى زيور عن الحكم، وعادت حكومة الشعب يؤيدها برلمان سعد، وعكف نواب الأمة على تراث الحكومة الماضية يفتشون عن أخطائه، وما يزال في آذانهم صدى يرن عما كان من أمر الجامعة وأمر طه حسين، فأبدى البرلمان رغبته في محاكمته، وقال النواب: نحن نريد ... وقالت الحكومة: وأنا لا أريد، وتشاد عدلي رئيس الحكومة وسعد رئيس النواب، فهبت زوبعة، ونشأت ضجة، وحدثت أزمة وزارية، ولوح عدلي بالاستقالة ، وأصر سعد على وجوب تنفيذ رأي الأمة، وتعقدت المشكلة ...
وسعى الوسطاء بالصلح بين الزعيمين، فما كان الحل إلا أن يتقدم النائب عبد الحميد البنان
4
بشكواه إلى النيابة العمومية، فتسقط التبعة عن الحكومة، وينفذ رأي الأمة، ثم تسير القضية إلى غايتها أمام القضاء، وكان بعد ذلك ما كان.
وإذا كان انضمام الجامعة إلى وزارة المعارف عملا من أعمال وزير المعارف، فإن ما ثار حول الجامعة بسبب الدكتور طه حسين قد دعا نائبا أو نوابا إلى اقتراح محاكمة علي ماهر بما فعل للجامعة، وبما غير من نظام التعليم العام من غير أن يكون ذلك من حقه الدستوري ... ولكنه ظل اقتراحا لغير التنفيذ. •••
ليست كل هذه الحوادث من تأليف الرافعي، ولكنها شيء يتصل بتاريخه وله فيه أثر أي أثر، فلولا ما كان من الخصومة بين الرافعي وطه، لما قامت هذه الضجة، ولا ثارت هذه الثائرة، ولما كان في التاريخ الأدبي أو السياسي لهذه الحقبة شيء مما كان.
على أن هذه المعركة قد خلفت لنا شيئا أغلى وأمتع، ذلك هو كتاب «المعركة تحت راية القرآن»، وهو جماع رأي الرافعي في القديم والجديد.
وهو أسلوب في النقد، سنتحدث عنه بعد. •••
وقد ظلت الخصومة قائمة بين الرافعي وطه إلى آخر أيامه، بل أحسبها ستظل قائمة ما بقيت العربية وبقي تاريخ الأدب، فما هي خصومة بين شخص وشخص تنتهي بنهايتهما، بل هي خصومة بين مذهب ومذهب سيظل الصراع بينهما أبدا ما دام في العربية حياة وقدرة على البقاء.
وما أعرف أن الرافعي وجد فرصة ليغمز طه في أدبه، أو وجد طه سانحة لينال من الرافعي في فنه ومذهبه، إلا أفرغ كل منهما ما في جعبته، وكم مقال من مقالات طه حسين قرأه علي الرافعي، فقال: اسمع، إنه يعنيني، وكم مقال أملاه علي الرافعي أو قرأته له فوجدت فيه شيئا أعرف من يعنيه به، ومرة أو مرتين قال الأستاذ الزيات صاحب الرسالة للرافعي: أرجو أن تعدل في أسلوب هذا المقال - مما ينشر في الرسالة - فإني لا أحب أن يظن طه أنك تعنيه بشيء تنشره في الرسالة وعلي تبعته عنده.
ولما ثارت في الجامعة مسألة المسجد والمصلى والدروس الدينية وفصل الفتيان عن الفتيات، قبيل موت الرافعي بأشهر، كتب مقالا للرسالة غمز فيه طه وحيا شباب الجامعة، ولم يجد صاحب الرسالة بدا من نشره، وفتن الرافعي بمقاله ذاك وحسن عنده وقعه، فأنشأ تتمة له بعنوان «شيطان وشيطانه»، يغمز بها الدكتور طه حسين، ولكن صاحب الرسالة وقف له واحتج حجة؛ رعاية لصديقه القديم، وكان أول مقال يكتبه الرافعي فترده الرسالة، وقد اغتاظ الرافعي لذلك غيظا شديدا، وأحسبه مات وفي نفسه حسرة منه! لو كان لي أن أعرف أين أجد صورة هذا المقال لنشرته بحق التاريخ الذي لا يحابي الأحياء ولا الأموات، ولكن أين أجده؟ صاحب الرسالة يقول: لقد رددته إليه، والدكتور محمد يقول: لم أجده على مكتب أبي، وما كان بين هذا المقال وبين أجل الرافعي إلا قليل.
5
ولم يتلاق الرافعي وطه وجها لوجه في النقد بعد هذه المعركة حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، ولكن المعارك بينهما ظلت مستمرة من وراء حجاب، تنتقل من ميدان إلى ميدان.
ولما اشترك الرافعي في المباراة الأدبية في سنة 1936، ونال في بعضها من الجائزة دون ما كان يطمع، لم ينسب ذلك لشيء إلا لأن طه كان عضوا في اللجنة ... وطه خصم عنيد ... •••
أما بعد؛ فهذا شيء للتاريخ أثبته على ما فيه، ليس فيه رأيي ولا رأي أحد معي، ولكنه شيء مما حكاه لي الرافعي أو قرأت في كتبه، فكتبته في موضعه من هذا البحث بضمير المتكلم وما لي فيه إلا الرواية، وذلك حسبي من العذر إن كان علي معتبة أو ملام.
تحت راية القرآن
الجديد والقديم ...! هنا ميدان الخصومة بين الرافعي وأدباء عصره، فمنذ نحله أديب منهم زعامة المذهب القديم في مقال كتبه لمجلة الهلال سنة 1923، نشط الرافعي ليجاهد هذه الدعوة التي يدعون إليها بتقسيم الأدب إلى قديم وجديد؛ إذ لم تكن هذه الدعوة عنده إلا وسيلة إلى النيل من العربية في أرفع أساليبها، وسبيلا إلى الطعن في القرآن وإعجاز القرآن، وبابا إلى الزراية بتراث الأدباء العرب منذ كان للعرب شعر وبيان، ومن ذلك اليوم نصب الرافعي نفسه ووقف قلمه على تفنيد دعوى التجديد، فجعل همه من بعد أن يتتبع آثار الأدباء الذين ينتسبون إلى الجديد ليرد عليهم ويكشف عن باطلهم، وما كان يرى في عمله ذلك إلا أنه جهاد لله تحت راية القرآن؛ فمن ذلك كان اسم كتابه الذي جمع به كل ما كتب في المعركة بين الجديد والقديم، من سنة 1908-1926.
هو كتاب لم ينشئه ليكون كتابا، ولكنها مقالات تفرقت أسبابها واجتمعت إلى هدف واحد، وكانت مزقا مبعثرة في عديد من الصحف والمجلات فجمعها بين دفتي كتاب، فاجتمع بها رأي الرافعي في القديم والجديد على اختلاف أسبابه ودواعيه وما كتب له، على أنك لا تكاد تبلغ من صفحات هذا الكتاب إلى الصفحة المائة من أربعمائة، حتى يخلو الميدان من كل أنصار الجديد إلا رجلا واحدا هو الدكتور طه حسين بك، ويتوجه إليه الخطاب والرد في كل ما بقي من صفحات الكتاب، فكأنما أنشأه الرافعي وجمعه كتابا للرد عليه هو وحده، وكأنه هو وحده الذي يدعو إلى الجديد وينتصر له ويحمل رايته، فإذا أوشكت أن تفرغ من الكتاب فرغت من الرافعي ومن رأيه ومن حديثه، لتقرأ جلسة من جلسات البرلمان يرأسها سعد ويتناول الحديث فيها طائفة من النواب عن طه حسين ورأي طه حسين في الأدب وفي الدين وفي القرآن، ويحتدم فيها الجدل بين حكومة عدلي وبرلمان سعد في شأن هو إلى الأدب أدنى منه إلى السياسة، وإنها لجلسة ممتعة خليقة بأن تكون في موضعها من كتب الأدب وتاريخ النقد الأدبي. •••
وليس الكتاب على استواء واحد في أسلوبه، ففي المقالات الأولى منه تقرأ رأي الرافعي هادئا متزنا فيه وقار العلماء وحكمة أهل الرأي ورحابة صدر الناقد البريء، فإذا وصلت من الكتاب إلى قدر ما، رأيت أسلوبا وبيانا غير الذي كنت ترى، وطالعتك من صفحات الكتاب صورة جهمة للرافعي الثائر المغيظ المحنق، جاحظ العينين كأنما يطالب بدم مطلول، مزبد الشدقين كالجمل الهائج، منتفخ الأنف كأنما يشم ريح الدم، سريع الوثاب كأن خصما تراءى له بعدما دار عليه طويلا فهو يخشى أن يفر، وهو هنا يعني طه حسين وحده!
وليس عجبا أن ترى هذين اللونين من النقد لأديب واحد بين دفتي كتاب، فإن هذه المقالات وإن صوبت إلى هدف واحد قد اختلف دواعيها وأسبابها ومن كتبت له، وقد كان بينها في التاريخ الزمني سنوات وسنوات، والكاتب المتجدد لا يثبت على لون واحد من عام إلى عام.
على أنك تقرأ للرافعي من هذا الكتاب رأيه في طريقة تدريس الأدب بالجامعة غداة تأليفها سنة 1908، فتراه يدعو إلى مذهب جديد في تدريس الأدب، وتقرأ له - من الكتاب نفسه - رده في سنة 1926 على طه في طريقته الجديدة لتدريس الأدب، فتراه ينكر عليه هذا الجديد، فتعلم من هذا وذاك أن الرافعي لم يكن يعني بحملته أن يناهض كل جديد، بل كانت غايته أن يرد إلى الأفواه كل لسان يحاول بدعوى الجديد أن ينتقص من القديم ليخلص من ذلك إلى النيل من لغة القرآن ولغة الحديث ومن تراث أدباء العربية الأولين.
ليس يعنيني هنا أن ألخص رأي الرافعي في الجديد والقديم، فمراجع البحث عن رأيه في ذلك واسعة مستفيضة، إنما قصدت إلى تعريف هذا الكتاب إلى قراء العربية في عرض موجز ووصف كاشف، أما ما دون ذلك فله من شاء من أهل الرأي والنظر، وله مني غير هذا المجال من الحديث. •••
والآن سأتجاوز الفصول الأولى من الكتاب لأتحدث عن أسلوبه في سائره، ويبدأ هذا الجزء بعد الصفحة المائة، وفيه تفصيل ما كان بين الرافعي وطه حسين منذ بدأت الخصومة بينهما حول «رسائل الأحزان» إلى أن انتهت عند مجلس النواب حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهو فصول عدة، فيها ألوان من النقد مختلفة، وأساليب في البيان متباينة، ففيها التهكم المر، وفيها الهجوم العنيف، وفيها المصانعة والحيلة، وفيها رد الرأي بالرأي، وفيها تقرير الحقيقة على أساليب من فنون النقد، وفيها المراوغة ونصب الفخاخ للإيقاع، وفيها الوقيعة بين فلان وفلان، وفيها الزلفى إلى فلان وفلان، وفيها العلم والأدب والاطلاع الواسع العميق، وفيها شطط اللسان ومر الهجاء، وفيها فن بديع طريف، فيما حكى الرافعي عن كليلة ودمنة ...
ولكن أكثر هذه الفصول يطرد على مثال واحد إذا أنت نظرت إليه في جملته، فيبدأ كل فصل منها بأسلوب أليم من التهكم يفتن الرافعي فيه فنونا عجيبة حتى يبلغ نصف المقال، ثم يميل إلى طرف من موضوع الكتاب المنقود، فيتناوله على أسلوب آخر هو أقرب الأمثلة إلى ما ينبغي أن يكون عليه النقد الأدبي، لولا عبارات وأساليب هي لازمة من لوازم الرافعي في النقد إذا كان بينه وبين من ينقده ثأر ... بلى، إنها نموذج عال في النقد العلمي الصحيح لولا تلك العبارات وهذه الأساليب!
كليلة ودمنة
إن مبالغة الرافعي في التهكم قد شققت له فنونا من المعاني والأساليب، لولا الناحية الشخصية منها لكانت نماذج لها اعتبار وقيمة في أدب الإنشاء، وأبدع هذه الأساليب حديثه عن كليلة ودمنة وما نحلهما من الرأي فيما تناول من فنون الأدب، وكليلة ودمنة كتاب في العربية نسيج وحده، لم يستطع كاتب من كتاب العربية أن يحاكيه منذ كان ابن المقفع، إلا مصطفى صادق الرافعي، وكانت أول هذه المحاكاة اتفاقا ومصادفة، في مقالة من مقالات الرافعي، في طه حسين؛ إذ أراد أن يتهكم بصاحبه على أسلوب جديد، فبعث كليلة ودمنة ليقول على لسانهما كلاما من كلامه ورأيا من رأيه، فلما أتم تأليف هذا الفصل عاد يقرؤه، فإذا هو عنده يكاد من دقة المحاكاة وقرب الشبه أن ينسبه - على المزاح - إلى ابن المقفع فلا يشك أحد في صدق روايته، فنشره بعدما قدم له بالكلمة الآتية: «عندي نسخة من كتاب كليلة ودمنة ليس مثلها عند أحد ... ما شئت من مثل إلا وجدته فيها، وقد رجعت إليها اليوم فأصبت فيها هذه الحكاية ...» «قال كليلة: أما تضرب لي المثل الذي قلت يا دمنة؟ قال دمنة: زعموا أن سمكة في قدر ذراع ...» ومضى في اختراعه وتهكمه حتى انتهى إلى رأي دمنة في الدكتور طه حسين ...
6
ثم استمر ينقل - عن نسخته الخاصة - من كليلة ودمنة ما يجعله مقدمة القول للتهكم فيما يلي من مقالات في الرد على الدكتور طه حسين، فنشر منها ثمانية فصول طريفة ممتعة في كتاب المعركة، وإن قارئ هذه الفصول الثمانية ليرى فيها لونا طريفا من أدب الرافعي، لو أن الظروف واتته لأتمه فأنشأ به في العربية إنشاء جديدا له خطر ومقدار، على أن الرافعي لم يكن يقصد أول ما قصد أن يتمه كتابا، إنما دفعه إلى إنشاء هذه الفصول السبعة بعد الفصل الأول، ما لقي من استحسان القراء لهذا اللون الجديد من أساليب التهكم في النقد، وأحسب أن الدكتور طه حسين نفسه كان معجبا بهذه الفصول الثمانية من كليلة ودمنة مع ما يناله فيها مما يؤلم ويسيء، كما كان يعجب «فلان» بما ينشر له من الصور الرمزية الساخرة؛ لأن فيها فنا ومقدرة ...!
وانتهى الرافعي من حديث كليلة ودمنة بعد انتهاء هذه المعركة، وظل مهملا «نسخته الخاصة» ست سنين بعد ذلك، حتى تذكرها في سنة 1933 في إبان المعركة بينه وبين العقاد حول «وحي الأربعين» فنشر الفصل التاسع منها في البلاغ بعنوان «الثور والجزار والسكين»، ثم نشر في الرسالة سنة 1935 الفصل العاشر بعنوان «كفر الذبابة!»
7
يعني بها مصطفى كمال - كمال أتاتورك - وحركته الدينية، غفر الله له!
وقد كان في منية الرافعي أن يتم هذه النسخة من كليلة ودمنة يعارض بها كتاب ابن المقفع أو يتمه، ولكنه لم يوفق، وكان في ذلك خير له، فهذه الفصول في موضعها من الكتب التي نشرت بها أجمل وأخف، وإفرادها بالنشر يحملها على تكلف الصنعة ويباعد بينها وبين أذواق القراء، على أن هذه الفصول لا اتصال بينها في موضوعها بحيث تصلح للنشر متساوقة متتابعة كما تتساوق الفصول والأمثال في كتاب ابن المقفع. •••
هذا مجمل الرأي وملخص الموضوع في كتاب «المعركة تحت راية القرآن» وما احتواه، وهو وكتاب «على السفود» خلاصة مذهب الرافعي في النقد وأسلوبه في الجدال، وفيهما أشلاء المعركتين الطاحنتين بينه وبين طه وبينه وبين العقاد، بدمائهما، ورمامهما، ولهيبهما المستعر، ودخانهما الخانق، وغبارهما الكثيف ...
لو تجرد هذان الكتابان من بعض ما فيهما لكانا خير ما أنتجت العربية في النقد، وأحسن مثال في مكافحة الرأي بالرأي مع الاطلاع الواسع والفكر الدقيق، ولكن وا أسفا، إن الإطار يحجب ما في الصورة من جمال، فمن ذا - غير مالك الصورة - يستطيع أن يحطم هذا الإطار ليجلو الصورة في جمالها على أعين الناس؟
شاعر الملك
وهذا فصل آخر مما يتصل بموضوع الحديث عن الرافعي في النقد؛ إذ كان هو أول ما بين الرافعي وعبد الله عفيفي، فإني لأقدم به للقول عن خبر ما كان بينهما من الخصومة التي مهدت للرافعي من بعد أن ينشئ كتابه «على السفود» في نقد ديوان العقاد. •••
في سنة 1926 كان ناظر الخاصة الملكية، هو المرحوم محمد نجيب باشا، وكانت السياسة المصرية تسير في طريق ذي عوج، مهد لطائفة من رجال الحكم والسياسة أن ينشئوا حزبا ينسبون إليه الولاء للقصر، فهيئوا لطائفة غيرهم من السياسيين أن يزعموا أنهم أولياء على حقوق الشعب، حراص على سلطة الأمة، فنشأت بذلك قوة بإزاء قوة، وتناظر سلطان وسلطان، وكان لكل طائفة لسان وبيان ...
في تلك الآونة، تقدم المرحوم محمد نجيب باشا إلى الرافعي أن يكون شاعر الملك، فلقي ذلك العطف الكريم بحقه من الشكر والرضا وعرفان الجميل.
وشاعر الملك، أو شاعر الأمير، لقب قديم في دولة الأدب، وله في تاريخ العربية تاريخ، منذ كان النابغة والنعمان، وزهير وهرم بن سنان، والأخطل وبنو أمية، والنواسي وأبو العتاهية في بني العباس، والبحتري في إمارة المتوكل، والمتنبي في بلاط سيف الدولة، إلى شعراء وملوك لا يحصيهم العد، ولا ننسى في تاريخ مصر الحديث أن نذكر الشاعرين: أبا النصر، والليثي، وليس بعيدا عنا أمير الشعراء المرحوم شوقي بك «شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية»، وقد كان من الولاء والحب لمولاه بحيث لم تطمئن السلطة الحاكمة إلى بقائه في مصر بعد خلع الخديو عباس فنفته إلى الأندلس.
ولقد كان شاعر الملك قبل الرافعي هو الشاعر المرحوم عبد الحليم المصري، فلما مات تطلعت الشعراء إلى موضعه، وكان أكثرهم زلفى إلى هذا المنصب هو المرحوم حافظ إبراهيم؛ إذ كان ما يزال في نفسه شيء يهفو به إليه، مما كان بينه وبين شوقي من المنافسة الأدبية في صدر أيامه على رتبة شاعر الأمير. •••
وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة 1908، ثم لم يقل بعده إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه، وكان أكثر ما قال الشعر بعد ذلك، في سنة 1924، في إبان العاصفة الهوجاء من حب فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب، ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على السرحة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغت إليه القلوب وأرهفت له الآذان ...
واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة 1926 إلى سنة 1930 حتى وقع بينه وبين الإبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعدما أنشأ الخصومة بينه وبين عبد الله عفيفي ... •••
وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظام وحدها في شعر المديح، تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمت إليه، فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح، اقرأ قصيدة الخضراء - يعني الراية - وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما، فإنك واجد فيه هذا الذي ذكرت، وواجد فنا في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفت من فنونه، فإذا حققت هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتت عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية، ثم التمس لها تفسيرا من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها .
لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلا تاما، ولكن كانت فيه أخلاق السياسي ناضجة تامة: من الاحتيال، والروغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى، كانت له أخلاق السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأيا فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء. •••
ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وإزدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الأهلية، حيث كان يعمل جنبا إلى جنب مع مئات من الكتبة والمحضرين وصغار المستخدمين ...!
ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة، فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتابه «إعجاز القرآن» على نفقته، كما أذن في إرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا، فظل يدرس في جامعة ليون على نفقة الملك إلى سنة 1934 حين شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبق بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي، ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش ورسوم الجامعة، كان يكتب «للرسالة» بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتنتهك أعصابه ...! •••
قلت: إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة 1930، ثم كان بينه وبين الإبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكة ...
حدثني الرافعي قال: كنت في عهد نجيب باشا أذهب إلى القصر فيلقاني بوجه طلق، ويحتفي بي، ويبسط لي وجهه ومجلسه، ويثلج صدري بما يروي لي من عطف المليك ورضاه، فما أغادر القصر إلا وأنا أشعر كأن نفسي تزداد عمقا وتمتد طولا وتنبسط سعة، ثم جاء الإبراشي فلم تدعني داعية إلى لقائه، حتى كان يوم وجدتني فيه منطلقا إلى هناك، لأسأله في أمر من الأمر ...
8
قال: «وذهب إليه الساعي بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلست وما أظن إلا أنها دقائق ثم أدعى إليه ... وطال بي الانتظار، ومضت ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء، وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على وجهي منها، ونظرت إليهم وإلى نفسي فضجرت، فعدت أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إلي حاجبه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمر به غدا في الساعة كذا ...»
قال الرافعي: «وآذاني ذلك ونال مني، ولكني اعتذرت عنه، فلما كان الغد جاءني النبأ ينعى إلي زين الشباب المرحوم أمين الرافعي بك، فآدني الهم وثقل علي، وضاقت نفسي بما فيها، وتوزعتني الوساوس والآلام، وما نسيت وأنا أمشي في جنازة الفقيد العظيم أن علي موعدا بعد ساعات، فما هيل عليه التراب حتى كنت في طريقي عدوا إلى القصر؛ وفاء بالوعد الذي اتعدت، وجعلت من وراء ظهري ما علي من واجب المجاملة لمن جاءوا يعزونني في أخي وابن عمي وصاحب الحقوق علي، لقد كان الذي مات زعيما من زعماء الوطنية له مقداره، ولكني جعلت الوفاء بالوعد فوق ما علي من الواجب للزعيم الذي مات، وإنه لأخي، وإن في أعراقه من دمي وفي أعراقي ...!»
قال: «ووقفت بالباب أنتظر أن يؤذن لي فأدخل، وطال بي الانتظار كذلك وإن في دمي جمرات تتلهب، ومضت ثلاث ساعات وأنا في مجلسي ذلك أطالع وجوه الداخلين والخارجين في غرفة الباشا ولا يؤذن لي ...!»
قال الرافعي: «وهاجت كبريائي وثارت حماقتي ... لا أكذبك يا بني، إن في لحماقة ... إن صرامة عمر بن الخطاب قد انحدرت إلي في أصلاب أجدادي من النسب البعيد، ولكن صرامة عمر حين انحدرت إلي صارت حماقة، فهذه الحماقة عندي يا بني هي تلك البقية من صرامة عمر، بعدما تخطت إلي هذا الزمن البعيد في تاريخ الأجيال ...!»
9
قال: «ولما بلغ الحنق بي مبلغه نهضت وفي يدي عصاي، فتقدمت إلى الباب خطوة فدفعته بالعصا وأنا مغيظ محنق، فإذا أنا أمام الإبراشي باشا وجها لوجه، وإلى جانبه رجل أوربي يحدثه ... فلم أعبأ، ولم أكترث، ولم أذكر وقتئذ أين موضعي وموضعه، فقلت ما كنت أريد أن أقول، وانتصفت لنفسي، وثأرت لكبريائي، وأحسبني قد خرجت يومئذ عن حدود الأدب اللائق في الحديث معه، ولكني لم ألق بالا إلى شيء من ذلك، وما كان في نفسي إلا أنني قد قلت ما ينبغي أن أقول لأحفظ كرامتي وأصون نفسي، ولا علي بعد ذلك من غضبه أو رضاه ...
ولكن ... ولكنه مع ذلك لم يغضب، ولم يعتب، بل اعتذر إلي وألح في الاعتذار ... وصدقته حين ابتسم ...!» •••
وأسرها الإبراشي باشا في نفسه، فلما كان الموسم التالي نظم الرافعي قصيدته وأرسل بها إلى القصر، ورصفت حروفها مشكولة في مطبعة دار الكتب - كما جرت العادة - ثم أرسلت بحروفها مجموعة إلى الجريدة المختارة، ومعها قصيدة أخرى مرصوفة مشكولة مزينة، من نظم الأستاذ عبد الله عفيفي المحرر العربي بديوان جلالة الملك، ونشرت القصيدتان جنبا لجنب في جريدة واحدة، وعلى نظام واحد، وكلاهما في مدح الملك، فما يفرق بينهما في الشكل إلا توقيع الشاعرين في ذيل الكلام.
وقرأ الرافعي قصيدة منافسه الجديد، فثار وزمجر، وقال لمن حوله: أترون كيف يصنع بي؟ إنه يريد أن ينال مني - يريد الإبراشي - أهذا شعر يقرن إلى شعري، أيراني وإياه على سواء؟ أيحسب أن الأدباء سيخدعهم هذا الزخرف في الطباعة فيجعلون صاحبهم شاعرا من طبقتي أو يجعلونني شاعرا من طبقته؟ أيراني من الهوان بمنزلة الذي يرضى عن هذا العبث؟ أفيريد أن يمهد لصاحبه حتى يخلعني عن مرتبة «شاعر الملك» ليجعله مكاني؟ أم يراه أهلا ليقاسمني المنزلة والمقدار عند صاحب التاج ...
ومضى الرافعي يومه يفكر ويقدر، وما كان إلا في مثل حال الرجل الذي يعود إلى داره التي يملك، فإذا له فيها شريك يحتلها بقوة ساعده لا بحقه، فما يجد له حيلة في إجلائه عن الدار إلا أن يرفع أمره إلى القاضي ... وكان القاضي عند الرافعي في هذه القضية هو الرأي الأدبي العام، فرفع أمره إليه ...
وتحدث بنيته إلى صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب مجلة العصور، فأوسع له صفحات من مجلته ليبدأ الحملة على الأستاذ عبد الله عفيفي في مقالات عنيفة صارخة بعنوان: على السفود!
وما كان الرافعي يجهل أنه يتناول موضوعا دقيقا حين يعرض لنقد هذا الشاعر، فإنه ليعلم علم اليقين أن هذه المقالات سيكون لها صدى بعيد، تصل به إلى آذان لا يسره أن تعلم من كاتب هذه المقالات، فتنكر وأخفى نفسه ...
الرافعي وعبد الله عفيفي
لم يكن عبد الله عفيفي خصما للرافعي على الحقيقة، ولا أحسب أن أحدهما كان يرضيه أن يكون بينهما ما كان ولا سعى إليه، ولكن عبد الله عفيفي في مكانه من ديوان جلالة الملك، وفي موضعه عند الإبراشي باشا، قد دارت به المقادير دورتها حتى وقفته مع الرافعي وجها لوجه، وجعلته بالموضع الذي لا يستطيع واحد منهما فيه أن يتجاهل أنه أمام خصم يحاول أن يظفر به، ومن هنا نشأت الخصومة بين الرافعي وعبد الله عفيفي.
على أن هذه الخصومة بينهما تختلف عن سائر الخصومات التي نشبت بين الرافعي وأدباء عصره، فهنا لم تنشأ الخصومة إلا للتزاحم على رتبة «شاعر الأمير»، على حين كانت أكثر خصومات الرافعي ذيادا عن الدين وحفاظا على لغة القرآن، فما كنت ترى فيها إلا التراشق بألفاظ الكفر والزيغ والمروق والإلحاد، أما هنا فكانت المعركة تدور وما فيها إلا التهمة بالغفلة وفساد الذوق وضعف الرأي وقلة المعرفة ... وما بد من أن يكون في نقد الرافعي أحد هذين اللونين: الاتهام بالزيغ، أو الاتهام بالغفلة، ولا ثالث لهما؛ ومن هنا فقط نستطيع أن نزعم أن الرافعي لم يكن موفقا في النقد، مع أهليته واستعداده وإحاطته الواسعة وإحساسه الدقيق؛ إذ كان أول ما ينبغي أن يتصف به الناقد هو عفة اللسان والقصد في التهمة وضبط النفس ...!
وثمة شيء آخر يفرق بين هذه الخصومة وسائر الخصومات، هو أن المعركة كانت إيجابية من طرف واحد، على حين ظل الطرف الثاني صامتا قارا في موضعه لم ينبس بكلمة، ولم تبدر منه بادرة مشهودة للدفاع ... •••
كتب الرافعي مقالات ثلاثا بعنوان «على السفود» في نقد ثلاث قصائد أنشأها عبد الله عفيفي في مديح الملك - والسفود هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم - وهو عنوان له دلالته، وفيه الإشارة والرمز إلى ما حوت هذه المقالات من الأساليب اللاذعة والنقد الحامي، وإذ لم يكن توقيع الرافعي في ذيل هذه المقالات، ولا كان يريد أن يعرف أنه كاتبها؛ فإنه خرج عن مألوفه في الكتابة وفي نمط الكلام، فاسترسل ما شاء كأنه يتحدث في مجلسه إلى جماعة من خاصته، لا يعنيه الأسلوب ولا جودة العبارة ولا عربية اللفظ، بقدر ما يعنيه أن يتأدى معناه إلى قارئه في أي أسلوب وبأية عبارة، فكثر الحشو في هذه المقالات من الكلمات العامية، والنكات الذائعة، والأمثال الشعبية، ولكنه لم يستطع أن يتخلص من كل لوازمه في النقد والكتابة، فبقيت له خفة الظل وحلاوة اللفظ وقسوة النقد، إلى بعض عبارات في أسلوبه تنم عليه وتكشف عن سره.
ولم يذكر الرافعي حين أنشأ هذه المقالات أنه يتناول بهذا النقد شاعرا من شعراء القصر له حظوة عند رئيس الديوان الملكي، وأن هذا الشعر الذي يفليه ويكشف عن عيبه إنما أنشأه ناظمه في مديح الملك، أو لعل الرافعي كان يذكر ذلك، ولكنه يحسب نفسه بنجوة من التهمة؛ لأنه لم يوقع بإمضائه على هذه المقالات، فلم يتحرج مما كتب وألقى القول على سجيته في صراحة وعنف وقسوة، ولم يصطنع الأدب اللائق وهو يتحدث عما ينبغي أن يكون عليه الشعر الذي يقال في مدح الملك وما لا ينبغي أن يقال، فجاء في بعض كلامه عبارات لا يسيغها الذوق الأدبي العام عندما يتصل موضوع القول بالملك الحي الذي يحكم ويدين له الجميع بالولاء، وكأنما ركبته طبيعة غير طبيعته خيلت إليه أنه يكتب في نقد شاعر من الماضين يمدح ملكا من ملوك التاريخ، فلم ينظر إلى غير الاعتبار الأدبي الخالص من دون ما ينبغي أن يراعى من التقاليد واللباقة السياسية عند الحديث عن الملوك ...
وانتهت أولى هذه المقالات إلى القصر، فمالت الأفواه إلى الآذان، وتهامس القراء همسا غير خفي، ثم جهروا يتساءلون: من يكون هذا الكاتب؟ ولكن أحدا منهم لم يفطن إليه ولم يعرف الجواب، وأنفذوا دسيسا إلى الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب «العصور» يسأله فلم يظفر منه بجواب.
ونشر المقال الثاني والثالث، فلم يلبث أن انكشف السر، ونم الرافعي على نفسه بلسانه في مجالسه الخاصة ... أو نم عليه أسلوبه وطريقته في النقد.
وجاءه سائل من القصر يسأله ويستوثق من صحة الخبر في أسلوب السياسي البارع: «... وكيف تأذن لنفسك أن تقول ما قلت في شاعر من شعراء الملك، وأن تكتب عنه بهذا الأسلوب؟ أفيتفق مع الولاء لصاحب العرش أن تكتب ما كتبت لتصرف الشعراء المخلصين عن ساحة الملك ...؟ أم تريد ألا ينطق أحد بالثناء على صاحب التاج وألا يكون اسمه على لسان شاعر؟ أم هي دسيسة تصطنع الأدب لتفض المخلصين من رعيته عن بابه ...؟»
وغص الرافعي بريقه، وتبين الهاوية تحت قدميه يوشك أن يتردى فيها بحيلة بارعة، وأحس الإبراشي باشا من ورائه يحاول أن يدفعه بعنف لينتقم لكبريائه التي مسها الرافعي بحماقته منذ بضعة أشهر ...
وحاول النجاة بنفسه من هذه المكيدة المبيتة، فلم يجد له وسيلة إلا الصمت فأوى إليه، وانقطع ما بينه وبين القصر من صلات، إلا الصلة العامة التي بين الملك وبين كل فرد من رعيته، وكان أخوف ما يخاف الرافعي أن تكون خاتمة ذلك هي انقطاع المعونة الملكية عن ولده الذي يدرس الطب في جامعة ليون على نفقة الملك، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد هذه الحادثة بأربع سنين. •••
لقد كثر ما استغل خصوم الرافعي السياسة لينالوا منه، ولقد كثر ما اتهموه بأنه من أدوات الإبراشي باشا في محاربة سلطة الأمة، وأنه صنيعته ومولاه، على حين كان هذا الموقف هو كل ما بين الرافعي والإبراشي باشا من صلات الود والموالاة! فما انقطعت صلة الرافعي بالقصر إلا في عهد الإبراشي، وما كان معه يوما على صفاء، على أنه كان تلميذا معه في مدرسة المنصورة الابتدائية فيما أذكر من حديث الرافعي.
ولقد كتب كاتب من خصوم الرافعي غداة دالت دولة الإبراشي، فصلا مؤثرا ... بعبارات بليغة ... في صحيفة من صحف الشعب،
10
يصف جناية الإبراشي باشا على الأدب، وكان من براهينه على ذلك أنه اصطنع الرافعي ليحارب بقلمه ولسانه سلطة الأمة ... وقرأت هذه المقالة مع الرافعي، ونظرت إليه فإذا هو يبتسم ابتسامة مرة، ثم قال: «هذا أديب يتحدث عن جناية السياسة على الأدب ... أرأيت ...! صدق! لقد جنت السياسة على الأدب.»
11 •••
لم يكن لهذه المقالات الثلاث التي كتبها الرافعي عن عبد الله عفيفي صدى في غير هذه الدائرة المحدودة، على أنها أنشأت بينهما خصومة صامتة ظلت مع الرافعي إلى آخر أيامه، وظلت مع الأستاذ عفيفي في أحاديثه الخاصة إلى أصدقائه، وإلى طلابه في كلية اللغة العربية بالأزهر ...
فلما مات شوقي أمير الشعراء في خريف سنة 1932، كتب الرافعي عنه مقاله المشهور في مجلة المقتطف، وذكر فيما ذكر أن شوقي لو كان مصريا خالص المصرية لما تهيأت له الأسباب النفسية التي بلغت به مبلغه في الشعر؛ لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية، ولا تعين على إبراز الشاعرية الكامنة في كل نفس.
هو رأي أبداه فيما أبدى من الرأي، لم يقصد به التعريض بأحد أو الحط من مقداره، وقد يكون رأيا إلى الخطأ أو إلى الصواب، وقد يتكافأ فيه كفتا الخطأ والصواب، ولكنه رأي أبداه الرافعي مجردا من الهوى، لا يعني به إلا أن يستوفي عناصر بحثه، ولكن خصومه تناولوه على ألوان وفنون.
أما طائفة فمالت به إلى السياسة، وقال قائلهم: هذا رجل ليس منا، يريد أن ينكر فضل مصر عليه وعلى آله، فيتهمها بالعقم وركود الذهن وجمود العاطفة فيجردها من الشعراء ... ومضى في دعواه. ذلك سلامة موسى! ...
وأما ثانية فقالت: وهذا قول يعنينا به نحن الشعراء المصريين؛ ليجردنا من الشاعرية في قاعدة عامة لا تستثني أحدا إلا من انحدر إلى مصر وفي أعراقه دم غريب ... ومضت هذه الطائفة تنقض دعواه وتسفه رأيه بما تسوق من الأمثال وتذكر من أسامي الشعراء المصريين.
وانتضى عبد الله عفيفي قلمه ليكتب في جريدة «البلاغ» مقالات أسبوعية بعنوان «مصر الشاعرة»، يذكر فيها من شعراء مصر في مختلف الأجيال منذ كانت مصر العربية، ما يراه ردا على دعوى الرافعي، ومضى في هذه المقالات بضعة أسابيع يضرب على وتر واحد، ثم مل هذه النغمة فراح يتصيد موضوعات أخرى من مشاهداته وآرائه في الناس والحياة، ولكن عنوان «مصر الشاعرة» ظل على رأس هذه المقالات يبحث عن موضوعه ... فكان حسبه في هذه المقالات أن أنشأ هذا العنوان في الرد على الرافعي! ... •••
وقد ظل الرافعي إلى آخر عمره يذكر أيامه وهو شاعر الملك، ثم ما كان بينه وبين الإبراشي وبين عبد الله عفيفي، وما كانت تظهر للأستاذ عفيفي في الصحف مدحة ملكية، في موسم من المواسم أو عيد من الأعياد، حتى يتناولها الرافعي فيقرأها إلى آخرها، ثم يلتفت إلى جليسه فيقول: «ماذا رأيت فيها من شعر ومن معنى جديد؟» ثم يسترسل فيما تعود من المزاح والتندر.
وقد ذكرت فيما قدمت من هذه الفصول أن الرافعي كان يسمي كل جميلة من النساء «شاعرة» فمنهن كالمتنبي، ومنهن كالبحتري، ومنهن بشار بن برد، ومنهن عبد الله عفيفي.
فهذه الأخيرة عنده هي ذلك النوع «البلدي» من نساء الطبقة الثالثة، التي تبدو ملفوفة «محبوكة الأطراف» في ملاءتها السوداء، غضة بضة، تستهويك بجمال الجسم دون جمال المعنى، وفيها أنوثة اللحم والدم، ولكنها جامدة العاطفة عقيم الخيال ...
ومعذرة إلى الأستاذ عبد الله عفيفي! فإنما أنا راوية أكتب للتاريخ، وما شهدت إلا بما علمت وعلي تبعة الرواية وعلى غيري تبعة الرأي، وللأستاذ عفيفي في نفسي على الرغم من ذلك كل إجلال واحترام! •••
حاشية: كتبت هذا للطبعة الأولى من هذا الكتاب، فلم تكد تلك الطبعة تظهر لقرائها حتى كتب إلي المرحوم عبد الله عفيفي رسالة عليها الشعار الملكي يطلب إلي فيها أن أحدد زمانا ومكانا للقائه، فلم يغب عني أنها دعوة للحديث في موضوع يتصل بما نشرت عنه في هذا الكتاب، فقررت أن يكون جوابي على هذه الدعوة أن أذهب إليه، تكرمة له، وكنت يومئذ من العمل في زحمة، فمضت أيام قبل أن أذهب إليه، واستبطأ المرحوم عبد الله عفيفي جوابي فتحدث إلى بعض أساتذتي يسأله أن يكون رسولا إلي، ثم استبطأه فبعث رسولا ثانيا ... وحسب الرسولان بما لأحدهما علي من حق الأستاذية في المدرسة وما للآخر من حق الرياسة في عملي بالحكومة وقتذاك، أنهما يملكان أن يقوداني بزمام إلى حيث ألقى السيد عبد الله عفيفي وأعتذر إليه، ولكني رددتهما ردا جميلا، ولكن المرحوم عبد الله عفيفي - فيما يبدو لي - كان حريصا على أن يلقاني ليتحدث إلي حديثا ما، فبعث إلي رسولا ثالثا مترفقا في حديثه، فلبيت الدعوة ولقيت الرجل في منزل الأستاذ عبد اللطيف المغربي بالعباسية، وجلست إليه أستمع إلى ما يقول ...
قال: «لقد ذكرتني بما لا ينبغي في كتابك، وكان حقا عليك أن تسألني قبل أن تكتب عني لتعرف وجه الحق فيما رويت!»
قلت: «إنني فيما كتبت لم أكن صاحب رأي، وإنما أسندت ما كتبته إلى راويه!»
قال: «لو كان راويه كاذبا دجالا ...»
قلت: «صه! ذلك رجل مات فدع عنك ذكره، وحدثني بخبرك ووجه الحق فيه!»
قال: «قد علمت أنك على نية إصدار كتاب عن المؤثرات السياسية في جيل من الأدباء، فصحح عني بعض ما رويت واذكر أنني لم أكن صنيعة الإبراشي باشا، وإنما عرف مكاني وهيأ لي أسبابي توفيق نسيم باشا ...!»
قلت: «ولكن ذلك ليس من شأني، فماذا يعنيني أن يكون الذي هيأ لك الأسباب هو الإبراشي أو توفيق نسيم، وإنما حديثي عن الرافعي أو عن المؤثرات السياسية في الأدب!»
فعض الشيخ على شفته وتريث برهة، ثم لطف أسلوبه ورق، وقال: «أنا أعني ...» ثم عاد إلى الصمت ليستأنف حديثه بعد قليل قائلا: «أنت تعرف أن الموظفين في القصر ينبغي ألا تعلق بأسمائهم شبهات سياسة، فلست أحب أن يذكر اسمي إلى جانب اسم الإبراشي باشا ...»
قلت: «قد فهمت! ...» فهل فهم القراء؟
نعم، فقد كان الإبراشي باشا يومئذ موضع السخط، على حين كان المرحوم توفيق نسيم باشا في موضع الرضا والحظوة، فلا بأس أن يذكر أن عبد الله عفيفي كان صنيعة توفيق نسيم لا صنيعة الإبراشي!
وقد قلت في التمهيد لهذا التاريخ: إنني راوية لا صاحب رأي، فلأذكر إذن أن كل ما كان بيني وبين عبد الله عفيفي - رحمه الله - من الخلاف هو: من الذي اصطنعه!
الرافعي والعقاد ... إنه ليتفق لهذا الكاتب من أساليب البيان ما لا يتفق لكاتب من كتاب العربية في صدر أيامها!
عباس محمود العقاد ... ذلك كان رأي العقاد في أدب الرافعي قبل بضع عشرة سنة من هذه الخصومة التي أروي خبرها، وشتان بين هذا الرأي يبديه العقاد سنة 1917 في مقال ينشره ليعرف بكتاب من كتب الرافعي أنشأه في ذلك العهد، وبين رأيه الأخير في المهذار الأصم مصطفى صادق كما يصفه في سنة 1933. •••
لقد مات الرافعي - يرحمه الله - فانقطع بموته ما كان بينه وبين خصومه من عداوات، وما أريد أن أوقظ فتنة نائمة يتناولني لهيبها أول ما يتناول، فما لي طاقة على حمل العداوة، ولا اصطبار على عنت الخصومة، ولا احتمال على مشقة الجدال، وإنما هو تاريخ إنسان له على العربية حق جحده الجاحدون فنهضت للوفاء به، فإن كنت أكتب عن أحد من خصومه أو أصحابه بما يؤلم أو يسيء، فما ذلك أردت ولا إليه قصدت ولا به رضيت، ولكنها أمانة أحملها كارها، وأضطلع بعبئها مضطرا؛ لأؤديها إلى أهلها كما تأدت إلي، وإني لأعلم أني بما أكتب من هذا التاريخ أضع نفسي بالموضع الذي أكره، وأتعرض بها لما لا أتوقع، ولكن حسبي خلوص النية، وبراءة الصدر، وشرف القصد، ولا علي بعد ذلك مما يكتب فلان، ولا مما يتوعد به فلان، فإن كان أحد يريد أن يصل بي ما كان بينه وبين الرافعي من عداوة فانقطعت، أو يربط بي رابطة كانت بينه وبين فلان فانفصمت، أو يتخذ من الاعتراض علي زلفى إلى صديق يلتمس وده، أو يجعل مما يكون بيني وبينه سبيلا إلى غرض يرجو النفاذ إليه، أو وسيلة إلى هوى يسعى إليه، إن كان أحد يريد ذلك فليمض على إرادته، وإن لي نهجي الذي رسمت، فلتفترق بنا الطريق أو تلتق على سواء، فليس هذا أو ذاك بمانعي من المضي في سبيلي، ومن الله التوفيق! •••
وهذه خصومة أخرى من خصومات الرافعي ومعركة جديدة من معاركه، وإني لأشعر حين أعرض لنبش الماضي فأذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، أني كمن يدخل بين صديقين كان بينهما في سالف العمر شحناء ثم مسحت على قلبيهما الأيام فتصافيا، فإنه ليذكر بما لا ينبغي أن يذكر، والموت يحسم أسباب الخلاف بين كرام الناس، فإذا كان بين الرافعي والعقاد عداوة في سالف الأيام فقد انقطعت أسبابها ودواعيها، فإن بينهما اليوم لبرزخا لا تجتازه الأرواح إلى أخراها إلا بعد أن تترك شهواتها وأحقادها وعواطفها البشرية، فهنا ناموس وهناك ناموس، ولكل عالم قوانينه وشريعته، فما تخلص ضوضاء الحياة إلى آذان من في القبر، ولا ينتهي إلى الأحياء من عواطف الموتى إلا ما خلفوا من الآثار في دنياهم.
هنا رجل من الأحياء، وهناك رجل في التاريخ، وشتان ما هنا وهناك، فما أتحدث اليوم عن خصومة قائمة، ولكني أتحدث عن ماض بعيد، والرافعي الذي يحيا بذكراه اليوم بيننا غير الرافعي الذي كان، فما ينبغي أن تجدد ذكراه ماضي البغضاء، وهذا عذيري فيما أذكر من الحديث.
لم يكن بين الرافعي والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من إعجاز القرآن غير الصفاء والود، فلما صدر هذا الكتاب في طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئا كان هو أول الخصام ...
حدثني الرافعي قال: «سعيت لدار المقتطف لأمر، فوافقت العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الذي كان يلقاني به، فاعتذرت من ذلك إلى نفسي بما ألهمتني نفسي، وجلسنا نتحدث، وسألته الرأي في إعجاز القرآن، فكأنما ألقيت حجرا في ماء آسن ... فمضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأرا بينه وبين إعجاز القرآن، ولو كان طعنه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان علي، ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجازه وإيمانه بهذا الإعجاز ... أصدقك القول يا بني: لقد ثارت نفسي ساعتئذ ثورة عنيفة، فكدت أفعل شيئا، إن القرآن لأكرم وأعز ... ولكني آثرت الأناة ...»
قال الرافعي: «وأخذت أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمرجلا يتلهب؛ إذ كنت أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعا به، فأخذت معه في الحديث، على هدوئي وثورة أعصابه ... ولم أفهم إلا من بعد ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه ...»
قال: «لقد كان العقاد كاتبا من أكبر كتاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند «سعد» منزلة لا يراها لكاتب من الكتاب أو أديب من الأدباء، وأن له على سعد حقا، ولكن سعدا مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه: «كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.» وكتبها للرافعي وليس له عليه حق مما عليه للعقاد ...»
قال الرافعي: «... من هنا يا بني كانت ثورته، كانت ثورة الغيرة ... لا ثورة الأديب الناقد الذي لم يقنع بما كتب الكتاب عن إعجاز القرآن فهو يلتمس المعرفة والاقتناع، وعرفت ذلك من بعد، فما بدا علي ما في نفسي من الانفعال، ومضيت معه في الحديث في وجه جديد. قلت: أنت تجحد فضل كتابي، فهل تراك أحسن رأيا من سعد؟»
قال الرافعي: «وفهم ما أعنيه، فقال: وما سعد؟ وما رأي سعد؟»
قال الرافعي: «وطويت الورقة التي كان يكتب فيها حديثه،
12
فقبضت عليها يدي، ثم قلت: أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد لقرائك وأنت تأكل الخبز في مدحه والتعلق بذكراه ...؟ قال: فاكتب إلي هذا السؤال في صحيفة من الصحف تقرأ جوابي كما عرفته الآن ...»
قال الرافعي: «وابتسمت لقوله ذاك، وأجبته: يا سيدي، إن الرافعي ليس من الحماقة بحيث يسأل هذا السؤال في صحيفة من الصحف فتنشر السؤال ولا ترد عليه، فيكون في سؤالي وفي صمتك تهمة لي ، وتظل أنت عند قرائك حازما أريبا بريئا من التهمة مخلصا لذكرى سعد!»
قال الرافعي: «وما قلت ذلك - وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي - حتى تقبض وجهه، وتقلصت عضلاته، ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فما لك أنت ولسعد؟ إن سعدا لم يكتب هذا الخطاب، ولكنك أنت كاتبه ومزوره، ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عن الشعب!»
قال الرافعي: «وما أطقت الصبر بعد هذه التهمة الشنيعة، ولا ملكت سلطاني على نفسي، فهممت به ... فدخل بيننا الأستاذ صروف. فدعا العقاد أن يغادر المكان ليحسم العراك ويفض الثورة، فخرج والباب يبصق في قفاه!»
13 •••
هذه رواية الرافعي، حدثني بها غير مرة في غير مجلس، كما تحدث بها إلى غيري من أصدقائه وخاصته، فما لي فيها إلا الرواية والتصرف في بعض الكلام؛ تأدبا مع العقاد وكرامة لذكرى الرافعي.
وقد بدا لي أن أستوثق مما حدثني به الرافعي، فقصدت إلى الأستاذ فؤاد صروف - محرر المقتطف - أسأله الرأي في هذه الرواية؛ إذ كان من شهود الحادثة على ما رواها الرافعي، فقال: «... هذا الحديث في جملته وفي موضوعه لا اعتراض لي عليه، وبقدر ما تطاوعني الذاكرة أستطيع أن أجزم بأن شيئا من ذلك قد كان، ولكن الذي رواه لك الرافعي من حديث العقاد في هذه المناظرة ليس على نصه، قد يكون هذا مؤدى ما قال ولكنه ليس به، والرافعي - رحمه الله - كان أصم، ولم يكن كل الحديث بينهما مكتوبا، وقد قال العقاد في مناظرته كلاما لم يكتبه ولم يسمعه الرافعي، ولكنه تخيله على ما أحسب، فكانت روايته للحادثة من بعد معنى يرويه لا لفظا يحكيه. ... ولكني مع ذلك لا أنكر ما كان من حديث العقاد في هذه المناظرة عن القرآن وإعجاز القرآن، ورأيه في ذلك يعرفه أصحابه!
ثم لا أدري من أين جاء الرافعي أنني دعوت العقاد أن يغادر المكان، فما كان ينبغي لي هذا، ولا هو من آدابي، وإنهما لضيفان في داري، وأحسب أن الرافعي قد فهم ذلك خطأ حين رأى العقاد يغادر المجلس !»
قلت: «وقد أطلعني الرافعي على ورقات قال: إن العقاد كان يحدثه كتابة فيها، وفيها عبارات تبرهن على صدق الرافعي في روايته! ... كما أشار الرافعي في كتابه «على السفود» إلى طرف من هذه المحاورة، وإلى هذه الورقات التي يحتفظ بها برهانا على بعض ما يصف به العقاد.»
14
على السفود
وفرغ الرافعي من مقالات عبد الله عفيفي التي كان ينشرها بعنوان «على السفود»، ثم ذهب مرة لزيارة صديقه الأستاذ إسماعيل مظهر صاحب العصور وما يزال في نفسه شيء مما كان من المحاورة بينه وبين العقاد، فسأله الأستاذ مظهر تتمة هذه السلسلة في نقد الأستاذ عفيفي، فاعتذر الرافعي وقال: حسبي ما كتبت عنه وحسبه، قال مظهر: فاكتب عن غيره من الشعراء، إن في هذه المقالات لمثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة!
فتنبه الرافعي إلى شيء في نفسه، وجلس إلى مكتب في دار العصور فكتب مقاله الأول من كتاب على السفود في نقد العقاد، وتوالت مقالاته من بعد في أعداد المجلة متتابعة في كل شهر، فلما تمت هذه المقالات، نشرها الأستاذ إسماعيل مظهر في كتاب قدم له بمقدمة بإمضائه يبين فيها ما دفعه إلى نشر هذا الكتاب الذي لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بكلمة «بقلم إمام من أئمة الأدب العربي». •••
إن هذه الخصومة العنيفة بين الرافعي والعقاد قد تجاوزت ميدانها الذي بدأت فيه ومحورها الذي كانت تدور عليه، إلى ميادين أخرى جعلت كلا من الأديبين الكبيرين ينسى مكانه ويغفل أدبه ليلغ في عرض صاحبه ويأكل لحمه من غير أن يتذمم أو يرى في ذلك معابة عليه، وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعي في مقالاته على السفود ...
هم ثلاثة أو أربعة من كتاب العربية في الجيل الحديث كانت لهم هذه الخلة المرذولة في النقد وفي أساليب الجدل، هذان اثنان منهم، وكان للرافعي مع كل واحد من الاثنين الآخرين معركة، على أن أشد هذه المعارك عنفا وأبعدها عن حدود الأدب اللائق هي المعركة بينه وبين العقاد!
وكان بدء هذه المعركة هو ذلك الحديث الذي دار بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف، حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب إعجاز القرآن، وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي، فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن والعقاد ينكر إعجازه، ولكتابه والعقاد يجحد فضله، ثم كانت الغضبة الثانية للتهمة التي رماه بها العقاد حين جبهه بأنه افترى كتاب سعد ونحله إياه في تقريظ إعجاز القرآن ليروج عند الشعب ...
فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة، هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيمانا لا يتناوله الشك، وسببان خاصان، هما: رأي العقاد في كتاب الرافعي، ثم تهمته له بأنه مفتر كذاب ...!
ترى أي هذه الأسباب الثلاثة هو الذي أثار الرافعي فدفعه إلى الخروج عن الوقار والأدب الواجب فيما أنشأ من مقالات «على السفود» ...؟
الرافعي يقول: إنها غضبة لله وللقرآن، وللتاريخ رأي لست أدري أيفارق هذا الرأي أو يلتقي وإياه على سواء ...؟
ولكن كتاب على السفود مع ذلك لا يتناول مسألة المسائل في هذا الخلاف، فلا يتحدث إلا عن شعر العقاد وديوان العقاد، ثم عن أشياء خاصة تعترض في فضول القول وحشو الكلام، فأين هذا مما دارت عليه المعركة من أسباب الخصام ... الرافعي يقول: هذا أسلوب من الرد قصدت به الكشف عن زيف هذا الأديب والزراية بأدبه، حتى إذا تقررت منزلته الحقيقية في الأدب عند قراء العربية، لا تراهم يستمعون لرأيه عندما يهم بالحديث عن إعجاز القرآن، وهل يحسن الحديث عن إعجاز القرآن من لا يستقيم منطق العربية في فكره، ولا يستقيم بيانها على لسانه؟ ... هكذا يقول الرافعي! ...
ومن ثم بدأت المعركة على أعين القراء ... •••
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لكتاب «على السفود»: ... أردنا بنشر السفود أن نرضي من أنفسنا نزعتها إلى تحرير النقد من عبادة الأشخاص، ذلك الداء المستعصي الذي كان سببا في تأخر الشرق عن لحاق الأمم الأخرى ... ... ونقدم بهذه المقدمة تعريفا لما قصدنا من إذاعة هذه المقالات الانتقادية التي أعتقد بأنه لم ينسج على منوالها في الأدب حتى الآن!
وعسى أن يكون السفود «مدرسة» تهذيب لمن أخذتهم كبرياء الوهم، ومثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة! ...
أما أن تكون هذه المقالات الانتقادية لم ينسج على منوالها في الأدب الحديث، فنعم، وأما أن تكون مدرسة للتهذيب ومثالا يحتذيه النقدة، فلا ... فليس بنا من حاجة إلى أن يحتذي النقدة هذا المثال في أسلوب النقد والجدل فيزيدوا عيبا فاحشا إلى عيوب النقد في العربية.
والحق الذي أعتقده أن في هذا الكتاب - على ما فيه - نموذجا في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها، ولكن فيه مع ذلك شيئا خليقا بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أذم الصور وأقبح الألوان، بما فيه من هجر القول ومر الهجاء، ولئن كان هذا مذهبا معروفا في النقد للرافعي وخصمه واثنين آخرين من كتاب العربية في هذا الجيل، إننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصح أدبا وأعف لسانا من ذاك ...!
ذلك رأي قلته للرافعي - يرحمه الله - فما أنكره علي ولا اعتذر منه، فما يمنعني اليوم شيء أن أعلنه صريحا إلى الأدباء، ولقد هم الرافعي منذ سنوات أن يجمع كل ما كتب في النقد بعد كتاب «المعركة» في كتاب واحد، فأبديت له الرأي أن يضم إلى هذا المجموع مقالات «على السفود» بعد أن يجردها مما يعيبها حرصا على ما فيها من الفن، فارتاح لهذا الرأي واطمأن إليه، ولكنه لم يفعل؛ إذ حالت الحوائل دون تنفيذ فكرته.
وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغمورا في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة، وهيهات أن تقبل عليها النفس، وإنها لخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يكتنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء.
ولقد كان الرافعي نفسه يعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول، وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة، ولكن الرافعي مع ذلك كان مطمئنا إلى شيء آخر ...
قال الرافعي: «... قال لي قائل: لقد قلت في العقاد ما كان حريا أن يقفه وإياك أمام القضاء! ... قلت: ولكني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها! إنني كنت أهاجم العقاد بمثل أسلوبه في النقد، وإن معي لورقات بخطه لا يسره أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح، ولقد قرأت من هذه الورقات على مستشار كبير فأيقن بما أنا موقن به وحكمت لي محكمته ...!»
ذلك حديث الرافعي ... فهل كان هذا حسبه من العذر فيما كتب؟
على أن كثيرا من قراء «على السفود» يضعونه في غير هذا الموضع الذي أضع، مؤمنين بأن في الأدباء طائفة لا يمكن مناقشتها إلا بمثل أسلوب على السفود! •••
انتشر كتاب «على السفود» وتناوله القراء على أن كثيرا منهم لم يعرف كاتبه إلا بعد سنين ... وكان في هذا خير للرافعي ولسمعته الأدبية ولمكانه من نفوس القراء؛ إذ كان العقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، والوفد هو الأمة كلها، قراؤها وعامتها وشيوخها وشبابها، فكان العقاد بذلك هو عند الشعب إمام الكتاب وأمير الشعراء، لا يعاديه إلا خارج على الأمة أو مارق من الوطنية، ولو كانت عداوته في مسألة أدبية لا تتصل بالسياسة، ولو كانت مناقشته حول إعجاز القرآن. •••
ثم كانت هدنة بين الرافعي والعقاد، صمت فيها الخصمان طويلا وكل منهما يتربص بخصمه ليضربه الضربة القاضية، حتى كان خريف سنة 1932.
مات المرحوم شوقي في أكتوبر سنة 1932، فاهتزت لموته المجامع الأدبية في مصر والشرق، فما تجد من كاتب أو أديب من أبناء العروبة إلا اهتم لهذا النبأ واحتفل به، وتهيأت «المقتطف» لكتابة فصل أدبي عن أمير الشعراء فأفرغت بضع عشرة صفحة من العدد الذي كان موشكا أن يصدر، وأبرقت إلى الرافعي في طنطا أن يكتب هذا الفصل ويرسله إليها في أيام قبل أن يتم طبع العدد.
ولم يكن بين الرافعي وشوقي من صلات الود ما يتيح له أن يعرف شيئا من حياته يعينه على دراسة أدبه، ولا كان الرافعي مستعدا لهذه الدراسة ، ولا تهيأت له من قبل أسبابها ودواعيها لينشئ موضوعه على الوجه الذي يرضاه في ذلك الوقت العاجل، وإن الرافعي لكثير الأناة والتأنق فيما يكتب، فلا يبدأ في إنشاء موضوعه حتى يخلي له فكره أياما وليالي، يبحث ويوازن، ويزاوج ويستنبط، ثم يتهيأ للكتابة وقد استوى الموضوع في فكره كأنما قرأه لساعته في كتاب، ولكن كل أولئك لم يمنع الرافعي أن يجيب محرر المقتطف إلى ما طلب ويرسل مقاله في الموعد المضروب، وكانت دراسة أعتقد أن أحدا من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله، فأنصف شوقي، وجلى عبقريته، وكشف عن أدبه وفنه ومذهبه، دع عنك بعض هنوات قليلة لا تغض من قيمة هذا البحث الفريد.
وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماه غلطات في النحو أو اللغة، أن شوقي أخطأ في رفع جواب الشرط من قوله:
إن رأتني تميل عني كأن لم
يك بيني وبينها أشياء!
وهي هناة صغيرة قد يجد لها بعض العلماء بقواعد العربية وجها من التعليل وبابا من العذر.
والعقاد أديب له شهرته العريقة في عداوة شوقي والزراية بأدبه وفمه، فما يعرف أدباء العربية أحدا كان أبلغ عداوة لشوقي أو أحد لسانا في نقده من العقاد!
ولكن العقاد لم يكد يفرغ من قراءة مقالة الرافعي في المقتطف، حتى تناول قلمه ليكتب كلمة يرد بها رأي الرافعي في نقد هذا البيت ويعتذر عن شوقي ... وكان للعقاد نصيب من التوفيق فيما كتب!
ليت شعري! أفعلها العقاد دفاعا عن شوقي وهو من هو في عداوته؟ أم تحديا للرافعي ...؟
أفلم يجد العقاد في بضع عشرة صفحة يكتبها الرافعي مباهيا بشوقي، مفاخرا بأدبه وفنه وعبقريته، شيئا يستحق الرد والتعليق غير هذه الكلمة؟ هذا سؤال سألته نفسي يومئذ، وأحسب أن كثيرا من القراء سألوه أنفسهم، ولكن جواب هذا السؤال معروف لكل من يذكر ما كان بين الرافعي والعقاد، ثم ما كان بين العقاد وشوقي منذ قريب!
وقال لي الرافعي: «ماذا ترى فيما كتب العقاد؟»
قلت: «أنا وهو على رأي واحد فيما يرد به !»
فمط شفتيه ساخرا وهو يقول: «أخطأت، وأخطأ العقاد، وأخطأ المتأخرون من علماء النحو في العربية ... ليس الرأي ما يقول العقاد وتوافقه عليه ...»
وتملكه عناده وكبرياؤه، فأنشأ مقالة طويلة مسهبة يرد بها رأي العقاد ويصر على تخطئة شوقي في رفع جواب الشرط من هذا البيت، ويتهم المتأخرين من علماء النحو بالغفلة وقلة البصر بأساليب العربية، ثم يفيض ويسترسل في بيان الأوجه التي يجوز رفع جواب الشرط فيها، وما يصيب منها وما يخطئ.
وإذا لم يكن لي في هذا المجال أن أصرح بالرأي فيما كتب الرافعي في هذا الموضوع، فإن لي أن أرد كل شيء إلى أسبابه فأزعم أن الرافعي لم يكتب ما كتب خالصا لوجه العربية، ولكنها الكبرياء والاعتداد بالنفس وخوف الهزيمة أمام العقاد في معركة أدبية ...!
ولست أكتم هنا أن الرافعي كان يسيء الظن بفهم العقاد لقواعد اللغة؟ فما يرى شيئا من مثل ما كتب في ذلك الموضوع مما يشير إلى بصره بقواعد العربية إلا اتهمه بأنه يستعين فيه بأصدقائه من أهل العلم بهذه اللغة، وأحسبه قال لي مرة: إن الذي يعين العقاد في ذلك هو صديقه الأستاذ عباس الجمل!
وانتهت هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعا بما كتب في الرد على العقاد، فبقي في نفسه شيء يحمسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلا ثم كانت المعركة الفاصلة ...
وحي الأربعين
وكانت هدنة استمرت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه «وحي الأربعين»، ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان، ثم كان عيد من الأعياد، فغدوت على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء، حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف، والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تخرج المطبعة العربية، فلم يكن ثمة بد من الحديث في الأدب، وفي الشعر وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي ويحلو لمخلوف، ولو استغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحى إلى العصر، والبطن خاو يطلب الطعام ، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!
وسأل الرافعي مضيفه: «ماذا عندك من الجديد في الكتب؟»
وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: «وحي الأربعين!»
ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد! ...
وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: «لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه، وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أول ما تقع على أردإ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه، وإن بيني وبين العقاد لسابق عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن، فهاكما الديوان فقلبا فيه النظر، وتداولا فيه الرأي، ثم دلاني على أجود ما فيه لنقرأه معا فنحكم له أو عليه مجتمعين، ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة ...!»
ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرؤه بيتا بيتا، والرافعي منصرف عنا إلى كتاب بين يديه ... ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه، فقال: أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا ... إذن فلنقرأ الديوان معا من فاتحته، فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره.
وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه، ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء، وكان الأستاذ مخلوف أكثرنا حماسة في النقد، ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكل رأي يبديه، ثم طوينا الديوان وأخذ مخلوف يتحدث في موضوعه ...
وقال الرافعي يخاطبه: «وما دمت على هذا الرأي في الديوان، فلماذا لا تنشره، إن لك لسانا وبيانا، وإنه لنقد يستحق أن يقرأه أدباء العربية ...!»
وتردد مخلوف قليلا ثم سمع مشورة الرافعي ... وتهيأ لكتابة نقده ...
ومضى أسبوع، ثم نشر «المقطم» في صدره مقالا مجودا للأستاذ مخلوف في نقد ديوان وحي الأربعين، تناوله بأدب وهدوء في بضعة عشر موضعا، وأرجأ بقية النقد إلى عدد تال ... ومضى يومان وكتب العقاد في صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد رده على مخلوف ...
لم يكن مخلوف حين كتب مقاله الأول للمقطم مقدرا أن العقاد سيتناوله بهذه القسوة، ولكنه فوجئ مفاجأة شديدة بما كتب العقاد ...
لم يرد العقاد رد الأديب على ناقده، ولكنه راح يتهكم عليه ويسخر منه ويستهزئ بعلمه وأدبه ومقدرته على فهم الشعر، وإذ كان مخلوف من مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، فإن العقاد قد انتهزها سانحة ليطعن على مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، ويلحد في كفايتهم وعلمهم، ويعود بالسبب في ضعف اللغة العربية في المدارس على مخلوف وزملاء مخلوف، ولم تسلم مدرسة دار العلوم التي تخرج فيها مخلوف، ولم يسلم واحد من مدرسي اللغة العربية، من تهكم العقاد وسخريته في هذا المقال؛ لأن واحدا منهم كتب ينقده ويحاول رده إلى الصواب فيما رآه أخطأ فيه ...!
وكتب مخلوف مقاله الثاني يرد مطاعن العقاد، ويتمم ما بدأ في نقد وحي الأربعين، ولكن المقطم أغلقت دونه الباب ولم تنشره؛ كرامة للعقاد وحرصا على مودته ...
وغضب مخلوف وتألم، ولكنه طوى صدره على ما فيه ... وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية نصلي الجمعة كل أسبوع في مسجد المنشاوي بطنطا، فلقينا هناك مخلوفا فما رآه المدرسون حتى انهالوا عليه وركبوه بالعتب القاسي، وكلهم قرأ مقال العقاد في الطعن على مدرسي اللغة العربية بسبب مخلوف، وقليل منهم من قرأ مقال مخلوف، وحاول مخلوف أن يعتذر، ولكن اعتذاره ضاع بين ضجيج إخوانه وحملتهم عليه فلم يستمع له أحد!
وقلت للرافعي مازحا ولقد لقيته بعد ذلك: «لقد كنت أنت السبب فيما نال مخلوفا من إخوانه، وفيما نال مدرسي اللغة العربية من لسان العقاد، فأنت الذي هجت مخلوفا إلى هذه المعركة، فانتهت إلى ما انتهت إليه بينه وبين إخوانه، وكانت سببا فيما كتب العقاد عن دار العلوم ومدرسي اللغة العربية ...»
وكان لمخلوف عند الرافعي منزلة، ولدار العلوم في نفسه مكان، ولكنه أجابني: «وماذا علي أنا فيما كتب مخلوف، وفيما رد العقاد؟»
قلت : «لولاك لم يكتب مخلوف فيتعرض لما تعرض له من لسان العقاد ومن عتب إخوانه، ولولا ما كتب مخلوف لبقيت دار العلوم بريئة من العيب لم يطعن فيها العقاد ولا غير العقاد!»
وقصدت فيما قلت - ومعذرة إلى الأستاذ العقاد - أن أهيج الرافعي للكتابة عن العقاد، فيشهد أدباء العربية معركة جديدة بين الأديبين الكبيرين يكون لهم من ورائها نفع ومتاع ولذة ... وبلغت ما قصدت إليه، ووعد الرافعي بأن يكتب ما في نفسه من ديوان وحي الأربعين، ولكن على شرط أن أشتري له نسخة على حسابي من الديوان؛ لأنه يأبى أن يدفع قرشا من جيبه في كتاب من كتب العقاد ...!
ونفذت الشرط، وتهيأ الرافعي للكتابة عن وحي الأربعين، ومضت أيام، ثم دعاني ليملي علي مقاله الأول في نقد الديوان ...
صدر «وحي الأربعين» في سنة 1933 والسياسة المصرية يومئذ تسير في طريق معوج، وحكومة صدقي باشا تمكن لنفسها بالحديد والنار، و«الوفد» ومن ورائه الأمة كلها يجاهد حكم الفرد ويكافح للخلاص، والعقاد يومئذ هو كاتب الوفد الأول، يكتب المقالة السياسية فترن رنينا ويلقفها آلاف القراء بلهفة وشوق في كل مدينة وكل قرية، فلا عجب أن يكون العقاد بذلك عند عامة القراء هو أبلغ من كتب، وأشعر من نظم، حتى ليئول أمره من بعد إلى أن ينحله الدكتور طه حسين لقب أمير الشعراء!
ولقد يكون العقاد يومئذ على حقيقته هو سيد الكتاب وأمير الشعراء أو لا يكون، ولكن هذه هي كانت منزلته عند الشعب يومئذ، فلا يعاديه أحد إلا كان عدو الأمة، ولا يعرض له أحد بالنقد في أي منشآته الأدبية والسياسية إلا كان في رأي الشعب «دسيسة» وطنية.
هذه هي كانت الحقيقة في تلك الحقبة من التاريخ التي امتزج فيها الأدب بالسياسة امتزاجا جعل طائفة كريمة من الأدباء يؤثرون الصمت واعتزال الأدب على أن ينزلوا بأنفسهم إلى معترك لا يعرفون أين تبلغ بهم عواقبه، ولكن الرافعي رجل كان لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، فهو لا يعتبر إلا مذهبه في الأدب وطريقته، وسواء عنده أكان رأيه هو رأي الجماعة أم لا يكون ما دام ماضيا على طريقته ونهجه، ولقد قدمت القول بأن الرافعي كان يتربص بالعقاد لينزل إليه في معركة حاسمة تنقع غلته وتبرئ ذات صدره، فما إن تهيأت له الأسباب بصدور «وحي الأربعين» حتى تحفز للعراك، وكان ما بين العقاد ومخلوف هو السبب المباشر الذي ألهب حمية الرافعي، فنزل إلى الميدان مستكملا أهبته مزودا بسلاحه، غير مكترث بما قد يناله من غضب الآلاف من القراء الذين يقدسون العقاد الكاتب تقديسا أعمى فلا يفرقون بين العقاد السياسي والعقاد الأديب ...! ... وأرسل الرافعي يستدعيني إليه ذات مساء، فرحت إليه بعد العشاء بقليل، فإذا هو جالس إلى مكتبه، وعلى مقربة منه «وحي الأربعين» وإن عليه عباءة حمراء في لون عرف الديك، وفي عينيه فتور وضعف ينبئ عن السهر والجهد العميق، فإنه ليبدو في مجلسه ذلك كأنه عائد لساعته من معركة حمراء ...!
قال: «لقد فرغت من قراءة الديوان منذ قليل، وإن لي فيه لرأيا، فهل تساهرني الليلة حتى أملي عليك ما أعددت في نقده؟»
كانت هذه أول مرة يملي الرافعي علي فيها من مقالاته، فكانت فرصة سعيدة لي، أشهد فيها الرافعي حين يلقى الوحي، وأصحبه في سبحاته الفكرية يقتنص شوارد الفكر وأوابد المعاني، وكانت فرصة سعيدة له أن وجد يدا غير يده تحمل له القلم حين يكتب لنفسه، ويخلو بفكره، وما تعود قبلها أن يكتب وفي مجلسه إنسان، وإن أثقل شيء عليه أن يكتب بيده، ولكن أثقل من ذلك عليه أن يعرف أن عينا تلاحظه وهو يكتب، فما زال يكتب لنفسه منذ بدأ، متبرما بهذه المهمة، ضيق الصدر بما يبذل في الكتابة من جهد، وإن خطه لأردأ خط قرأت في العربية ... حتى اصطفاني لهذا الواجب، فلزمته ثلاث سنين لا يهم بكتابة مقال إلا دعاني ليمليه علي، حتى انتقلت من طنطا فعاد إلى ما كان من عادته، يملي على نفسه ويكتب لنفسه، ولم يسترح إلى كاتب بعدي يشركه في جلوة الوحي وخلوة الكتابة! ••• ... وجلس فأملى علي مقاله من قصاصات في يده لا تزيد إحداها على قدر الكف، فما فرغ من الإملاء، حتى أذن الفجر، وحتى كانت لهذه القصاصات بضعا وعشرين صفحة كبيرة، تشغل بضعة عشر نهرا من جريدة البلاغ، وكانت ليلة تحملت فيها من الجهد والمشقة ما لم أتحمل في ليلة غيرها، فقمت منهوك القوة عيان، وقام الرافعي في مثل نشاط الشاب في عنفوانه، كأنما كان عليه عبء فرماه عن كتفيه ...
وكان بين البلاغ والعقاد خصام، وكان بينه وبين الرافعي مودة، فما كادت تصل إليه مقالة الرافعي في البريد المستعجل ظهر ذلك اليوم، حتى أعلن عنها وبشر القراء أن ينشرها في غد ... وشغلت من البلاغ ثلاث صفحات في يومين ... وكان نقدا مرا حاميا اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه.
أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية: إن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر وأقربها إلى المثال الصحيح، لولا هفوات قليلة يعفيه من تبعتها أنه إنسان!
من قرأ «على السفود» فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه فليقرأ مقال الرافعي في نقد «وحي الأربعين» ليرى الرأي المجرد في شعر العقاد عند الرافعي ...
ومضى يوم واحد، وظهرت صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد وفيها رد العقاد على الرافعي، وقد نفذ إليه من باب لم يحسب الرافعي حسابه، فتغير وجه الحق، ودارت المعركة حول محور جديد ...
كان عنوان مقالة العقاد «أصنام الأدب» فيما أذكر، وكان مدار القول فيها هو الطعن على رجلين، هما: إسماعيل مظهر، والمهذار الأصم مصطفى صادق الرافعي، وكان أكثرها سبابا وشتيمة وأقلها في الرد والدفاع، على أن العقاد لم يرد رأي الرافعي فيما أخذ عليه من مآخذ إلا في مواضع قليلة، وترك الرد في أكثر ما عاب عليه الرافعي، مستعيضا عن الرد بالشتم والسباب ...
وإذا كان السبب مفهوما في طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه، فأي سبب حمل العقاد على أن يشرك إسماعيل مظهر مع الرافعي فيما وجه إليه من الشتم والتهمة؟
جواب ذلك يفهمه من يذكر أن إسماعيل مظهر صاحب العصور، هو طابع كتاب «على السفود» وناشره ومروجه. أفنستطيع أن نحكم من هذا بأن العقاد لم يكن يعني الرد على مقال الرافعي الأخير وحده، ولكنه وجدها فرصة سانحة لتصفية الحساب القديم كله بينه وبين الرافعي وصاحبه الذي أغراه على كتابة «على السفود».
وكان الباب الذي نفذ منه العقاد في الطعن على الرافعي، هو اتهامه في وطنيته، وإيهامه قراءه بأن الرافعي لم يكن لينقده إلا لأنه هو العقاد السياسي الوفدي عدو الحكومة المتسلطة على الناس بالحديد والنار! وحسبك بها من تهمة حين يقولها العقاد!
إن للعقاد مفاجآت عجيبة في النقد، تمثل العقاد الكاتب المرن المحتال في أساليب السياسة، أكثر مما تمثله ناقدا محيطا يدفع الرأي بالرأي والبرهان بالبرهان!
وقرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوبا في الرد يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج، فما فرغت من قراءة المقال حتى تمثل لي الرافعي مربد الوجه من غيظ وغضب، مزبد الشدقين من حنق وانفعال، فسرني أن أسعى إليه قبل ميعادي؛ لأراه في غيظه وحنقه وانفعاله، فانتهزت ساعة فراغ في الظهر، فمضيت إليه في المحكمة، فما كاد يراني مقبلا عليه حتى هتف بي وهو يبتسم ابتسامة المسرور، ثم قال: «أقرأت مقال العقاد؟» قلت: «نعم.» قال: «فماذا رأيت فيه؟» قلت: «لقد كان شديدا مؤلما!» فضحك وقال: «والله، ما رأيت كاليوم! لقد ضحكت حتى وجعني قلبي من شدة الضحك ... إنه لم يكتب شيئا ولم يرد على شيء، إن سبابه وشتمه لن يجعلاه عند القراء شاعرا كما يشتهي أن يكون، وإن حسب أنه بذلك يكسب المعركة، وقد حق عليه ما قلت فيه، وإنه ليعترف إن فراره من الرد إلى السباب والشتيمة ليس إلا اعترافا بالعجز ...»
قلت: «إذن فأنت لا تنوي الرد؟»
قال: «وأي شيء تراه يستحق الرد فيما كتب؟»
قلت: «ولكن القراء لن يفهموا سكوتك على وجهه، ولن يسموه إلا انسحابا من المعركة ...! أفترضى أن يقال عنك ...؟»
وبدا على الرافعي كأنه اقتنع، وهاجته كلماتي مرة أخرى إلى النضال، ومعذرة ثانية إلى العقاد!
إن معركة تدور رحاها بين العقاد والرافعي جديرة بأن يحتفل لها الأدباء، وأن تنال من اهتمامهم أوفى نصيب، وإن لهم فيها لمتاعا ولذة وفائدة، وما كان لي أن أقنع وقد هجت هذه المعركة بما فيها من متاع ولذة وفائدة بأن تنتهي من أول شوط!
وقال لي الرافعي: «هل توافيني الليلة لأملي عليك؟»
فواعدته، وذهبت إليه في المساء فأملى علي فصلا من نسخته الخاصة لكليلة ودمنة بعنوان «الثور والجزار والسكين!» ثم أتمه مقالا في الرد على العقاد، وكان فصلا قاسيا عنيفا، ليس من مذهب المقال الأول ولا نهجه؛ إذ لم يكن المقصود به النقد وحسب، بل الرد والسخرية والإيلام، ثم قطع السبيل وتدعيم الدليل وتقرير المعنى فيما قدم من مواضع النقد.
ثم رد العقاد ليعلن انسحابه من المعركة شاكرا اللذين أيدوه، معتذرا من عدم الاستمرار في مناقشة دعوى الرافعي! واستمر الرافعي يكتب حتى فرغ.
وكان النصر للرافعي عند طائفة، ولكن خسر عطف الآلاف من أصدقاء العقاد الكاتب الوطني الكبير؛ إذ لم يروا عداوة الرافعي له في الأدب إلا دسيسة سياسية من خصوم العقاد! •••
وانتهت المعركة الأخيرة بين الرافعي والعقاد، ولكن الرافعي لم يقتنع بما نال من النصر عند الصفوة من القراء الذين يفرقون بين الأدب والسياسة؛ إذ كان على يقين أنه وإن كانت له الغلبة، قد خسر أكثر الطائفتين من قرائه؛ لأنهم على مذهب العقاد السياسي، فظل مغيظا محنقا إلى حين ...
ومضت سنتان، وتقلبت السياسة المصرية من تقلباتها، فإذا العقاد الذي كان كاتب الوفد الأول خارج على الوفد، يطعن عليه وعلى رئيسه، وأنصار الوفد ما يزالون إلى يومئذ أكثر الأمة ... ووجد الرافعي الفرصة سانحة لينتقم، وليستخدم السياسية في النيل من خصمه في الأدب فيكيل له صاعا بصاع ويحاربه بمثل سلاحه، فكتب مقالا بغير توقيع في كوكب الشرق، جريدة الوفد، بعنوان «أحمق الدولة»، وكان مقالا له رنين وصدى ...
ونشر في «الرسالة» يومئذ كلمات تحت عنوان «كلمة وكليمة» عرض فيها بالعقاد الخارج على الوفد تعريضا أليما يؤذيه، لم يتنبه له إلا القليل.
وكان مقاله عن العقاد في كوكب الشرق، وكليماته في الرسالة، سببا في أن يدعوه الأستاذ توفيق دياب ليحرر في «الجهاد» بأجر كبير، ولكن لم يتم بينهما اتفاق.
ولم تكن تسنح للرافعي سانحة لغيظ العقاد إلا انتهزها، فما كتب الرافعي عن شاعر من الشعراء بعد ذلك إلا جعل نصف كلامه تعريضا بشعر العقاد، ومن ذلك ما كتب عن الشاعر المهندس علي محمود طه في المقطم، وما نشره عن الشاعر محمود أبو الوفا في الرسالة، ومقالته «بعد شوقي» معروفة مشهورة، وكلها تعريض بشعر العقاد الذي نحله الدكتور طه حسين إمارة الشعر في يوم من الأيام بعد شوقي! •••
والعداوة بين الرافعي والعقاد من العداوات المشهورة بين أدباء الجيل، ولها أثر أي أثر فيما أنتج كل من الأديبين الكبيرين في أدب الوصف، ولا تداني هذه العداوة في الشهرة إلا العدواة بين الرافعي وطه حسين.
وأحسب أنه كان في الإمكان أن يجتمع العقاد والرافعي في تحرير الرسالة لولا ما كان بينهما من خلاف وعداوة، قال لي الأستاذ الزيات صاحب الرسالة مرة قبيل موت الرافعي: «وددت لو يكتب العقاد في الرسالة، ولكنما يمنعني من دعوته إلى ذلك أنني لا أستطيع أن أنشر له وللرافعي في عدد واحد!»
قلت: «فماذا يمنع؟»
قال: «أنت تعرف أخلاق الرافعي، وأنا أعرف أخلاق العقاد، وإن لكل منهما اعتدادا بنفسه بإزاء صاحبه، فأي المقالين أقدم وأيهما أؤخر في ترتيب النشر؟ إن تقديم مقال على مقال ليس شيئا ذا بال، ولكنه مع الرافعي والعقاد له شأن أي شأن!»
وظل صاحب الرسالة معنيا بهذا الأمر، حريصا على أن يجمع بين الأديبين الكبيرين في مجلته، وهو يلتمس السبيل إلى ذلك فلا يوفق، حتى مات الرافعي فانحلت المشكلة، ودخل العقاد، ولكن بعدما خرج الرافعي!
رحم الله الراحل، ونفع بالباقي!
فترة جمام
نفض الرافعي يديه من المعركة بينه وبين العقاد، ثم فاء إلى نفسه، وعاد إلى دار كتبه يطالع ويقرأ ويتزود ... واختفى اسمه من الصحف والمجلات أشهرا، كان في أثنائها يتهيأ لإتمام كتابه «أسرار الإعجاز»، ويعمل في الوقت نفسه على جمع ما نشر من المقالات في الفترة السابقة وترتيبها، ليخرجها كتابا يسميه «قول معروف ...»
على أن عنايته بشأن هذين الكتابين: أسرار الإعجاز، وقول معروف، لم تمنعه أن يكون له في كل يوم ساعات محدودة للقراءة والاطلاع، وكانت هذه الساعات المحدودة في أكثر لياليه تمتد من المغرب إلى منتصف الليل، وأستطيع أن أقول: إن هذه الفترة على ما كان يبذل فيها من جهد، كانت فترة جمام وراحة لم ينعم بمثلها فيما بقي من حياته، وكنت بصحبته يومئذ قريب العهد، ولكني كنت ألصق أصحابه به، فكان لي معه كل يوم ساعات، يقرأ لي وأستمع إليه في داره، أو أماشيه في الخلاء، أو أجالسه في القهوة، أو أصحبه إلى السيما، وكان علي في هذه الفترة وفيما بعدها من الزمن، أن أقرأ ما يهدى إليه من الكتب؛ لأشير له إلى المواضع التي يجدي عليه أن يقرأها؛ ضنا بوقته على قراءة ما لا يفيد، وكثيرا ما كان يدفع إلي بعض ما يرد إليه من الرسائل؛ لأرى رأيي فيه وأشير عليه بالجواب، أو أتولى ذلك بنفسي، وكانت هذه الفترة ذات أثر كبير في تكويني وتوجيهي في الأدب توجيها لم أكن أقصد إليه، كما تأثر هو بصحبتي في هذه الفترة تأثرا وجهه في الأدب والإنشاء توجيها لم يكن يعرف به منذ نشأ في الأدب قبل ذلك بثلاثين سنة، فبدا أسلوبه أكثر استواء عند عامة القراء، وكان قبلها يتهم بالغموض والتعقيد، كما عالج القصة فنجح فيها إلى حد بعيد؛ إذ كانت القصة - وما تزال - أحب ألوان الأدب إلي، على حين كان الرافعي لا يؤمن بفائدة القصة ولا يعترف بخطرها بين أبواب الأدب الحديث، فما هو إلا أن حملته على محاولتها فأنشأ قصته الأولى، ثم كأنما اكتشف نفسه من بعد فصار ما ينشئ من القصص هو أحب منشآته إليه، وخطا بها إلى نفوس القراء خطوات ...
ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أنني كنت أنشئ القصص لمجلة الرسالة، لا أكاد أعنى بشيء غيرها من موضوعات الأدب، وكان حسن وقعها عند القراء يدفعني إلى الإجادة والاستمرار، ولكن قارئا واحدا كان يعيب علي ما أكتب، ولا يرضى مني أن تكون القصة هي كل ما أعالج من فنون الأدب؛ ذلك هو الرافعي، وكثيرا ما كان يقول لي: «يا بني، إن لك بيانا وفكرا ومعرفة، فلماذا لا تحاول أن تكون أديبا؟ إنه لا يليق بك أن تكون القصص هي كل ما تحاوله من ضروب الإنشاء، وإن فيك استعدادا لأكثر من ذاك ...!» وما زال يلح علي ويكرر هذه الملامة، حتى وقع في نفسي أنني أسيء إلى نفسي بمحاولتي أن أكون قصصيا، فانصرفت عن القصة وكانت أحب إلي، إلى فنون أخرى من الأدب، إلا ما أنشئ من «القصص المدرسية» التي أؤلفها لتلاميذي على أنها وسيلة من وسائل التربية لا باب من الأدب، ثم لم يمض بعد ذلك إلا قليل، حتى كانت القصة هي أكثر ما يعالج الرافعي من أدب الإنشاء، وكان له فيها فواق وسبق، وحلت القصة محلها من تقديره بين أبواب الأدب ...!
وإذ كان في أذني الرافعي ذلك الوقر الذي يقطعه عن دنيا الناس، فإن أسلوبه في الكتابة كان بعيدا عن فهم الكثير من ناشئة القراء، فلما اصطفاني بالود، أخذت على نفسي أن أكون أذنه التي يسمع بها ما يقال عنه وما يرى القراء في أسلوبه، فكنت إذا جلست إليه ليملي علي، حاورته فيما يدق على الأفهام من أسلوبه، وما تنبو عنه أسماع القراء، ثم لا أزال به حتى يغير العبارة فيجعلها أدنى إلى الفهم وأخف على السمع، وكان ينكر ذلك علي أول أمره، بما فيه من اعتداد بنفسه وكبرياء، وكان أحيانا يوشك أن يغضب، وأنا أتلطف له وأحتال عليه، ثم لم يلبث أن رضي ذلك مني، فكان يملي علي العبارة من المقال، ثم يسألني: «ماذا فهمت مما كتبت؟» فإذا كان ما فهمت يطابق ما في نفسه، مضى في إملائه، وإلا عاد إلى ما أملاه بالتغيير والتبديل حتى يتضح المعنى ويبين المراد، وبلغ في النهاية أن يسميني - على المزاح - العقل المتوسط من القراء ...! •••
لم ينشر للرافعي في هذه الفترة شيء ذو بال، إلا أحاديث كان يمليها على بعض المرتزقة من كتاب الصحف الأسبوعية، وكان له بطانة من هؤلاء الكتاب يعطف عليهم ويعينهم على العيش، فكانوا يفدون إليه في المحكمة ليسألوه حديثا فيملي عليهم جوابه، ثم يذهبون لينشروه حيث يشاءون ويقبضوا أجره.
في هذه الفترة، وكل إليه الأديب حسام الدين القدسي الوراق تصحيح كتاب «ديوان المعاني» لأبي هلال العسكري، وكان قد وقع منه على نسخة خطية فطبعها بأغلاطها وتصحيفها، ثم بدا له قبل أن يتم طبع الديوان أن يلجأ إلى الرافعي ليصحح له أغلاطه ويتم نقصه، على أن ينشره في الجزء الأخير من الكتاب.
وقبل الرافعي هذا التكليف على قلة أجره؛ ليقرأ الكتاب قبل أن يقرأه الناس، وليستمتع بلذة المعاناة في تصحيحه وتصويب خطئه، وإنها لرياضة عقلية ممتعة، لا يستشعرها ولا يقوى عليها إلا القليل من الأدباء، ومضى في هذا العمل شهرا أو يزيد، وكنت معه فيه، ثم انتكثت المعاهدة التي كانت بينه وبين القدسي، فترك له كتابه بعد أن أصلح منه جزءا غير قليل، وقد استطعت في تلك الفترة التي صحبت فيها الرافعي وهو يحاول تصحيح الكتاب، أن أعرف مقدار اطلاعه وسعة علمه وقوة بصره بأساليب العربية، وقد رأيت منه في هذا الباب أشياء عجيبة، من قوة الحافظة، وسرعة الاهتداء إلى مراجع البحث، ومهارة الاستدلال على مواضع النقص، حتى لكأنني بإزاء مكتبة دقيقة الترتيب منظمة التوبيب ما شئت من بحث هدتك إليه قبل أن تبحث عنه، على أنه كان أحيانا يعرف موضع النقص من الكتاب ثم لا يهديه البحث إلى تتمة، فيضع فكره موضع فكر المؤلف ليستقيم المعنى ويتساوق الكلام، وأكثر ما كان يقع ذلك في الشعر المشطور، وقد حدث مرة أن ظل الرافعي يبحث يوما كاملا عن تمام بيت من الشعر في مظانه من كتب العربية، فلما أعياه البحث جعل تمامه من نظمه ثم مضى إلى تصحيح ما بعده من الكتاب، وفجأة ترك ما هو فيه وقال: «اسمع! ناولني ذلك الكتاب!» فمددت يدي إلى موضعه من المكتبة فناولته إياه، فأخذ يتصفحه قليلا ثم قال: «لقد وجدته ... هذا هو البيت الذي كنت أبحث عنه وتمامه. عد إلى ما كتبت من قبل لتصححه!» وعدت إلى ما كتبت، ورجعت النظر في الكتاب الذي بين يدي، فإذا تمام البيت فيما كتبت وفي الكتاب سواء، لا يختلفان إلا في حرف الجر ... أكان فضل هذا إلى ذاكرة الرافعي، أم إلى قوة بصره بالشعر وبأساليب البيان ...؟ •••
ولم يكتب الرافعي في هذه الفترة إلا بضع مقالات، وكان لكل مقال حافزه ودواعيه: (1)
كان السيد حسن القاياتي يكتب في جريدة «كوكب الشرق» كليمات في موضوعات شتى من وحي الساعة وخواطر الحياة، فبدا له يوما أن يكتب في الموازنة بين قوله تعالى:
ولكم في القصاص حياة
وقول العرب: «القتل أنفى للقتل!» فانزلق إلى رأي ... وكان محرر الكوكب في ذلك الوقت هو الدكتور طه حسين، وهو من هو عند الرافعي في دينه وفي أدبه وفي إيمانه بقدس القرآن ... ولم يكن الرافعي يواظب يومئذ على قراءة كوكب الشرق.
وجاء البريد ذات صباح إلى الرافعي برسالة من صديقه الأستاذ محمود محمد شاكر يلفت نظره إلى ما كتب الأستاذ القاياتي وإلى ضلاله في تفضيل الكلمة الجاهلية على آية القرآن، ودفع إلي الرافعي برسالة شاكر وهو يقول: «أتصدق هذا؟ أيجرؤ أحد أن يقولها، أم هي مبالغة وتهويل من محمود، أم هو لم يفهم ما كتب الكاتب المسلم وحمل كلامه على غير ما يريد؟»
ثم بعث في طلب الجريدة التي نشرت هذه الضلالة فجيء بها، فما كاد يقرؤها حتى اربد وجهه وبدا عليه الغيظ والانفعال، ودار لسانه بين شدقيه بكلام، ثم لم يلبث أن نهض مغضبا إلى الدار قبل موعده، فانقطع عني يومين ثم أرسل يستدعيني إليه، فأملى علي مقالة طويلة بعنوان: «كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة!»
وكانت مقالة من عيون مقالات الرافعي، نشرتها البلاغ في صفحتها الأدبية، وقد أورد فيها بضعة عشر رأيا في بيان إعجاز الآية ومبلغها من البلاغة بإزاء الكلمة الجاهلية، وقد جعلها من بعد فصلا من شواهد كتابه «أسرار الإعجاز» الذي لم يطبع بعد ...
15
وقرأ القاياتي مقال الرافعي في الرد عليه، وأحسبه قد اقتنع بما قرأ واعترف على نفسه في خلوته، ولكنه لاذ بالصمت، وكانت كرامته الأدبية أعز عليه من كرامة القرآن، فلا هو رد عليه ولا هو اعترف علانية بما كان من خطئه فيما انزلق إليه ...!
وفتح مقال الرافعي أبوابا من القول لطائفة من الأدباء؛ إذ كان فيما رد به الرافعي أن كلمة «القتل أنفى للقتل» ليست جاهلية كما يعرف أكثر قراء العربية، ولكنها نشأت في العصر العباسي لمثل ما استعملها له القاياتي في معارضة القرآن، وأسندها مخترعها إلى حكيم الجاهلية أكثم بن صيفي ليتم له قصده، وجازت دعواه على كثير من قراء العربية حتى كشف الرافعي عن زيفها بعد ألف سنة!
كان تاريخ هذه الكلمة ميدانا للقول والمعارضة أياما بين الرافعي وبعض الأدباء، وكان أول من عرض لمناقشة رأي الرافعي هو أخونا الأستاذ عبد العزيز الأزهري، ولكنه لم يلبث أن شعر بالإعياء من أول شوط، فكتب إلى الرافعي رسالة خاصة في البريد يستعفيه ويعتذر إليه بأنه مشغول البال بالاستعداد للزواج ...!
ثم تداول الرأي غيره، فكتب الأستاذ الكبير «أزهري المنصورة»
16
يرى في تاريخ الكلمة رأيا غير ما يرى الرافعي، وكتب شيخ أدباء العروبة الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي، وطال الشد والجذب حول تاريخ هذه الكلمة فترة من الزمان.
17 (2)
وفي هذه الفترة تم إنشاء «المجمع اللغوي» وكان الرافعي يمني نفسه بأن يكون من أعضائه، فحال بينه وبين ما يتمنى أنه لا يسمع، وإن لم يكن يمنعه ذلك أن يكون عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، واختير له هو والمرحوم حافظ بك إبراهيم قبل ذلك بسنوات، فلم يشهد جلسة من جلساته، ولم يشترك في قرار قرره، ولم يبعث إليه برسالة واحدة في موضوع من موضوعات العلم العربي.
وساء رأي الرافعي في المجمع اللغوي من يوم إنشائه، ولم يمنعه من الحملة عليه أنه كان موعودا بأن يختار فيه عضوا مراسلا كما أنبأه صديقه فارس نمر باشا عضو المجمع.
وافتتح المجمع، وكان أول محرراته الأدبية برقية بالشكر إلى المرحوم الملك فؤاد، ولقيت الرافعي ذات مساء، فإذا هو يرفع إلي جريدة البلاغ قائلا: «اقرأ، هذا أديب صغير يهاجم المجمع اللغوي في يوم إنشائه، ويزعم أنه لم يستطع أن يكتب برقية بريئة من الخطأ ليشكر بها منشئه ...!»
وقرأت، فإذا نقد عنيف، وتهكم مر، وسخرية لاذعة ... كانت كلمة صغيرة، ولكنها ذات شأن، وقد اختار كاتبها أن يكون توقيعه «أديب صغير» مبالغة في السخرية والتهكم، وأخذ الكاتب على المجمع بضع غلطات لا يتنبه لمثلها إلا أديب دارس له في العربية مكان.
وقال الرافعي: «ماذا رأيت؟» قلت: «نقد مر لا يبلغ به هذا المبلغ على إيجازه إلا أديب كبير!» قال: «فمن تظنه؟» وكان سؤاله مشعرا بجوابه، ولكنني كذبت نفسي ... أيكون هو؟ وما يحمله على أن يخفي عني؟ لقد كان معي أمس، وأمس الأول، فلم يحدثني بشيء في ذلك؟
وقلت للرافعي: «أوتعرف كاتبه؟» قال: «حاول أن تفكر، لقد حاولت فلم أوفق.» وكان حسبي هذه الكلمة ليزول كل شك في نفسي، فما كذب علي الرافعي قبلها قط ...! ولم أعرف إلا بعد أيام أنه هو ...
ورد المرحوم الشيخ حسين والي عضو المجمع، وعاد الرافعي يرد ويتهكم ويسخر، ويتحدى المجمع اللغوي كله أن يرشده إلى الأطوار الاجتماعية التي مرت بها كلمة «حظي» حتى ساغ للمجمع من بعد أن يستعملها بمعنى «ظفر» في برقية الشكر إلى جلالة الملك ... وسكت المجمع، وسكت الشيخ حسين والي، وظل الرافعي «الأديب الصغير» يكتب حتى جاءه الرجاء أن يسكت فسكت!
مقالات «الأديب الصغير» في نقد المجمع اللغوي، هي آخر ما كتب الرافعي في النقد على أسلوبه وطريقته.
18 (3)
ومما كتبه الرافعي في تلك الفترة بحث طويل في البلاغة النبوية أنشأه إجابة لدعوة جمعية الهدايا الإسلامية بالعراق، لتنشره في ذكرى المولد النبوي، وقد لقي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا أحسب غيره يقوى عليه، وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا الفصل حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يوما، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ فيه صحيح البخاري قراءة تلاوة، فكيف به دارسا متمهلا يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ذلك ليس عجيبا من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يوجعه قلبه! وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إلي لأكتبه بخطي ولم يمله علي، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى.
هذا الفصل يملأ نحو أربعين صفحة من مثل هذا الكتاب، ويصلح أن يكون خاتمة لكتاب إعجاز القرآن - لو قدر لإعجاز القرآن أن يطبع طبعة جديدة - فإنه أشبه بموضوعه وفيه تمامه.
19 (4)
وما فرغ الرافعي من كتابة هذا الفصل، حتى أحس بحاجته إلى الراحة بعد ما بذل من جهد، فأغلق دار كتبه وخرج إلى الشارع يشم الهواء، ثم لم يكد يأتي المساء حتى جاءه البريد برسالة من جمعية الكشاف المسلم بالشام، تطلب إليه أن يعد لها موضوعا تنشره في صحيفتها لمناسبة المولد النبوي كذلك ...!
وضاقت أخلاق الرافعي، فهم أن يلقي الرسالة ليفرغ لنفسه بضعة أيام للاستجمام، ثم تحرج، فعادت إليه ابتسامته وهو يقول: «سأفعلها قربى إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولو رمى بي هذا الجهد المتواصل إلى تهلكة!» وعاد إلى مكتبه وهو متعب مكدود ... ثم أملى علي مقاله «حقيقة المسلم» الذي أعاد نشره في الرسالة بعد ذلك وجمعه إلى وحي القلم.
وله في هذه الفترة بضع مقالات أخرى نشرها في مجلة المقتطف، ثم دعته الرسالة ليكتب فصلا عن الهجرة في العدد الممتاز الأول لسنة 1353ه، فكان ذلك أول عهده بالكتابة فيها، ثم اتصل بها حبله. (5)
بعدما أنشأ الرافعي مقالة «وحي الهجرة في نفسي»، أهدى إليه الشاعر المهندس علي محمود طه ديوانه «الملاح التائه» وأحسبه طلب إليه أن يكتب عنه، وكان بين الرافعي والشاعر المهندس صلة قديمة من الود، أظنها نشأت في مكتب الأستاذ صروف محرر المقتطف، حيث كان الرافعي يقضي أكثر أوقات فراغه كلما هبط إلى القاهرة لعمل من أعماله، وهناك يلتقي الرافعي، وصروف، وإسماعيل مظهر، ومحمود شاكر، والمعلوف؛ وغيرهم من أدباء العربية، فيحتدم الجدل ساعات في موضوعات شتى من الأدب، ولم يكن للرافعي ندوة أدبية يقصد إليها كلما جاء القاهرة منذ هجر فلانة، أحب إليه من دار المقتطف، ثم صار له ندوة ثانية، من بعد حين اتصل سببه بالرسالة، فكان يقضي وقته بين عيادة الدكتور شخاشيري في فم الخليج، وعبد القادر حمزة والمازني في البلاغ، وإخوان صروف في المقتطف، والزيات في دار الرسالة، ولم يلتق إلا مرة أو مرتين بالأستاذ أحمد أمين والدكتور عزام في «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، عندما كانت اللجنة قائمة على طبع كتابه «وحي القلم».
قلت: إنه كانت بين الرافعي والشاعر علي محمود طه صلة من الود، ومنها أن الشاعر المهندس وضع له رسما (تصميما) للبيت الذي كان في نيته أن يبنيه لينتقل إليه وينقل دار كتبه قبل أن يموت، ولهذا البيت قصة لم تتم؛ لأن هذا البيت لم يتم ... فقد كان كل ما ادخره الرافعي من جهاده بضعا وثلاثين سنة، بضع مئات من الجنيهات، اشترى بنصفها قراريط لينشئ فيها حديقة وبيتا يسكنه - إذ كان وما زال إلى أن مات يسكن بيت أبيه - وبقي معه بعد ذلك قدر من المال لا يكفي نفقات البناء والإنشاء، فآثر أن ينتظر حتى يجتمع إليه شيء، وأسلف صهره ما بقي عنده من المال إلى أجل، وفي النفس أمل، ثم جاءت الأزمة فأكلت ثروة صهره جميعا لم تبق منها على شيء، وضاعت ذخيرة الرافعي فيما ضاع ولم يستطع المدين وفاء الدين، فلم يبق للرافعي من جهاده وما ادخر إلا الأرض الخربة، والأمل في عطف الله، وخطوط تبين حدود البيت وحجراته وأبهاءه وحديقته، مرسومة على ورقة زرقاء ...! ... وجاءه ديوان الشاعر علي محمود طه، وديوان الماحي، فدفعهما إلي؛ لأختار له ما يقرأ من كليهما، ولم أكن أعرف يومئذ ما بينه وبين الشاعر المهندس، ولكن رأيي في ديوانه وافق هواه، فما فرغت من قراءته حتى دفعته إليه وعلى هامشه إشارات بالقلم ، وما دفعته إليه حتى تهيأ للكتابة عنه ...
وأنشأ مقالة مسهبة نشرها في المقطم، تحدث فيها عن الشعر حديثا يبين مذهبه وطريقته في فهم الشعر وفي إنشائه، ثم انثنى إلى الشاعر المهندس يمدح ويثني، وينتقد وينصح ... وكان مؤمنا بما كتب، ولكن إيحاءات من الواعية الباطنة
20
كانت تملي عليه بعض الحديث في التعريض ببعض الشعراء المعاصرين ...
وتناول المازني ديوان «الملاح التائه» في البلاغ بعدما تناوله الرافعي، فعاب عليه أشياء كان الرافعي يمتدحها، وأخذ على الشاعر أنه كثير العناية باللفظ والعبارة والأسلوب، فكانت مقالة المازني حافزة للرافعي على أن ينشئ مقالة للرسالة في الرد عليه، جعل عنوانها «الصحافة لا تجني على الأدب، ولكن على فنيته»، فبهذه المقالة كان الرافعي يقصد المازني؛ دفاعا عن صديقه الشاعر، أو دفاعا عن مذهبه في الشعر، وكانت هذه أولى مقالات الرافعي في الرسالة بعد فترة من مقالة «وحي الهجرة»، وقد أنشأها على نهجه القديم، وحاول فيها فنا من التهكم في قصة اخترعها عن الأصمعي الراوية. •••
كان الرافعي مفتونا بمقالاته الثلاث التي أنشأها في هذه الفترة: البلاغة النبوية، وحقيقة المسلم، ووحي الهجرة، وكان حسن وقعها عند كثير من القراء حافزا له على الاستمرار في هذا الباب من الأدب الديني، فعقد النية على أن يكتب السيرة النبوية كلها على هذا النسق الفلسفي؛ ليجعلها كتابا بعنوانه، يتناول سيرة النبي المعظم
صلى الله عليه وسلم
على طريقة من التحليل والفلسفة، لا على نسق من الرواية، فأنشأ بعد ذلك مقالاته: «سمو الفقر»، و«الإنسانية العليا»، ثم بان له من بعد أن هذا الفن من الإنشاء عسر الهضم عند كثير من القراء، فتركه إلى موضوعات أخرى يعالج بها بعض مشاكل الاجتماع في الحياة المصرية، على أن يكتب ما يتيسر له من المقالات النبوية نجوما في فترات متباعدة حتى لا يمل قراءه أو يثقل عليهم، وسأتحدث من بعد عن كل مقال من المقالات التي أنشأها «للرسالة» في الفترة التي صحبته فيها، لعل ذلك يعين على فهم أدب الرجل ودوافعه ومعانيه، ولعله يبلغ بي الوسيلة إلى الذين لا يفهمون أدب الرافعي، ثم يحاولون أن يتحدثوا عن أدب الطبع وأدب الذهن، أو الأدب الفني والأدب النفسي ...
21
ولكن علي قبل أن أبدأ هذا الحديث، أن أصف الرافعي حين يهم بموضوعه، ثم حين يفكر فيه، ثم حين يتهيأ لكتابته، ثم حين يمليه علي من القصاصات المبعثرة على مكتبه، فإن ذلك من الموضوع فاتحته وأوله.
كيف كان يكتب؟
اختيار الموضوع، كان أول عمل يحتفل له الرافعي، وإذ كان لم يعمل في الصحافة قبل اشتغاله بالرسالة، فإنه لم يتعود من قبل أن يفتش عن الموضوع؛ إذ لم يكن يحاول الكتابة إلا أن يدفعه إلى الكتابة دافع يجده في نفسه قبل أن يطلبه، فلما دعاه صاحب الرسالة إلى العمل معه، راح يلتمس الموضوعات التي تصلح أن يكتب فيها للرسالة، فكان يضيق بذلك ويتحير، ثم لم يلبث أن تعودها، فكان يرسل عينه وراء كل منظر، ويمد أذنه وراء كل حديث، ويرسل فكره وراء كل حادثة، ويلقي باله إلى كل محاورة، ثم يختار موضوعه مما يرى ويسمع ويشاهد ويحس، ثم لا يهم أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره، إلا أن يجد له صدى في نفسه، وحديثا في فكره، وانفعالا في باطنه، وكثيرا ما كان يعرض له أكثر من موضوع، وكثيرا ما كان يتأبى عليه القول فلا يجد موضوعه إلا في اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!
فمن خشية مثل ذلك كان دائما في جيبه ورقات يكتب في إحداها عنوان كل ما يخطر له من موضوعات الأدب؛ ليعود إليها عند الحاجة، ويتخذ الورقات الباقية مذكرة يقيد فيها الخواطر التي تتفق له في أي من هذه الموضوعات أين يكون، وبلغ بذلك أن يجتمع عنده في النهاية ثبت حافل بعناوين مقالات لم يكتبها ولم يفرغ لها، وورقات أخرى حاشدة بخواطر ومعان شتى في أكثر من موضوع واحد، لا تربط بينها رابطة في المعنى ولا في الموضوع، ومن هذه الورقات، ومن فضلات المعاني في المقالات التي كتبها وفرغ منها، كان يختار «كلمة وكليمة » التي كان ينشرها على قراء الرسالة في فترات متباعدة كلما وجد حاجة إلى الراحة من عناء الكتابة، فهذه الكلمات هي إحدى ثلاث: خواطر مبعثرة كان يلقاها في غير وقتها، أو عناوين موضوعات لم تتهيأ له الفرصة لكتابتها، أو فتات من مقالات كتبها وفرغ منها وبقيت عنده هذه المعاني بعد تمام الكتابة؛ إذ لم يجد لها موضعا مما كتب.
وبسبب أنه كان يقيد عناوين الموضوعات التي كان يختارها ليكتبها في وقتها، كان يعد قراءه أحيانا بموضوعات ثم لا يكتبها ولا يفي بما وعد؛ لأنه لا يملك منها إلا عنوانا في ورقة بيضاء.
ومن ذلك مقالة «الفيلسوف الزبال» التي وعد أن يكتبها حين أنشأ قصة «بنت الباشا»،
1
ثم مضت ثلاثة أعوام ووفاه الأجل وما تزال مقالة الزبال عنوانا في رأس ورقة تحته نثار من الخواطر والمعاني التي كان يدخرها إلى يومها المؤمل!
ولقد وجدت على مكتبه في طنطا غداة نعيه كثيرا من هذه الورقات، تشير إلى كثير من أمل الأحياء، وإلى كثير من خداع الحياة ...! •••
فإذا تم له اختيار الموضوع الذي يتهيأ لكتابته، تركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره لا تكاد تفلت منه خاطرة، وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في كل موجود يراه صوتا يسمعه، وكأن في كل ما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة.
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف - والقدر الكافي لتجتمع له هذه الخواطر هو يومان أو ثلاثة - أخذ في ترتيبها معنى إلى معنى، وجملة إلى جملة، ورأيا إلى رأي، فهذه الخطوط الأولى من هيكل المقالة.
ثم يعود بعد ذلك إلى هذه الخواطر المرتبة - بعد أن ينفي عنها من الفضول ما يدخره ل «كلمة وكليمة» أو لموضوع آخر - فينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد ، ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، ويتفطر له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها.
إلى هنا يكون قد انتهى عمل الذهن، وعمل النفس، ويبقى عمل الفن والصناعة لتخرج مقالة الرافعي إلى القراء في قالبها الأخير الذي يطالع به الأدباء. •••
لم تكن الكتابة عند الرافعي فكرة ومعنى وعاطفة فحسب، بل كانت إلى ذلك فنا وأسلوبا وصناعة، والأدب العربي منذ كان إلى أن يطوى تاريخه بين دفتين هو فكر وبيان، ما بد من اجتماع هاتين المزيتين فيه ليكون أدبا يستحق الخلود، ذلك كان رأي الرافعي ومذهبه؛ فمن ذلك لم يكن يعتبر المقالة وقد انتظمت في خاطره معنى وفكرة، مقالة تستحق أن تكتب وتنشر إلا أن يهيئ لها الثوب الأنيق الذي تظهر به لقرائها، وهذه هي المرحلة الأخيرة.
وأول ما يعنيه في ذلك هو بدء الموضوع وخاتمته، لست أعني العبارة التي يبدأ بها والتي يختم، ولكني أعني طريقة البدء والختام في الموضوع، شأنه في ذلك شأن القاص، تجتمع له أسباب القصة بمقدمتها وحوادثها وما آلت إليه مرتبة ترتيب الحادثة بما بدأت وما انتهت، حتى إذا أراد أن يحكيها لمن يسمع أو يكتبها لمن يقرأ، قدم وأخر، وأظهر وأخفى، وبدأ القصة بما لم تبدأ ليعقد «العقدة» ويرصد للحل والنفس مستشرقة إليه متطلعة إلى خاتمته ... وكذلك كان الرافعي يفعل في مقالاته. ... فإذا عقد العقدة ورتب موضوعه ترتيب الفصول في الرواية، آن أوان الأداء فأخذ له أهبته، فيطوي وريقاته ساعة ليرجع إلى كتاب، أي كتاب، من كتب العربية يقرأ منه صفحات كما تتفق لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتا ما قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان، وخير ما يقرأ في هذا الباب، كتب الجاحظ وابن المقفع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج.
وسألته في ذلك مرة فقال: «نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية، ما يتحدث الناس وما ينشئ كتاب الصحف في ذلك سواء، واللسان العربي هنا في هذه الكتب، إنها هي البادية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان، بعدما فسد لسان الحضر والبادية ...»
على أنه كان لا يفيد من هذه القراءة اليسيرة قبيل الكتابة إلا الجو البياني فقط، أما حروف اللغة وأما أساليب اللغة، فلم تكن تعنيه في شيء، فيقرأ عجلان غير متلبث كما يطالع صحيفة دورية، حتى يفرغ من الفصل الذي بدأ، ثم يطوي الكتاب ويستعد للإملاء.
وإذا كان كثير من الكتاب تزعجهم الحركة والضوضاء وتعوقهم عن الاستمرار في الكتابة،
2
فإن الرافعي كان - على ما في أذنيه - يزعجه أن يمر النسيم على صفحة خده ... كان مكتبه إلى جانب باب الشرفة، وكان لي نضد صغير إلى جانب مكتبه حيث أجلس ليملي علي، فكان يلذني أحيانا والجو حار أن أفتح باب الشرفة لأتروح، فلا تكاد تهب نسمة بجانبه حتى يكف، وعرفت عادته هذه فكنت أغلق الشرفة والنافذة جميعا، لأصلى حر الغرفة أربع ساعات أو يزيد حتى يفرغ من إملائه، وكان يؤذيني من ذلك أنني كثير التدخين، والحر والمجهود العصبي يزيدان الرغبة فيه، فلا تمضي ساعتان منذ بدأنا حتى يفسد جو الغرفة، فأفتح الشرفة لتجديد الهواء برهة نتبادل فيها الحديث، ثم أعود فأغلقها ليملي علي ... على أنه في غير وقت الكتابة كان يحب أن يقضي في الهواء الطلق أكثر وقته، حتى في برد الشتاء القارس، فكان إذا فرغ من إملائه خرج إلى الشرفة البحرية يفتح صدره للهواء يعبه عبا كما يقبل الشارب الحران على الماء في يوم قائظ ...
ولم أكن أقاطعه حين يملي علي مقاطعة ما، إلا حين أشعر أنه يهم بالانتقال في الموضوع من فصل إلى فصل، فألقي إليه ما أريد أن أقوله مكتوبا في ورقة، لأحاوره في عبارة أو لأستوضحه معنى ... ثم يعود إلى إملائه وأنا أكتب صامتا، وهو لا يرفع عينيه إلي، كأنما يتحدث من وراء ستار إلى سامع غير منظور، أو كأنه في نجوى خاصة ليس فيها سامع ولا مجيب، ولقد كان يخيل إلي أحيانا وأنا صامت في مجلسي والقلم يجري في يدي على الصحيفة وأذني مرهفة السمع كأنه في شبه غيبوبة يتحدث إلى نفسه والمجلس خال إلا منه، فما أنا فيه بشيء إلا إدراكا غير مجسد، وأحيانا أخرى كانت تتسع روحه وتنبسط حتى تشملني، فما أكتب كلاما يمليه علي، ولكن تمليه نفسي على نفسي وإن صوته ليرن في أذني بما سبق إليه خاطري ...
ولم يكن يملي مسترسلا، ولم يكن يملي وانيا متمهلا، ولم يكن في كل أحواله سواء، فحينا يطاوعه القول، وحينا يتأبى عليه فيسكت وهو يدق على المكتب بحديدة في يده ويغمغم بصوت لا يبين، فإذا طال به الوقوف تناول كتابا أي كتاب على مكتبه، فيفتحه فيقرأ كلمة أو سطرا أو جملة، ثم يطوي الكتاب ويعود إلى الإملاء، ولقد يراه من يراه في هذا الوقت فيحسبه يملي مما قرأ، وما به ذاك، ولكنها كانت لازمة من لوازمه تعودها حين يرتج عليه، وتعود أن يجد فيها مفتاح القول ...
ولقد تأبى عليه القول مرة فطال به الصمت، فمد يده إلى كتاب على مكتبه وهو يقول ضاحكا: «يا أخي، لقد تعودتها وما أجد لها علة، وتعودت بها أن أجد ما أريد عند أول كلمة أقرؤها ولو كان الكتاب معجما لغويا ...» وكان الكتاب الذي مد إليه يده هو «القاموس المحيط» قلت: «إن في بعض الأشياء مثل المفاتيح العصبية ...» قال: «صه، هذه هي الكلمة التي أريدها: المفاتيح العصبية ...» ثم طوى الكتاب وعاد إلى الإملاء.
3
وكانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا وموسيقى، وكان له ذوق فني خاص في اختيار كلماته، يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشآته، وكنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة وهو يملي علي، هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن ويعرف سر إعجازه في كل آية وكل كلمة من آية وكل حرف من كلمة، وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله - تعالى:
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه
4
ليرى نموذجا من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء، وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام، معينة له عونا كبيرا على البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع، احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فتأبى عليه القول، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه، فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته بابا من كتاب المخصص لابن سيده، ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه، فما هو إلا أن فتحته فوقع على مراده حتى طوى الكتاب وعاد إلى إملائه، وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة، ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين، وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه، وكان له في إنشاء «الكناية» إحساس دقيق، وأحسب لو أن واحدا من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد.
إنني لم أعرف كاتبا غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل، وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا من صحيفته يريد أن يمتلئ، على أنه أحيانا كانت تدعوه دواع إلى كتابة لم يتهيأ لموضوعها أو يفرغ له باله، فيمليها على عجل بلا إعداد ولا توليد، ولكنك مع ذلك تجد عليها طابع الرافعي وشخصيته، فتعرف كاتبها وإن لم يذيلها باسمه، والعجيب أن هذا النوع من المقالات التي كان الرافعي يكتبها بلا إعداد ولا احتفال كان أحب إلى كثير من القراء، وكان الرافعي يرتفع به عن منزلته درجات عند طائفة منهم ...
والشاي أو القهوة هما كل المنبهات العصبية التي يطلبها الرافعي عندما يكتب، وفنجانة أو اثنتان هما حسبه في هذا المجلس الطويل، وعلى أنه في أخريات أيامه قد ولع بتدخين الكركرة - الشيشة - ويستعيض عنها بالدخان في أثناء الكتابة، فإنه لم يكن يشعل إلا دخينة - سيجارة - أو دخينتين في مجلس الكتابة، فكان يشتري العلبة فتظل في درج مكتبه شهرا إذا لم يزره في مكتبه زائر ... ... فإذا فرغ الرافعي من إملاء مقاله، تناوله مني فطواه قبل أن يقرأه، ثم يودعه درج مكتبه إلى الصباح ويخرج إلى الشرفة يشم نسيم المساء ... ثم يأوي إلى فراشه ...
وأول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى المقال الذي أملاه علي في الليل فيقرأه ويصححه ... ثم يسعى به ساعيه إلى حيث ينشر ... ويفرغ يوما لنفسه قبل أن يهيئ فكره لموضوع جديد ...
مقالة ... هي عمل الفكر، وكد الذهن، وجهد الأعصاب، وحديث النفس في أسبوع كامل، ولكنها مقالة ... ومع ذلك فقد أنشأ كتاب «رسائل الأحزان» في بضعة وعشرين يوما، وكتب «حديث القمر» في أربعين، وكتب «السحاب الأحمر» في شهرين ...
وقال قائل من خصومه: «إنه يقاسي في هذه الكتابة ما تقاسي الأم من آلام الوضع ...!»
وقال الرافعي يجيبه: «أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها ... وعلي نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!»
عمله في الرسالة
أنا لا أعبأ بالمظاهر التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيل إلي دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه ...
الرافعي
لم يعمل الرافعي في صحيفة من الصحف الدورية قبل أن يتصل حبله بالرسالة؛ فإن مذهبه الأدبي لم يكن يعينه على ذلك، وقد قدمت القول عن طريقته في الكتابة، وليس يتسع الوقت لمن يكون هذا مذهبه في الإنشاء أن يعمل في صحيفة من الصحف تظهر لقرائها في مواعيد رتيبة ...
على أنه كان يكتب قبل ذلك مقالات للهلال والمقتطف وغيرهما في فترات متباعدة إذا وجد في نفسه حافزا للكتابة، أو إذا دعته صحيفة من الصحف إلى إنشاء مقال يراه حقيقا بالكتابة ...
فلما دعته الرسالة إلى الاشتراك في تحريرها وحددت له عمله وجزاءه، تردد في الجواب، لكنه لم يلبث أن لبى نداءها؛ لعله يستعين بما يحصل له من أجر الكتابة في الرسالة على أمر من أمره ...
كان ولده الدكتور محمد يومئذ يدرس الطب في جامعة ليون-فرنسا على نفقة جلالة الملك، ولكن الإبراشي باشا لأمر ما قطع عنه المعونة الملكية وليس بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فحمل الرافعي بذلك من الهم ما حمل؛ إذ لم يكن له طاقة مالية تعينه على الإنفاق على ولده في فرنسا، فمن ذلك أجاب «الرسالة» إلى ما طلبته ...
كان ذلك في ربيع سنة 1934.
فظل يكتب لها كل أسبوع مقالة أو قصة، لا يفتر عن هذا الواجب إلا أن يمنعه المرض أو تشغله شاغلة من شواغل الحياة، ومات وهو يتهيأ لكتابة مقالته الأسبوعية، ولكن القضاء عاجله فخلفها على مكتبه ورقة بيضاء ...!
وسأحاول في هذا الفصل أن أتحدث عن كل مقالة من المقالات التي أملاها علي في الفترة التي صحبته فيها منذ بدأ العمل في الرسالة حتى صيف سنة 1935، وما يجهل القراء أن كل مقالة يكتبها كاتب لها ظروفها وملابساتها ودوافعها، وما يجهلون أن لكل كاتب عند كل مقالة يكتبها حالة نفسية خاصة يهر أثرها فيما يكتبه، وإني لأعلم أن هذا التاريخ لا يتم تمامه في نفسي ولا يتأدى مؤداه إلى قارئه على وجهه إلا أن أثبت بعض ما أذكر من دوافع الرافعي إلى كل مقال مما أملاه علي، وإني بهذا الفصل لأحاول جديدا في فن الترجمة، فما أعرف كاتبا من كتاب التراجم في العربية حفل بهذا الباب في تاريخ الأدباء ، على أن له أثرا أي أثر في دراسة أدب المترجم يعين على فهمه وتصويب الحكم عليه؛ فمن ذلك كانت عنايتي بهذا الباب، وإني لأرجو أن تعينني الذاكرة على تمامه حتى أبلغ منه إلى ما أريد ... •••
لم يكن بين الرافعي والزيات صلة ما قبل صدور الرسالة، إلا صلة الأديب بالأديب، وما أحسبهما التقيا قبلها قط إلا في كتبهما ورسائلهما، ثم صدرت الرسالة فكانت بريد الأدباء عامة إلى الأدباء عامة، وكانت بريد الزيات إلى الرافعي، فتعارفا وائتلفا وإن لم يلتقيا وجها لوجه ... ومضت أشهر ...
وتصفحت الرسالة ذات مساء من صيف سنة 1933، فإذا فيها كلمة عن «أوراق الورد» للزيات، يجيب بها فتاة سألته أن يرشدها إلى شيء مما كتب أدباء العربية في رسائل الحب، ومضت فترة وكتبت الفتاة «عفيفة السيد ...» رأيها في أوراق الورد فعابته ونزلت به منزلة، وكان الرافعي في هذه الأثناء بعيدا عن طنطا يصطاف في «سيدي بشر»، وكان علي في هذه الفترة، والرافعي في مصطافه، أن أجمع له كل ما يهمه أن يقرأ مما كتبت الصحف، فلما قرأت ما كتب الزيات وما ردت به الفتاة، قصصته من صحيفته وبعثت به إليه في سيدي بشر ومعه رسالة مني ... وقرأ الرافعي ما بعثت إليه، فانتضى قلمه وكتب كلمة للرسالة يرد بها رأي الفتاة، وكانت كلمة قاسية لم يجدها صاحب الرسالة إلا فصلا من «على السفود» لا تقوى على لذعاته الفتاة الناعمة ... فطوى كلمة الرافعي، ونشر كلمة في الرسالة يعتذر بها إليه وإلى القراء، ويرجوه بهذه المناسبة أن يكتب للرسالة من منثور أوراق الورد ... ولم يجب الرافعي هذه الدعوة إلا بعد بضعة أشهر.
كانت كلمة الرافعي إلى «عفيفة السيد» عن أوراق الورد هي أول ما أنشأ للرسالة من مقالاته، ولم تنشر، ثم سعى إليه يوما شاب من المرتزقين بمراسلة الصحف، وكان الرافعي يعطف عليه ويعينه على العيش بما يحسن إليه، وإذ كان الرافعي لا يملك أن يحسن إليه بالمال - والمال في يده قليل - فإنه كان يحسن إليه بما يملي عليه من رسائل الأدب ، ليأخذها فيبيعها إلى بعض المجلات فيستعين بما تدفع إليه من ثمنها على حاجات الحياة، وهو ضرب من الإحسان على قدر طاقة الرافعي! ... جاءه هذا الشاب يسأله ويطلب منه الجواب: «لماذا لا تعالج القصة؟»
وأملى عليه الرافعي جوابه، فذهب فنشره في الرسالة بعنوان «فلسفة القصة»، وكان أول ما نشر للرافعي في الرسالة.
1
ثم كان عيد الهجرة بعد ذلك بقليل، فطلبت الرسالة إلى الرافعي أن يكتب فصلا للعدد الممتاز، فأنشأ مقالة «وحي الهجرة في نفسي».
2
ومضى شهر، وأهدى إليه الشاعر محمود أبو الوفا «ديوان الأعشاب» وكان مرجوا أن يكتب عنه؛ إذ كان المقصود من طبع هذا الديوان - وطابعه غير صاحبه - أن يكون إعانة مادية لناظمه توسع عليه ما ضاق من دنياه ...!
وقرأ الرافعي ديوان الأعشاب ... ثم هزته أريحيته إلى أن يكتب عنه؛ تحقيقا لرجاء الرجين فيه وبرا بصاحبه، وأبت كبرياؤه أن يكتبه مقالا يعنونه بعنوانه ويذيله باسمه، فدعاني إليه واصطنع حديثا بيني وبينه فأملاه علي لينشر في الرسالة مذيلا باسمي، وما كان بيني وبينه حديث في شيء، ولكنها مقالة تواضعت من كبرياء فسميت حديثا ... وأرضى كبرياءه وعاطفته في وقت معا.
كان الرافعي في حرج وهو يملي علي هذا الحديث؛ إذ كان يخشى أن يناقض نفسه في الرأي وهو يكتب عن هذا الشعر رعاية لصديق، ولكنه خرج من هذا الحرج بحسن احتياله، فجعل أكثر مقاله عن الشعر بمعناه العام ورأيه فيه ومذهبه منه، ثم خص الديوان بكلمات في خاتمة الحديث كانت هي خلاصة الرأي فيه، وبذلك برئ من الإسراف في المدح ومن الإيلام في النقد، وخرج من الأمرين معا إلى تحديد معنى الشعر ووسائله وغايته، فأجاد وأفاد في باب من القول له منزلة ومقدار.
ونشر هذا الحديث في الرسالة، ومضى شهر آخر ... ثم جاءه البريد ذات صباح بكتاب صاحب الرسالة، يعرض عليه أن يكون معه في تحريرها، وسمى له أجرا ... وقبل الرافعي، وما كان له بد من أن يقبل ...!
وشبيه بهذا اللون من الإحسان الأدبي برا ببعض الحاجات، مقدمة كتبها لكتاب اسمه «الفاروق عمر بن الخطاب» ألفه مؤلفه وهو مدرس في إحدى مدارس الحكومة، وسعى به إليه ليكتب له المقدمة، وقرأ الرافعي الكتاب، فلم يجد فيه ما يحفزه إلى إجابة هذا الرجاء، فرد الكتاب إلى صاحبه معتذرا، ولكن المؤلف عاد يرجوه ويستشفع إليه، ويبسط له من حاله ويصف حاجته ... وأثرت كلماته وما وصف من حاله في نفس الرافعي، فأجابه إلى ما طلب، وكتب كلمة بعنوان «عمر»، لم يعرض فيها للكتاب، ولا لموضوعه، ولا لمؤلفه، ولكنها كلمة وجد فيها المؤلف طلبته ليصدر بها الكتاب وعليه اسم الرافعي ... ... فهذه الكلمات الثلاث: فلسفة القصة، وديوان الأعشاب، وعمر - وللرافعي كثير من أمثالها - هي حسنات أدبية أنشأها على أنها لون من ألوان البر والمعونة، على مثال ما يتصدق ذوو المال بالمال! •••
وكانت أولى مقالات الرافعي بعدما دعاه صاحب الرسالة إلى العمل معه، مقالة «لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته».
3
وتوالت مقالات الرافعي بعد ذلك في الرسالة، فنشر في الأسبوع التالي مقالة «الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام»، وأحسبه اختار هذا الموضوع - على انقطاع الصلة بينه وبين الموضوع السابق - احتفاء بالمولد النبوي؛ إذ كان هذا موسمه.
ثم نشر «موت أم» وهي صورة حية نابضة لصبية فقدوا أمهم وما يزال أكبرهم في الثامنة، وهي صورة حقيقية مرت أمام عينيه فانفعلت بها نفسه، أما هذه الأم فهي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف، وأما هؤلاء الصبية فبنوها، اهتصرها الموت في ريعانها فمضت وخلفت وراءها أربعة، فبكاها الرافعي بكاء الوالد، وما أعلم أنه مشى في جنازة قبل جنازتها، ودفنت في مقبرة آل الرافعي بطنطا، ولما عاد الرافعي من الجنازة ليعزي صديقه في داره، دعا بولده ليمسح على رأسه ويسري عنه، فكان بينه وبين عيني الطفل حديث طويل، فما غادر مجلسه إلا ورأسه يفيض بشتى المعاني، وقلبه يختلج بفيض غامر من الألم، وعيناه تترقرق فيهما الدموع!
وروح إلى داره فجلس إلى مكتبه يفكر ... ومضى يوم ثم أرسل يدعوني إليه فأملى علي «موت أم!»
وكان الأسبوع التالي موعد امتحان الشهادة الابتدائية، فكانت مقالته: «حديث قطين » وإنها لتتحدث بنفسها عن شيء من مناسبتها، وإن فيها إلى ذلك لشيئا من خلق الرافعي لم يكن يعرفه إلا الخاصة من أصحابه، ذلك هو طبيعة الرضا بما هو كائن، فقد كان ذلك من ألزم صفاته له، فكان دائما باسما منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه، فمن ذلك كان يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذة يشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيرا يترقبه ويهيئ له، ولعل أحدا لا يعرف أن الرافعي لم يكن يرى في تلك العلة التي ذهبت بسمعه وهو لم يزل غلاما، إلا نعمة هيأته لهذا النبوغ العقلي الذي أملى به في تاريخ الأدب فصلا لم يكتب مثله في العربية منذ قرون! ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدر وقانون التعويض يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه ... وذلك بعض إيمان الرافعي!
هذا الخلق هو المحور الذي كان يدور حوله الحديث الذي اصطنعه الرافعي على لسان القطين، وهو الذي حمله من بعد على إنشاء مقالتي: «سمو الفقر» في العددين التاليين من الرسالة، والشيء يذكر بالشيء، فلولا ما جاء في امتحان الشهادة الابتدائية لذلك العام، ما أنشأ الرافعي حديث قطين، ولولا ما ألهمه حديث القطين من المعاني في فلسفة الرضا ما أنشأ مقالتي: «سمو الفقر» ففي هذه المقالات الثلاث موضوع واحد اختلف عنوانه واتحدت غايته وكانت مناسبته ما قدمت ...
وقد يسأل بعض القراء: ولكن ما وجه عناية الرافعي بنقد سؤال توجهه وزارة المعارف إلى تلاميذها في امتحان الشهادة الابتدائية، وليس الرافعي من أهل «البيداجوجيا»، وليست المناسبة من الخطر بحيث تحمل مثله على الاهتمام!
وأقول لهذا السائل الحفي: إن عبد الرحمن الرافعي - وهو أصغر بنيه وأحبهم إليه - كان يؤدي في ذلك العام امتحان الشهادة الابتدائية؛
4
ومن ثمة كانت عنايته بهذا الموضوع، وله في هذا الباب نظائر ...!
ثم أنشأ مقالة «أحلام في الشارع»، وقصتها أنني كنت أساهر الرافعي ليلة، فلما انتهت السهرة صحبته إلى قريب من داره ، ومررنا في طريقنا بدار «بنك مصر-طنطا»، وقد انتصف الليل، فلما صرنا قبالة «البنك» وقف الرافعي هنيهة ليشهد منظرا استرعى انتباهه: طفل وطفلة من أبناء الشوارع نائمان على عتبة البنك، وقد توسدت الفتاة ذراعا وألقت ذراعا على أخيها ... ووقف الرافعي ووقفت ... ورأى الشرطي ما رأينا فأسرع إلى الطفلين ...
وفي الغد أملى علي الرافعي مقالة «أحلام في الشارع!» ... وكانت المقالة التالية «في اللهب ولا تحترق!»
وهي الممثلة الراقصة المغنية ف ... وكانت تعمل في فرقة من الفرق التمثيلية المتنقلة بين الحواضر، حلت مع فرقتها في طنطا في صيف سنة 1934، ولسبب ما لم يذهب الرافعي إلى مصيفه في «سيدي بشر» ذلك العام، واستغنى عن البحر والمصيف بما قد يكون في طنطا من أسباب الترويح والرياضة، وإن فيها لغناء وعوضا.
وكنا ثلاثة من أصدقاء الرافعي نسمر معه كل مساء «س، أ، ع» وجلسنا حوله ذات ليلة وكان متعبا مكدودا يشعر بحاجته إلى لون من ألوان الرياضة يرد إليه نشاطه وانبساطه، قال: «أين تقترحون أن نقضي الليلة؟»
قال «أ»: «إن في منتزه البلدية فرقة تمثيلية هبطت المدينة منذ أيام، وإن فيها لمغنية راقصة، أحسبها خليقة بأن توحي إليك بفصل جديد من أوراق الورد!»
فمط الرافعي شفتيه ولم يعجبه الاقتراح، وأحسب أن الصديقين «أ» و«ع» كانا على رغبة مشتركة في هذه السهرة، فما أحسا رفض الرافعي حتى قال «ع»: «... ولكنها راقصة ليست كالراقصات، إنها صوامة قوامة، تصوم الشهر وستة أيام بعده، وتقوم الليل إلا أقله، وتصلي الخمس في مواعيد الخمس، وما أحسب رقصها وغناءها إلا تسبيحا وعبادة ... إنها ...!»
مغنية وراقصة، ولكنها صوامة قوامة ... يا عجبا! وهل في الراقصات كهذه التي يصفها الصديق العابث «ع»؟ ... ولكن الرافعي صدق، وعرف الصديق طريق الإقناع إلى قلب الرافعي، واتفقنا على الرأي. «هذه هي الراقصة التي أعني ...» هكذا قال الصديق «ع» فاشرأب الرافعي ينظر من وراء الصفوف، لقد رآها، ولكنها لم تكن أمام عينيه كما كانت في أعين الناس ... كانت تحت عينيه إنسانة أخرى لها طهر وقداسة واحترام ...
هذا الصدر الناهد، وهذه الساق اللفاء، وذلك القوام الأهيف، وهاتان العينان الحالمتان، وهذا الخد الناضر، وهذه الشفة الباسمة، وذلك الشعر اللامع ...
هذه كلها سحر وفتنة، تعترك حولها شهوات الرجال، وتترامى إليها أماني الشباب، ولكن رجلا واحدا بين النظارة لم يكن يبصر شيئا من ذلك، رجلا لم يكن أحد - فيمن أعرف - أضعف منه بإزاء سحر المرأة، ولكنه الليلة شخص غير من أعرف، وهذه الراقصة بإزائه غيرها بإزاء الناس ... هي في عين الجميع أنثى فاتنة، ولكنها بعينيه قدسية تستحق التبجيل والاحترام ...
كانت على عين الجميع راقصة تغني، وكانت بعينيه عابدة تسبح وتصلي ... كان الناس ينظرون إلى الراقصة وهي تفتن في إغراء الرجال بالنغمة والحركة والرنوة الفاتنة، وكان الرافعي ينظر في أعماق نفسه إلى صورة أخرى رسمها من خياله فقامت حياله تريه ما لا يراه الناس!
وانفض السامرون إلا قليلا تحلقوا حول الموائد يقرعون كأسا بكأس، ونهض الرافعي فيمن نهض ...
ومضى يومان، ثم دعاني ليملي علي مقالة «في اللهب ولا تحترق!»
ولما فرغ الرافعي من شأن هذه المقالة، دعا إليه بصديقه «ع» يستزيده من خبر هذه الياقوتة الكريمة، ويسأله الوسيلة إلى لقائها إن كان بينهما سبب، لعل اجتماعا بينها وبين الرافعي يفتق ذهنه عن موضوع جديد يكتبه لقراء الرسالة، فابتسم الصديق «ع» وقد دبر في نفسه حيلة تجمع بينها وبينه، وهل يعجزه - وهو من هو - أن يجد وسيلة لمثل هذا اللقاء ليمضي في مزحته إلى النهاية؟
وذهب «ع» يسأل عن الراقصة ويستقصي خبرها فعرف ...
لقد فرت «الياقوتة» مع موسيقي الفرقة، ومضى زوجها في أثرهما، فانحلت الفرقة وغادرت المدينة.
وجاء النبأ إلى الرافعي، فما عرف إلا من بعد أنها كانت مزحة من الصديق «ع» فأسرها في نفسه ...
وعاد الرافعي إلى المقال يقرؤه منشورا في الرسالة وهو يضحك ويقول: «أهذا ممكن؟ أهذا مما يكون؟ أتكون في اللهب ولا تحترق؟»
فرد الصديق «ع» قائلا: «لقد احترقت!»
وكانت كذبة، ولكنها أنشأت مقالة لم أقرأ مثلها فيما قرأت من روائع الأدب العربي! •••
كان أكثر جلساء الرافعي في هذه الفترة هم الأصدقاء «س، أ، ع» فكان لهم سره ونجواه، وإلى موعدهم مغداه ومراحه، وكان حديثهم إليه وحديثه إليهم هو عنده مادة الفكر وموضوع الكتابة، وكان لكل واحد من الثلاثة الأصدقاء في هذه الفترة مشكلة تملأ فراغ رأسه، فهي له في الليل مشغلة وفي النهار مشغلة.
أما «س» فكان على نية الزواج، قد ترامت أمانيه إلى واحدة من أهله، ولكن التقاليد وقفت بينها وبينه موقفا ما، أورثه ضجرا وملالة وسخطا على الناس وتبرما بالحياة وخروجا على ما تواضع الناس عليه من التقاليد في شئون الزواج.
وأما «أ» فكان في عهد بين عهدين من حياته، قد ودع ماضيه بما فيه من عبث ومجانة، وطلق شهواته إلى عهد يستشرف إلى ما فيه من المتاع الحلال في ظل الزوجة المحبوبة المحبة، فسمى زوجته وعقد عقده، ثم وقف ينتظر اليوم الذي يبني فيه بأهله قلقا عجلان، واليوم الموعود لا يحين؛ لأن التقاليد تبعده كلما دنا موعده ...
وأما «ع» فشاب قد انفرد في الحياة من أهله، فقد أمه وهو غلام، فما كاد يستوي شبابه حتى مضى يلتمس ما فقد منذ طفولته من حنان الأنثى، فتزوج، ثم فقد زوجه، ثم تزوج الثانية فما بقيت إلا بمقدار ما بقيت الأولى، ولكنها خلفت بضعة منها بين يديه مصورة في طفلة سلبها القدر أمها يوم منحها الحياة! ... هو أب ولا زوج له، هو عزب وكانت له زوجتان، وهو فتى يؤمن بالله ويلحد في القدر، وهو شخصيتان منفصلتان تعرف إحداهما في المسجد وتعرف الثانية في الشارع، وله عين عفة وعين فاجرة، وله في الحياة تجربة ورأي، وله إلى الهوى والملذات مثل اندفاع الشاب الذي لم يذق ولم يجرب بعد!
ثلاثة نفر لكل منهم رأيه في الحياة ومذهبه، ولكنهم قد التقوا في مجلس الرافعي على هوى واحد، فأحلوه من أنفسهم وأحلهم من نفسه، فكان له من أحاديثهم شعور الشباب، ولهم من حديثه حكمة الشيخ، وللأدب من كل مجلس يجمعهم وإياه موضوع حي مما كتب الرافعي لقراء الرسالة ...
ومن هذه الموضوعات «قصة أب».
ذلك هو الصديق «ع» كان الله له ...!
جلس مجلسه يوما إلى الرافعي يشكو بثه وهمه والدموع تترقرق في عينيه، واستمع الرافعي إلى شكاته متألما حزينا، فما فرغ «الأب» من قصته حتى جمع الرافعي «قصاصات» الحديث فجعلها في جيبه وجلس يتفكر ... ثم كانت «قصة أب». •••
وفي الأسبوع التالي كان زفاف ابنته «وهيبة» إلى ابن أخيه في حفل أهلي خاص وصفه الرافعي في مقاله «عرش الورد»، وهو عرش نظمه أخو العروس
5
لمجلس العروسين، وجعل فيه فنه وعاطفته نحو أخته وابن عمه وقدمه إليهما هدية عرس.
ولما جلس العروسان ذراعا إلى ذراع في عرش الورد، بارك لهما الرافعي ودعا، ثم خرج ليمضي ساعات في القهوة، ولقيني هناك وحدي، فانتحينا ناحية على حيد الشارع لا يترامى إلينا من أضواء القمر إلا شعاع حائل، وكان الرافعي يؤثر أن يجعل مجلسه في الصيف على ذلك الرصيف في جانب من القهوة، ويسميه «بلاج طنطا» إذ كان انفساح الشارع أمامه، وما يتعاقب عليه في الليل والنهار من ألوان الجمال في الطبيعة والناس، مما يحبب إلى العين أن تنظر، وإلى النفس أن تنبسط، وإلى الفكر أن يبدع فيما يخلق من ألوان الجمال ...
وكان الليل نائما يحلم، والطبيعة ساجية لا يسمع من صوتها إلا همس خافت، وفي الجو شعر يهزج في سرار النسيم وفي حفيف الشجر، وعرائس الخيال تطيف راقصة تنفح بالعطر وترف بالنور ... ولكن الرافعي جلس مجلسه صامتا لا يتحدث إلا كلمات إلى النادل يطلب كوب ماء ليشرب أو جمرات للكركرة ... واحترمت صمته فسكت عنه ...
ومضت ساعة، ثم رفع عينيه إلي وهو يقول: «الليلة عرس ابنتي ...!»
ولم يسمع جوابي؛ لأن دمعة كانت تترقرق في عينيه وهو يتحدث حبستني عن الجواب ...!
دمعة لم أترجم معناها إلا بعد سنتين، يوم جاءني يقول والدمع يلمع تحت أهدابه: «إن وهيبة مسافرة إلى زوجها في أمريكا،
6
ليس من الحق أن تبقى هنا وهو هناك!»
ثم يوم جاءني بعدها يقول وفي يده صحيفة أمريكية: «انظر هذه الصورة، إنهم يسمونه هناك : أصغر سائح مصري في أميركا ... إنه حفيدي مصطفى صادق الرافعي ...»
7
لقد كان الرافعي يحب أولاده حبا لا أعرف مثله فيمن أعرف، ووهيبة كبرى أولاده، ذكرها في «الديوان»، وغنى لها في «النظرات» وأرخ زواجها في «عرش الورد». •••
وكانت المقالة التالية هي: «الإنسانية العليا».
وهي باب من القول في الأدب الديني تنتظم مع «وحي الهجرة» و«الإشراق الإلهي» و«سمو الفقر» تحت باب واحد ... ... كان يعتاد الرافعي كما يعتاد كل إنسان، نوبات من الضيق والهم تقعد به وتصرفه عما يحاول من عمل، ولم يكن له علاج من هذا الضيق الذي يعتاده إلا أن يقرأ قرآنا أو ينظر في كتاب من كتب السيرة النبوية، فيفرج همه ويزول ما به، ويهون عليه ما يلقى من دنياه ...
في نوبة من هذه النوبات التي تضيق بها الدنيا على إنسان، تناول الرافعي كتابا من كتب الشمائل يسري به عن نفسه، فاتفق له رأي ... وخرج من مطالعته بمقالة «الإنسانية العليا». ••• ... وكان للرسائل التي ترد للرافعي في البريد من قراء الرسالة أثر يوحي إليه في أحيان كثيرة بما يكتب لقرائه، فهو منهم وإليهم، ومنذ بدأ الرافعي يكتب في الرسالة أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة في موضوعات شتى ولمناسبات متعددة، حتى كان يبلغ ما يصل إليه أحيانا في اليوم الواحد ثلاثين رسالة، وكان يقرؤها جميعا ويحفها في درج خاص من مكتبه، وللحديث عن هذه الرسائل باب آت، وإنما يعنيني اليوم أن أتحدث عن الموضوعات التي استملاها من رسائله، ومن هذه الموضوعات مقالة «تربية لؤلئية».
كانت تصدر في القاهرة في ذلك الوقت مجلة «الأسبوع» وقد فتحت صدرها لطائفة من شباب الجنسين يكتبون فيها وحي عقولهم وقلوبهم و... وشهواتهم! وكانت صفحاتها لهؤلاء الشبان والشابات أوسع من صدر الحليم، فلم تلبث بهذه السماحة أن صارت - كما يقول العامة - بطن حمار! وأصبحت ميدانا للغزل البريء وغير البريء، وموعدا من مواعد التلاقي والوداع.
وفي صبيحة يوم، حمل البريد إلى الرافعي رسالة من سيدة كريمة، تلفته إلى محاورة داعرة تعترك فيها أقلام طائفة من الشبان في مجلة «الأسبوع»، وبعث الرافعي في طلب أعداد المجلة فجيء بها، فما قرأها حتى تناول القلم وأملى علي مقالة «تربية لؤلئية».
في هذه المقالة خلاصة رأي الرافعي في حرية المرأة وحقها في المساواة، وترى لهذا الرأي بقية فيما نشر من مقالات الزواج، والطائشة، والجمال البائس، وغيرها، وهو يزعم أنه بهذا الرأي من أنصار المرأة عند من يعرف أين يكون انتصار المرأة، وللرافعي حين يتحدث في هذا الموضوع حجة قوية، وبرهان ماض، إلى روح رفافة وشعر ساحر، ولست واجدا أحدا يرد عليه في ذلك على قلة من تجد من أنصاره، وقد جلست مرة إلى المربي الكبير الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف نداول الرأي في أدب الرافعي ومذهبه الاجتماعي لمناسبة ما كتب الرافعي للرسالة في موضوع المرأة، فقال لي: «إنك لن تجد أحدا من أنصار الجديد يرضى هذا المذهب، ولكنك لن تجد أحدا - أيضا - يستطيع أن يصاول الرافعي في هذا الميدان بمثل حجته وقوة إقناعه.» ... وأرضى الرافعي بهذا المقال السيدة الكريمة التي كتبت إليه، ولكنه أغضب مئات من القارئات وعشرات من القارئين، فانثالت عليه الرسائل من هؤلاء وهؤلاء غاضبة مستنكرة، إلا بضع رسائل ...
ولما كتب مقالة «تربية لؤلئية» وأرسل بها، ركب قطار البحر إلى الإسكندرية ليستريح يوما هناك يتزود فيه لفنه وأدبه من عرائس الشاطئ ...
كان قد كتب مقاله السالف وأرسل به، ولكن معانيه بقيت في نفسه، فلما ذهب إلى الشاطئ وجد تمام موضوعه، فعاد ليملي علي مقالة «لحوم البحر»، وهي قصيدة مترجمة عن الشيطان على نسق من النثر الشعري فاق فيه الرافعي وغلب ... •••
كان للرافعي عادة حين يعجبه موضوع مما كتب أن يسأل عنه كل من يلقى من أصحابه: «هل قرأت مقالتي الأخير ...؟ وما رأيك فيها ...؟ هل يملك أحد أن يعرض لرأي فيها بالنقد ...؟»
وكان يعتد كثيرا بمقالة «تربية لؤلئية»، ففي ذات مساء بعد نشر تلك المقالة قصد إلى القهوة ليريح أعصابه، فصادف الأصدقاء «س، أ، ع»
8
فما كاد يستقر به المجلس بينهم حتى أخذ يسأل كل واحد: «هل قرأت ...؟ ما رأيك ...؟ هل يملك أحد ...؟»
كان للرافعي في كل واحد من أصدقائه الثلاثة رأي، وكان لكل واحد في نفسه حقيقة، ولهم في الحياة نظرات تغترب وتقترب، وكلهم قد حرموا المرأة لونا من ألوان الحرمان، ولكل منهم في المرأة رأي، مما تخيلها، أو مما كابدها، أو مما شقي بها!
والرافعي رجل قد فارق الشباب وخلعه فيما خلع من ماضيه، وإنه لزوج وأب ويوشك أن يكون جدا، فلا قدرة له على أن يعود القهقرى إلى ماضي شبابه يستوحيه خواطر الفتيان وأحلام الشباب في المرأة والحب والزواج، وهؤلاء الأصدقاء - على ما قدمت من نعوتهم في أول هذا الفصل - تجمعهم صفة العزوبة على اختلاف أسبابها، وما يزالون في باكر الشباب وفي يقظات الحلم، وكلهم قد مارس المرأة نوعا من المراس، في وهمه أو في حياته ...
فما كاد الحديث يبدأ بين الرافعي وأصدقائه حتى أخذ يتشعب فنونا، وساقهم الرافعي بحسن احتياله إلى هدف يرمي إليه ... فما انفض المجلس حتى كان ثلاثتهم على ميعاد مع الرافعي ليجيبوه كتابة عن أسئلة وجهها إلى كل منهم، على أن يلتزموا الصدق، ويجانبوا الحياء، ويخلصوا في الإجابة، وكانت الأسئلة هي: كيف ترى المرأة في وهمك؟ وأين مكانها من حياتك؟ وماذا مارست من شأنها وعرفت من خبرها؟ لماذا لم تتزوج؟
وجاء الميعاد المضروب، وسعى الأصدقاء الثلاثة إلى الرافعي بأجوبتهم، فمنها كانت مقالة الرافعي «س، أ، ع» وهي أولى مقالاته في الزواج، ثم تتابعت مقالاته في هذا الموضوع، فخطا بها إلى قلوب الشباب خطوات، وكان بينهم وبينه من قبل سد منيع.
قبل أن يكتب الرافعي هذه المقالة بأيام، جاءته رسالة من بعض الأدباء يسأله أن يكتب إليه في أسباب أزمة الزواج، استيفاء لبحث يهم أن يصدره في كتاب ...
وأحسب أن هذا السؤال كان الحافز الأول للرافعي إلى الكتابة في هذا الموضوع، وقد بعث الرافعي إلى السائل بجواب سؤاله، وكان جوابا فيه كثير من الدقة والتحديد والعمق، ولم أقرأه منشورا منذ أرسله إلى طالبه.
بدأ كثير من الشبان يهتمون بما كتب الرافعي؛ إذ كان بهذا الموضوع يعالج مشكلة كل شاب عزب، وتضاعفت رسائل القراء إليه، وطال الجدل في موضوعه بين طوائف من الشباب في مجالسهم الخاصة ...
فلما كانت أيام بعد مقالة «س، أ، ع» جاء إلى مجلسنا في القهوة شاب من أصدقائنا المتأدبين، هو الأستاذ إسماعيل خ، وهو محام ناشئ له ولوع بالأدب وشهوة في الجدل، وفيه إلى ذلك لين في الخلق وشذوذ في الطبع، وكان الرافعي يعرفه عرفاننا، فما رآه حتى وجد فيه عنوان مقالة ... فمال عليه يسأله ضاحكا ...
وأجاب الأستاذ إسماعيل: «الزواج؟ وما يحملني على هذا العنت؟ أتريدني على أن أبيع حريتي من أجل امرأة؟ ...» ومضى يؤيد دعواه بالبراهين والأمثال.
وتم للرافعي موضوعه، فأملى علي في اليوم التالي مقالة «استنوق الجمل!»
في هذه المقالة يجد القراء سببا آخر لانصراف الشباب عن الزواج غير ما قدم «س، أ، ع» في المقالة السابقة، فهي الحلقة الثانية من هذه السلسلة ...
وأحس الرافعي بالتعب، فانصرف عن الكتابة أسبوعا ليستجم، ولم من هنا ومن هناك طائفة من منثور القول فأرسله إلى الرسالة بعنوان «كلمة وكليمة»، وهي عبارات قصيرة من جوامع الكلم، ليس بينها رابطة في الفكر ولا في الموضوع، وكل كلمة منها موضوع بتمامه.
وقد قدمت القول عن هذه الكلمات القصار التي كان الرافعي ينشرها بعنوان «كلمة وكليمة»، فحسبي هنا أن أشير إلى موضوع هذه الكليمات ودوافعها.
في هذه الكلمات التي نشرها بالعدد 65 سنة 1934 كلمات عن المرأة والحب.
وهذه من فضلات المعاني التي اجتمعت له في مقالات المرأة والزواج ولم يجد لها موضعا مما كتب ... وفي هذه الكلمات رسائل إلى «فلانة» من تلك الرسائل التي قدمت الإشارة إليها عند الحديث عن حب الرافعي، وفيها كلمات عن السياسة المصرية يعرف دوافعها من يذكر الحالة السياسية التي كانت في مصر لذلك العهد، وحكومة صدقي تحتضر ...
فمن هذه العناصر الثلاثة اجتمع له هذا القدر من «كلمة وكليمة». •••
كان بين الرافعي والإبراشي باشا ما قدمت الحديث عنه في بعض الفصول السابقة، وكان منه أن انقطعت صلة الرافعي الشاعر بصاحب العرش ليحل محله الأستاذ عبد الله عفيفي ... وسارت الخصومة بين الرافعي والإبراشي إلى مدى، حتى انتهت إلى قطع المعونة الملكية عن (الدكتور) محمد الرافعي مبعوث الخاصة الملكية لدراسة الطب في جامعة ليون!
وضاقت نفس الرافعي بهذا اللون من ألوان الكيد، ولكنه صبر له واحتمل مشقاته وتكاليفه، وألزمته الضرورة أن يقوم بالإنفاق على ولده حتى يبلغ مأمله، على قلة إيراده وضيق ذات يده، فاستمر يرسل إليه أول كل شهر ما يقدر عليه وفي نفسه أن يأتي يوم يرفع فيه أمره إلى الملك فيحط هذا العبء عن كاهله! ووجد الفرصة سانحة لذلك في عيد الجلوس الملكي سنة 1934، فأنشأ كلمة بليغة في تحيته بعنوان «آية الأدب في آية الملك»، وأرسل بها إلى الرسالة لتنشر في العدد 66 سنة 1934.
9
كانت حكومة الإبراشي يومئذ في الاحتضار، وقد تنبه الشعب وتهيأت نفسه لحادث منتظر يرد إلى الأمة سلطانها الذي فقدته منذ تولي الإبراشي باشا رياسة الديوان الملكي، وكانت الجرائد السياسية تتحدث في كثير من الصراحة عن سلطة الشعب وسلطة القصر وحقوق الأمة، وفي مثل هذه الحال لا يمكن أن تقرأ قصيدة أو مقالة إلا على وجه من وجهين، ما دام هناك رأي بإزاء رأي، وحديث عن حق الشعب وحديث عن سلطة الملك ... ... ولكن الرافعي لم يعتبر شيئا من ذلك حين أنشأ «آية الأدب ...» ولم يقدر ما يمكن أن تؤول إليه كلمته عند من يقرؤها من أهل السياسة؛ إذ لم يكن له من العلم بالسياسة ما يؤهله لأن يفهم ذلك ...!
والرسالة صحيفة أدبية تحرص على رضا قرائها جميعا على اختلاف رأيهم في السياسة، فإن صاحبها ليتوقع ما يمكن أن يوجه إليه من التهمة لو أذن بنشر هذا المقال في صحيفته، فما هو إلا أن سلمه إليه ساعي البريد حتى استقل القطار إلى طنطا ليلقى الرافعي ويحدثه من حديثه ...
والتقيا ... وفهم الرافعي ما عناه صاحبه، فأخذ مقاله فأرسل به إلى الأهرام فنشر بها صبيحة عيد الجلوس، وقرأه من قرأه، ثم كانت آخرة العهد الإبراشي بعد ذلك بشهر واحد فكتب من كتب من خصوم الرافعي يعدد فيما يعدد من «جناية الإبراشي على الأدب، أنه كان يصطنع الأدباء؛ ليحارب بهم سلطة الأمة ويسخرهم للإشادة بحكم الفرد، وكان الرافعي عنده من صنائعه، وآيته هذا المقال وآيات أخرى من تلفيق الخيال!»
10 •••
وأرسل الرافعي إلى الرسالة بديلا من هذا المقال، مقالا آخر بعنوان «أرملة حكومة»، وكان يعني به صديقنا الأديب المهندس محمد أ. وهو شاب من «أدباء القراء» أبيقوري المذهب صريح الرأي، سلخ من عمره ثلاثين سنة ولم يتزوج، وبينه وبين الأستاذ إسماعيل خ. صاحب «استنوق الجمل» صلة من الود، وشركة في الرأي، وصحبة في البيت والندي والشارع ...
لقينا مجتمعين في القهوة اجتماعنا كل مساء، فعاج يسلم ثم جلس، وسأله الرافعي: «... وأنت فلماذا لم تتزوج؟»
قال المهندس: «لست والله من رأي صاحبي فيما حدثكم به أمس؛ إني لأريد الزواج وأسعى إليه، ولكن من أين لي ... من أين لي المهر، وهدايا العروس، وأكلاف الفرح؟ إن الزواج عندي ليشبه أن يكون معجزة مالية لا قبل لي بها ...! ولو قد عرفت أن هذه المعجزة تتهيأ لي بالبخل على نفسي والقصد في نفقاتي وباحتمال العسر والمشقة على نفسي وعلى من حولي، لما وجدت ما يشجعني على هذا الاحتمال، إني لأعرف من بنات اليوم ما لا يعرف غيري، أفتريدني على أن أحتمل العنت سنتين أو ثلاثا حتى يجتمع لي من المال ما يجتمع، من أجل الوصول إلى زوجة قد يكون لي منها شقاء النفس وعدو العمر؟»
وقال الرافعي ... وقال الشاب ... وطوى الرافعي ورقاته وقد اجتمع له موضوع جديد، وتهيأت له الفكرة تامة ناضجة فأملى علي مقالة «أرملة حكومة»، وبعث به إلى الرسالة في البريد المستعجل؛ ليدرك موضعه في عدد الأسبوع بديلا من «آية الأدب ...»
وقلت للرافعي وقد فرغ من إملاء هذا المقال: «أراك لم تنصف صاحبنا المهندس فيما كتبت عنه وما نقلت من رأيه وما رددت به، إنه ليعتذر إليك بعذر لم أجد جوابه فيما أمليت علي، لقد صدق؛ فمن أين له ... من أين له هو ...؟ إنه لحري أن يوجه العتب والملامة إلى آباء الفتيات، وإلى هذه التقاليد التي تفرض على الشاب الذي يريد الزواج ما لا طاقة له به إلا أن تكون له معجزة مالية!»
فضحك الرافعي وقال: «أتراه كان يتحدث بلسانك ...؟ لقد أخفيتها عني يوم سألتك، وليس ثمة ما يمنعني أن أصحبك غدا إلى حميك لأطلب إليه أن يعفيك من هذه المعجزة المالية.»
ومضت أيام، ثم دعاني ليملي علي «قصة زواج»، وكانت هذه القصة هي جواب ما سألته تأخر إلى ميعاد، وكانت هي أول ما أنشأ الرافعي من القصص لقراء الرسالة.
قصص الرافعي
أراني وقد بلغت هذا الحد، مسئولا أن أتحدث عن قصص الرافعي، وكيف كان يؤلفها، وأول ما عالج منها، وطريقته فيها.
لم يعالج الرافعي القصة - فيما أعلم - قبل قصة سعيد بن المسيب إلا مرتين، أما أولاهما ففي سنة 1905، وكانت مجلة المقتطف قد سبقت بين الأدباء جائزة لمن ينشئ أحسن قصة مصرية، فأنشأ الرافعي قصته الأولى وكان عنوانها «الدرس الأول في علبة كبريت» ولم يحصل بها على جائزة، وقد أعاد نشرها بعد ذلك بثلاثين سنة بعنوان «السطر الأخير من القصة»
1
وسأتحدث عنها في موضعها.
أما القصة الثانية: فأنشأها في سنة 1925 بعنوان «عاصفة القدر» ونشرتها المقتطف أيضا،
2
ثم كانت قصة سعيد بن المسيب في سنة 1934.
على أن ثمة فرقا بين هذه القصة والقصتين الأوليين؛ ذلك أن هاتين القصتين هو أنشأهما إنشاء، فلم يعتمد فيهما على حادثة في التاريخ أو حديث في كتاب، أما قصة سعيد بن المسيب فلها أصل معتمد في التاريخ فلم يكن له في إنشائها إلا بيان الأديب وفن القاص، وكانت نواة فمهد لها واستنبتها فنمت وازدهرت.
وفي الأدب القديم نويات كثيرة من مثل هذه النواة لم يتنبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لها لوجدوا معينا لا ينضب كان حريا بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فنا جديدا من غير أن يقطعوا الصلة بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي، وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين ، لا إلى الاستعارة والاستجداء من أدب الغرب والجري في غبار كتابه وشعرائه. ... أقول: إن الرافعي لم يكن يعرف عن فن القصة شيئا يحمله على معالجتها ويغريه على العناية بها، وقد قدمت القول بأنه كان يسخر ممن يقصر جهده من الأدباء على معالجة القصة ولا يراه أهلا لأن يكون من أصحاب الامتياز في الأدب؛ إذ لم تكن القصة عنده إلا ضربا من العبث ولونا من ألوان الأدب الرخيص لا ينبغي أن تكون هي كل أدب الأديب وفن الكاتب، وقد كان يعيب علي لأول عهدي بالكتابة أنني لا أكاد أكتب في غير القصة، وأنني أجعل بعض همي في دراسة الأدب أن أقرأ كل ما أستطيع أن أقرأ عن فن القصة وأسلوبها وطرائقها ومذاهب الكتاب فيها، وكان يرى ذلك مني تخلفا وعجزا ونزولا بنفسي غير منزلتها بين أهل الأدب!
على أنه إلى ذلك كان يجد لذة في قراءة القصة على أنها لون من ألوان الرياضة العقلية لا باب من الأدب، كما يشاهد رواية في السيما أو يقرأ حادثة في جريدة، وأحسب أنه كان يعتقد - على أنه كان لا يعرف التواضع في الأدب - بأنه لا يحسن أن ينشئ قصة ولا ينبغي له، وأحسبه أيضا حين أنشأ قصة سعيد بن المسيب لم يكن يقصد إلى أن تكون قصة، ولكنها هكذا جاءت على غير إرادته فكأنما اكتشف بها نفسه ...
والحقيقة أن الرافعي كان يملك طبيعة فنية خصبة في القصة، يعرفها من يعرفه في أحاديثه الخاصة بينه وبين أصحابه حين كان يعتمد العبث والتسلية، فيطوي من الحديث وينشر، ويكتم ويوري، ويورد الخبر غير مورده، ويهزل ولا يقول إلا الجد، ويطوي النادرة إلى آخر الحديث، ويقول في آخر المقال ما كان ينبغي أن يكون في أوله.
وكان له إلى ذلك تعبير رشيق وفكاهة رائقة يخترعها لوقتها لا تملك معها إلا أن تضحك وتدع التوقر المصنوع، وإن له في هذه الفكاهة لمذاهب عقلية بديعة تحس فيها روحه الشاعرة وحكمته المتزنة وسخريته اللاذعة، ويكاد كثير من مقالاته يكون برهانا على ذلك، فقلما تخلو إحداها من دعابة طريفة أو نكتة مبتكرة. ... وهذه هي كل أدوات القاص الموفق، فما ينقصه إلا أن يدرس فن القصة ومذاهبها ليكون فيها من السابقين المبرزين، ولكن الرافعي كان يجهل طبيعة نفسه، وكان له في كتاب القصة ما قدمت من الرأي، فكان تخلفه من هذين!
وحتى فيما أنشأ من القصص بعد ذلك، لم يكن له مذهب فني خاص يحتذيه ويسير على نهجه، ولكنه كان يقص كما تلهمه فطرته غير ملق باله إلى ما رسم أهل الفن من حدود القصة وقواعدها، فإننا بذلك لنستطيع أن ندرس طبيعته وطريقته القصصية خالصة له وحده، غير متأثر فيها بمذهب من مذاهب المتقدمين أو المتأخرين من كتاب القصص، على ما قد يكون فيها من نقص وتخلف، أو ابتكار وتجديد.
وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالات في أسلوب جديد، فهو لا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي ثم تأتي الحادثة من بعد، فكان إذا هم أن ينشئ قصة من القصص، جعل همه الأول أن يفكر في الحكمة التي يريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ - على طريقته في إنشاء المقالات - فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، كان بذلك قد انتهى إلى موضوعه فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء، وسواء عليه بعد ذلك أن يؤدي موضوعه على طريقة المقالة أو على طريقة القصة، فكلاهما ينتهيان به إلى هدف واحد، فإذا اختار أن تكون قصة تناول كتابا من كتب التراجم الكثيرة بين يديه فيقرأ منها ما يتفق، حتى يعثر باسم من أعلام التاريخ، فيدرس تاريخه، وبيئته، وخلانه، ومجالسه، ثم يصطنع من ذلك قصة صغيرة يجعلها كالبدء والختام لموضوعه الذي أعده من قبل، وإنه ليلهم أحيانا ويوفق في ذلك توفيقا عجيبا، حتى تأتي القصة وكأنها بنت التاريخ، وما للتاريخ فيها إلا نادرة يرويها في سطور، أو إلا أسماء الرجال ...
على أن البديع في ذلك هو قدرة الرافعي - يرحمه الله - على أن يعيش بخياله في كل عصر من عصور التاريخ، فيحس إحساسه، ويتكلم بلسان أهله، حتى لا يشك كثير ممن يقرأ قصة من قصص الرافعي في أنها كلها صحيحة من الألف إلى الياء.
وأحسب أن الرافعي لم يتخذ هذه الطريقة في تأليف القصص عن عمد واختيار، فلم يكن ثمة ما يدفعه إلى معالجة القصة واختيار طريقة فيها - ورأيه في القصة رأيه - ولكنه مذهب اتفق له اتفاقا بلا قصد ولا معاناة، وإنما تأتى له ذلك من طريقته التي أشرت إليها في الحديث عنه عند ما يهم بالكتابة، فقد أسلفت القول أنه كان يحرص على أن يعيش وقتا ما قبل الكتابة في جو عربي، فيتناول كتابا من كتب الأدب القديم يقرأ منه فصلا ما قبل أن يشرع في إملاء مقاله، فمن هنا كان أول الطريق إلى مذهبه في القصة، ولكل شيء سبب، وأحسبه لما هم أن يكتب عن «المعجزة المالية» في تقاليد الزوج وعن فلسفة المهر، وقد اجتمعت له الفكرة في ذلك، تناول - كعادته - كتابا من كتب العربية يقرأ فيه ما تيسر، فاتفق له في مطالعته أن يقرأ قصة سعيد بن المسيب والوليد بن عبد الملك وأبي وداعة، فرآها أشبه بموضوعه وفيها تمامه، فبدا له أن يؤدي موضوعه هذا الأداء فكانت قصة، وأذكر أنه لما دعاني ليملي علي هذه القصة قال لي في لهجة الظافر: «... لقد وقعت على نادرة مدهشة من التاريخ تتحدث عن فلسفة المهر حديثا لا أعرف أبلغ منه في موضوعه ...»
فمن ذلك أعتقد أن أول هذا المذهب في القصة كان اتفاقا غير مقصود صادف طبيعة خصبة ونفسا شاعرة فكان فنا جديدا.
وأكثر قصص الرافعي من بعد على هذا المذهب، على أن لكل قصة من هذه القصص - أو لأكثرها - أصلا يستند إليه من رواية في التاريخ أو خبر مهمل في زاوية لا يتنبه له إلا من كان له مثل طبيعة الرافعي الفنية وإحساسه ويقظته، على أن أهم ما أعانه على ذلك هو عندي صلته الروحية بهذا الماضي، وشعوره بالحياة فيه كأنه من أهله ومن ناسه، فإن له بجانب كل حادثة وكل خبر من أخبار ذلك الماضي قلبا ينبض كأن له فيه ذكرى حية من ذكرياته تصل بين ماضيه وحاضره، فما يقرؤه تاريخا كان وانطوت أيامه، ولكنه يقرأ صفحة من ماضيه ما يزال يحس فيها إحساس الحي بين أهله، فما أهون عليه بعد أن يترجمها من لغة التاريخ إلى لغة الأحياء!
وقد كنت على أن أرد كل قصة من قصص الرافعي إلى أصلها من التاريخ وأنسبها إلى راويها الأول؛ ليكون النموذج واضحا لمن يريد أن يحتذي الرافعي ليتمم ما بدأ على مذهبه في تجديد الأدب العربي، ولكني وجدت ذلك أشبه بأن يكون فصلا من الأدب، ليس موضعه في هذا الكتاب.
عود على بدء
كان فيما تحدث به صديقنا المهندس الأديب محمد أ. إلى الرافعي من أسباب عزوبته، أن الزواج عنده حظ مخبوء، فإنه ليخشى أن يحمل نفسه على ما لا تحتمل من العنت والمشقة في سبيل إعداد ما يلزم للزواج، ثم تكون آخرة ذلك أن يجلوا عليه فتاة دميمة لا يجد في نفسه طاقة على معايشتها ما بقي من حياته، أو فتاة فاسدة التربية لا يدخل بها على زوجة، ولكن على معركة ...
وقد ظل هذا القول عالقا بذهن الرافعي يلتمس الوسيلة إلى تفنيده والرد عليه، حتى وقع على قصة أحمد بن أيمن «كاتب ابن طولون»، فأنشأ مقالة «قبح جميل» وهي القصة الثانية مما أنشأ الرافعي لقراء الرسالة، وهي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالاته في الزواج، وفيها توجيه معتبر للحديث الشريف: «سوداء ولود خير من حسناء لا تلد!» يسلك هذه المقالة في باب «الأدب الديني» الذي أشرت إليه في بعض ما سبق من الحديث.
ثم كانت الحلقة السادسة هي قصة «رؤيا في السماء» وتتصل بما سبق من المقالات بأسباب، على أنها تتحدث عن الزواج بمعناه الأسمى، وتدعو إليه الدعوة الإنسانية التي تعتبر الزواج بابا من الجهاد لسعادة البشرية كلها ...
في هذه المقالة، لا أعرف سببا خاصا من مثل ما قدمت دعاه إلى إنشائها، ولكنها جملة الرأي وخلاصة الفكر وأثر اشتغال الواعية الباطنة قرابة شهرين بموضوع الزواج، فهي من الموضوع كالهامش والتعليق، أو الحكم بعد المداولة، أو هي الصفوة الصريحة بعدما يذهب الزبد وتنطفئ الرغوة ...
وقد ترجم هذه القصة إلى الفرنسية الأديب المرحوم فليكس فارس، وكانت هي أول الصلة بينه وبين الرافعي ثم اتصل بينهما الود. •••
لما أنشأ الرافعي «قصة زواج» تحدث بها الأدباء في مجالسهم وتضاعفت رسائلهم إليه معجبين مستزيدين، وتضاعف إعجابه هو أيضا بنفسه ... فاستزاد واستعاد، والتزم الكتابة على أسلوب القصة، فكان على هذا النهج أكثر رسائله من بعد.
وجلست إليه ذات مساء نتحدث حديثنا، فقال وهو يدفع إلي طائفة من رسائل القراء: «اقرأ يا شيخ سعيد ... أرأيت مثل هذا؟ أيحق لأحد أن يزعم لنفسه القدرة على خير مما أكتب في موضوعه؟ أيملك كاتب أن يرد علي رأيا من الرأي؟»
ومضى في طرائق من مثل هذا القول عن نفسه وعن طائفة من خصومه، فعرفت أنه في لحظة من تلك اللحظات التي تتنبه فيها النفس البشرية إلى طبيعتها، فتؤمن بنفسها من دون كل شيء مما خلق الله، إيمانا هو بعض الضعف الإنساني في طبيعتنا البشرية، وهو بعض أسباب القوة في النابغين من أهل الآداب والفنون! ذلك الإيمان الذي نسميه أحيانا صلفا وعنجهية وكبرياء، ونسميه في النابهين والعظماء ثقة بالنفس وشعورا بالقوة!
وكان يلذني في أحيان كثيرة أن أشهد الرافعي في مثل هذه الساعة من ساعات الزهو والإعجاب بالنفس، وأجد في ذلك متاعا لنفسي وغذاء لروحي؛ لأن الرافعي بما كان فيه من طبيعة الرضا والاستسلام للواقع كان رقيقا متواضعا، فلا تشهده في مثل هذه الحال إلا نادرة بعد نادرة، فإذا شهدته كذلك مرة فقد شهدت لونا طريفا من ألوانه، يوحي إلى النفس بفيض من المعاني، وكأنما هو يعدي سامعه من حالته فيحس في نفسه قوة فوق قوته، وكأن شخصا جديدا حل فيه ... ... وسرني أن أجد الرافعي كذلك في تلك الليلة، فأصغيت إليه ومضى في حديثه، فلما انفض المجلس ومضيت إلى داري، وسوس لي الشيطان أن أعابثه بشيء ... فكتبت إليه رسالة بإمضاء «آنسة س»، أرد عليه رأيه في قصة سعيد بن المسيب، وأعيب ما صنع الرجل بابنته، وعمدت في كتابة هذه الرسالة إلى تقليد أسلوب من أسلوب الدكتور طه، يعرفه قراء الرسالة ويعرفه الرافعي ...
وبلغته الرسالة فقرأها، فنبهته إلى ما كان فيه من أمسه، ووقع في نفسه أن مرسلها إليه هو تلميذ أو تلميذة من تلاميذ طه موحى إليه بما كتب، فتحمس للرد، وأنشأ «ذيل القصة وفلسفة المهر»، وجعل أول مقاله رسالة «الآنسة س» وراح يسخر منها ومن صاحب رأيها سخرية لاذعة، ثم عاد إلى موضوع فلسفة المهر.
وقرأ صاحب الرسالة المقالة فرأى فيها تعريضا بصاحبه لم يرض عنه، فكتب إلى الرافعي يطلب إليه أن يوافق على حذف مقدمة المقالة؛ حرصا على ما بين الرسالة والدكتور طه من صلات الود ... وكان له ما طلب، فنشرت المقالة في موعدها خالية من هذا الجزء، ولكنها لم تخل من إشارات مبهمة إلى أشياء غير واضحة الدلالة، وكذلك نشرت من بعد في وحي القلم. •••
ثم كانت قصة «بنت الباشا» وهي السابعة من مقالاته في الزواج، وقد ألهمه موضوعها صديقه «الزبال الفيلسوف» الذي تحدث عنه في هامش هذه المقالة، وهذه المقالة فيما ترمي إليه تعتبر متممة لموضوع «قصة زواج» فهي دعوة اجتماعية لآباء الفتيات إلى الانطلاق من أسر التقاليد في شئون الزواج، وفيها إلى ذلك شيء من الحديث عن «فلسفة الرضا» التي أسلفت القول عنها في «حديث قطين».
أما هذا الزبال الذي نوه به الرافعي في أكثر من مقالة، فهو من عمال قسم النظافة في «بلدية طنطا»، وكان عمله قريبا من دار الرافعي في الشارعين اللذين يكتنفانها، وكان إذا فرغ من عمله في الكنس والتنظيف اتخذ له مستراحا على حيد الشارع تجاه مكتب الوجيه محمد سعيد الرافعي، فيقضي هناك أكثر أوقات فراغه، نائما أو محتبيا ينظر إلى الرائحين والغادين من أهل الثراء والنعمة، أو شاديا يصدح بأغانيه، فإذا جاع بسط منديله على الأرض فيأكل مما فيه، ثم يشعل دخينة ويعود إلى حبوته يتأمل ...
كان هذا الزبال صديق الرافعي! بينهما من علائق الود وصفاء المحبة ما بين الصديقين، وكان الرافعي يسميه «أرسطو الجديد»، وأول هذه الصلة بينهما أن الرافعي كان يلذه أحيانا أن يجلس على كرسي في الشارع أمام مكتب أخيه، حيث اتخذ الزبال «محله المختار»، فكان يوافقه في مجلسه ذلك على ما قدمت من وصفه، فيرفع يده إلى رأسه بالتحية وهو يبتسم، ثم يجلس، وكان يحادثه أحيانا في بعض شئونه يلتمس بعض أنواع المعرفة ... ويكرمه ويبره، وأنس إليه الزبال، فكان يسأل عنه إذا غاب، وينهض لتحيته إذا حضر، وصار بعض عادات الرافعي من بعد أن يسأل عن الزبال حين يغيب، وأن يشتري له كلما لقيه، دخائن بنصف قرش، مبالغة في إكرامه ...
وكان الرجل أميا، ولكن الرافعي كان يفهم عنه من حركات شفتيه، وأحيانا يستدعي بينهما من يترجم له حديث الزبال مكتوبا في ورقة، وقد كنت الترجمان بينهما مرة، وكان الرافعي يحرص على هذه الورقات بعد نهاية الحديث، كما يحرص الباحث على مطالعة أفكار من غير عالمه!
ومما كان يدور بين الرافعي وصديقه هذا من الحديث، عرف الرافعي طائفة من ألفاظ اللغة العامية كان يجهلها، وطائفة من الأمثال، ونبهه ذلك من بعد إلى العناية بجمع أمثال العامة، فاجتمع له منها بضع مئات بمصادرها ومواردها، وأحسبها ما تزال محفوظة بين أوراقه، كما أفاد الرافعي من صداقة هذا «الفيلسوف الطبيعي» معاني وأفكارا جديدة في فلسفة الرضا لم تلهمه بها طبيعته.
ولهذا الزبال صنع الرافعي أكثر من أغنية، أعرف منها الأغنية التي نشرها لقراء الرسالة في العدد 71 سنة 1934 وأغنية أخرى دفعها إلى الآنسة ماري قدسي معلمة الموسيقى بوزارة المعارف لتضع لها لحنا يناسبها.
وقد كان في نفس الرافعي أن يكتب مقالة عن هذا الزبال يتحدث فيها عن فلسفته الطبيعية العملية، وكان محتفلا بهذه المقالة احتفالا كبيرا، حتى إنه هم بموضوعها أكثر من مرة ثم عداها إلى غيرها حتى تنضج، وقد هيأ لها ورقة خاصة كان يجمع فيها كل ما يتهيأ له من الخواطر في موضوعها ليستعين به عند كتابتها، ولكن الموت أعجله عن تمامها، وأحسب أن هذه الورقة ما تزال بين ما خلف من الأوراق. •••
لم تكن قصة «بنت الباشا» هي آخر حديثه عن الزواج، وإن كانت آخر ما أنشأ في هذا الموضوع بخصوصه، ثم بقي عنده طائفة من المعاني والخواطر في موضوع الزواج والمرأة، جاءت مبعثرة في طائفة من المقالات من بعد، ومنها مقالة «احذري»، وهي قصيدة من النثر الشعري مترجمة عن الملك، تقع منزلتها بإزاء القصيدة المترجمة عن الشيطان في مقالة «لحوم البحر».
وكان الرافعي في هذه الفترة قد اصطنع مودة بينه وبين طائفة من الشبان اللاهين، كانت تجمعهم قهوة «لمنوس» في طنطا للعبث واللهو والمجانة، فتألفهم بالنادرة والفكاهة ليجمعهم إليه فيستمع إلى أحاديثهم في شئون المرأة والزواج، وقد قدمت القول في بعض ما سبق من هذه الفصول بأن ذهن الرافعي كما كان سريع الالتفات إلى معاني المرأة، وكانت أعصابه قوية الانفعال بحديث النساء، حتى لتراه وهو يستمع إلى محدثه إذ يتحدث عن الحب والمرأة كأنما يخيل إليه أنه يرى قصة ما يسمع، وأنه يشهد حادثة لا حديثا، ثم يزين له خياله ما يزين فيضيف من وهمه إلى ما سمع ما لم يسمع، فتراه كما ترى الفتى المراهق، يجد حديث الغزل والحب حريقا في دمه وثورة في أعصابه لا حديثا في أذنيه ... فيستزيد مما يسمع وهو صاغ ملذوذ، فيحمل محدثه بذلك على الإطناب والاسترسال حتى ينفض جملة ما في نفسه من رواية الواقع أو مبتدعات الخيال ...!
وعلى شدة إحساس الرافعي بمعاني «الجنس» إلى هذا الحد، كان بإيمانه وخلقه وتدينه واعتصامه بالوحدة، قليل الخبرة ضئيل المعارف في هذا الباب، فكان له علم جديد في كل ما يسمع من هؤلاء الفتيان من قصص ما بين الشبان والشابات من ناشئة هذا الجيل، وكان هذا العلم الجديد يسرع به إلى سوء الظن بكل فتى وكل فتاة، وكان هذا الظن مذهبه الاجتماعي الذي يعرفه القراء .
من أحاديث هؤلاء الفتيان، كان إليه وحي المعاني في قصيدة «احذري»، كما كانت توحي إليه حوادث بعض الصحف وأحاديث بعض المجلات بكثير من المعاني وكثير من الموضوعات؛ إذ كان يحرص على أن يقرأ كل ما تنشره الصحف والمجلات من أحاديث الهوى والشباب ومصارع الأخلاق. •••
وكان الرافعي يختلف في طنطا إلى بيوت طائفة من مهاجرة لبنان، كان بينه وبينهم صداقة ومودة، فكان يزورهم بين أهليهم، فيكرمونه ويتسعون له ويحفون به، والرافعي محدث لبق ظريف المسامرة، فكانت مجالسه هناك تطول ساعات يتحدث إليهم ويتحدثون إليه ... وفي بيوت المتمصرين من أهل لبنان عادات غير ما نعرف في بيوتنا، فكان الرافعي يجد هناك جوا يوحي إليه ويمده بعلم جديد.
وأنا لم أصحب الرافعي في طنطا إلى «زيارة مصرية» إلا فيما ندر، على أني كثيرا ما كنت أصحبه في تلك الزيارات!
وأعترف بأن الرافعي لم يكن يقصد إلى زيارة أصدقائه هؤلاء لغرض مما يتزاور من أجله الأصدقاء، ولكنها كانت زيارات يقصد بها إلى معنى مما يتصل بفنه وأدبه، وأحسب أن كثيرا ممن كان يزورهم ويزورهن كن يعرفن له ذلك فيهيئن له أسبابه، وكثير من نساء لبنان أحفل بالأدب من رجال في مصر!
وقد صحبته مرة إلى زيارة أسرة الآنسة «ق» وهي فتاة ذكية من أهل الفن والأدب، وقد ألح علي يومئذ إلحاحا شديدا أن أصحبه، ولم أكن أعلم ما يقصد إليه بهذه الزيارة إلا أن تكون تسلية بريئة ومتاعا من متاع أهل الفن.
وكنت في ذلك اليوم صانعا أغنية عامية في معنى من معاني الشباب تعبر عن حال من حالي في تلك الفترة، ودفعتها إلى الرافعي لينظر فيها، فلما قرأها طواها وجعلها في جيبه ... ... وصحبت الرافعي إلى حيث يريد، فاستقبلتنا الفتاة وأمها وشاب من قرابتها، ثم لم يكد يستقر بنا المجلس، وأهل الدار حافون بنا يبالغون في إكرامنا، حتى أخرج الرافعي الورقة من جيبه فدفعها إلى الفتاة ...
وقرأت الفتاة الأغنية، ثم ردتها إلى الرافعي وهي تقول: «جميلة! شعر عاشق !»
قال الرافعي وهو يشير إلي مبتسما : «إنها أغنيته!»
قالت: «إيه ...! أعاشق هو؟»
قال الرافعي: «نعم! ... ومن أجلك صنع هذه الأغنية!»
ومضت فترة صمت، وصبغت حمرة الخجل وجه الفتاة، وتولتني الدهشة مما سمعت فما استطعت الكلام، ونظر الرافعي إلي نظرة طويلة لم أفهمها، وكان بي من الحياء أضعاف ما بالفتاة ... وكانت دعابة غير مألوفة ولا منتظرة، أوقعتني في كثير من الحيرة والارتباك ...
وقطعت الأم هذا الصمت الثقيل قائلة: «أغنية رقيقة!»
وردد الشاب صدى صوتها يقول: «... رقيقة!»
وثبت في مكاني لا أتحرك، ولا أرى أمامي غير تلك الابتسامة الخبيثة على شفتي الرافعي ...
ثم نهضت الفتاة إلى الغرفة الثانية وعادت بطبق الحلوى فقدمته إلي، ثم إلى الرافعي، واتخذت مجلسها إلى جانبي ... وعاد الحديث ألوانا وأفانين بين الجماعة وأنا صامت في مجلسي لا أكاد أفهم ما يدور حولي من الحديث!
وجعلت أسائل نفسي وأكاد أنشق غيظا: «ترى ماذا حمل الرافعي على هذا القول ...؟»
فلما انفض المجلس وخرجنا إلى الطريق نظرت إلى الرافعي مغضبا أسأله جلاء السر، فضحك ملء فمه وهو يقول: «قصة طريفة ... لقد عقدنا العقدة فانظر في طريقة للحل ... سيكون فصلا أدبيا ممتعا يا شيخ سعيد، تكون أنت مؤلفه وعلي أن أرويه، لقد سئمنا الخيال فالتمسناك وسيلة إلى بعض الحقيقة ...»
وغاظني حديث الرافعي أكثر مما غاظني الذي كان منه، فتمردت عليه، ولكن الرافعي عاد يضحك ويقول: «أتراك - إن أبيت - تستطيع أن تمنع نفسك الفكر فيها وأن تمنعها؟ لقد بدأت القصة فما بد من أن تكون لها خاتمة!»
وضقت بهذه الدعابة وثارت نفسي فأخشنت القول، فزاد به الضحك وهو يقول: «وهذه الثورة أيضا هي فصل من فصول هذه الرواية ...!»
وأعداني مرح الرافعي وانبساطه فضحكت، ثم لم أجد للجدال فائدة فسكت على غيظ ضاحك، ولقيت الفتاة بعدها مرتين فتناسيت ما كان ولم أسأل نفسي عن شيء من خبرها ... ومضى الزمان، ثم جاءني الرافعي يوما يقول: «إن بينك وبين صديقنا الأديب «ج» لشيئا!» قلت: «ماذا؟»
قال: «أحسبه يغار منك على خطيبته الآنسة «ق»، فإنه لا يعلم أن بينكما عاطفة ...!»
وقال لي حمي ولم تكن ابنته في داري بعد: «أتراك كنت مع الرافعي أمس في زيارته فلانة؟» فتوجست من سؤاله شيئا ...
وكادت تكون قصة كما أراد الرافعي، ولكني حسمت أسبابها فرارا بنفسي! ••• ... من مثل هذه الحادثة كان يلتمس الرافعي موضوعاته ويبدع معانيه في المرأة والحب والزواج ومشاكل الأسرة، ومن هذه المجالس التي كان يصطنعها أو يسعى إليها ويهيئ أسبابها، كانت تنجلي له الفكرة ويومض الخاطر وتتشقق المعاني، ومن هذا الجو زخرت نفسه بالعواطف النابضة التي ألهمته من بعد أن ينشئ ما أنشأ من القصص لقراء الرسالة، ومنها كانت قصص: الأجنبية، وسمو الحب، والله أكبر، واليمامتان، وغيرها، وما أعني أن ذلك كان يملي عليه القصة والموضوع، إنما كان يمده بالمعاني والخواطر حتى يملأ نفسه ويوقظ حسه، فما تزال هذه الخواطر والأفكار مضمرة في الواعية تزيد وتتوالد وينضم شيء منها إلى شيء حتى يأتي وقتها، فإذا هم بموضوع مما يتصل بهذه الخواطر المضمرة انثالت عليه المعاني انثيالا حتى يتم الموضوع تمامه على ما يريد. •••
ولما قص الرافعي قصة «الأجنبية» وحكى حكايتها على لسان ولده الدكتور محمد، أحس بالتعب والملل، وراجع ما كان من عمله في الأشهر الستة الماضية منذ بدأ يعمل في الرسالة وما عاد عليه، فضاقت نفسه وبرمت به، وأحس في نفسه شعورا جديدا ليس له به عهد، وقال لنفسه وقالت له، وثقل جسمه في الفراش مما يحمل في صدره من هم وما يضني جسده من علة، وخفت روحه إلى سمواتها، وتنازعته قوتان ... وهم أن يكتب إلى الأستاذ صاحب الرسالة ليعفيه من الاستمرار في العمل ... وطال الحديث بينه وبين نفسه فأرقه ليلة ...
وتركته وروحت إلى داري وهو شاك متبرم ينكر موضعه من الحياة ومكانه بين أهل الأدب. فلما كان عصر اليوم التالي دعاني ليملي علي «قلت لنفسي ... وقالت لي ...»
من أراد أن يعرف الرافعي العرفان الحق، فليقرأ هذا الحديث يعرف نفسه الصريحة على فطرتها، ثم يعرف مذهبه في الأدب وهدفه في الحياة.
إن غاية ما ينشده الباحث عندما يهم بالبحث في حياة إنسان له أثر في تاريخ الحياة أو تاريخ الأدب، أن يعرف مضمر نفسه من ثنايا أعماله أو من حديث معاصريه، وإنه مع ذلك ليخطئ أو يصيب سبيل المعرفة، ولكن ها هنا إنسانا يتحدث عن نفسه وتتحدث نفسه إليه، حديثا كله صدق لا اختراع فيه ولا تزوير، ولا سبيل فيه إلى الخطأ.
وأشهد أني رأيته قبل أن يملي علي الحديث وإن في وجهه لمعانيه قبل أن يكون كلاما، فما رأيته ورأيت حديثه من بعد إلا كما تصور معركة في حكاية وصف، هذه هي هذه، وكانت حركات صامتة فصارت عبارة ناطقة.
وأكثر معانيه في هذا الحديث قديم في نفسه، وقد نظم شيئا منها قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في قصيدة نشرها في مجلة المقتطف. ... وكما تثوب إلى المحزون نفسه إذا صرح بشكاته إلى صاحب سره، هدأت نفس الرافعي بعد إملاء هذا المقال وثاب إلى الطمأنينة والرضا، وكأنما نفض همومه وأحزانه في هذه الكلمات وكانت تثقل رأسه، أو كأنما كان يستمع إلى مداولة الرأي في محكمة الضمير بين نفسه وهواه، فما هو إلا أن استوعب ما قال وقالت حتى اطمأنت نفسه إلى الحكم الأخير، وانتصرت الروح السامية على ما كان ينازعها من أهواء البشرية ...
ثم كان هلال رمضان، فأنشأ مقالة «شهر للثورة» وهي السابعة مما أنشأ من المقالات الدينية لقراء الرسالة. •••
كان خير أوقات الكتابة عند الرافعي في المساء، حين يعتدل الجو، وتسكن الحركة، وتخف المعدة؛ إذ كان عمله في المحكمة يملأ بياض نهاره، فلما كان رمضان سنة 1353 / 1934 الميلادية سألني: «كيف نصنع يا شيخ سعيد في هذا الشهر، وأي أوقاته نجعلها للكتابة؟» قلت: «فانظر فيما تراه خيرا لك، ولست أرى ما يمنع أن تستمر على عادتك فتجعل مجلسك للكتابة بعد العشاء.» قال: «لا سبيل إلى ذلك والمعدة مثقلة بعد خلاء، ولكني سأحاول أن أكتب في العصر؛ فإنه حيثما امتلأت المعدة، ثقل الرأس، فلعل فراغها في النهار أن يشحذ الذهن ويصقل الفكر.»
وحاول أن يكون ذلك فلم يقدر عليه، ومضى يوم ويوم ويوم، وانتهى الأسبوع الأول من رمضان ولم يكتب شيئا للرسالة، واستحيا أن يعتذر، فلم طائفة من «فتات المكتب» وجعلها الجزء الثاني من «كلمة وكليمة» وبعث بها.
في هذه الكلمات المنشورة بالعدد 76 كلمات عن السياسة تفسرها الحالة السياسية في مصر في أوائل عهد وزارة المرحوم نسيم، وفيها حديث عن الزكاة والصوم، وفيها كلمات عن الزواج والمرأة، وفيها رسائل إلى «فلانة»!
ثم كانت مقالة الأسبوع التالي هي قصة «سمو الحب».
أشياء ثلاثة أملت عليه موضوع هذه القصة: رمضان، وكتاب الأغاني لأبي الفرج، وما يسمع من أحاديث الشبان عن الحب.
أما رمضان فسما بروحه وأمده بما في القصة من المعاني الدينية التي حكاها على لسان مفتي مكة وإمامها «عطاء بن أبي رباح» والعاشق الزاهد «عبد الرحمن القس بن عبد الله بن أبي عمار».
وأما كتاب الأغاني فأعطاه صلب القصة وأساس البناء في سطور يرويها من خبر «سلامة المغنية» جارية يزيد بن عبد الملك، وقد وقع الرافعي على هذا الخبر اتفاقا في إحدى مطالعاته في كتاب الأغاني.
وأما أحاديث الشبان فحفزته إلى إنشاء هذا الفصل ليضربه مثلا لسمو الحب يصحح رأي الناس فيه ويكون منه لشباب الجيل درس وموعظة.
في هذا الفصل يجد كل سائل جوابه إن كان يعنيه أن يعرف كيف يجتمع الدين والمروءة والحب في قلب رجل كالرافعي يعرفه الناس فيما يكتب شيخا من شيوخ الدين فيه تحرج وخشية، ويعرفه من يعرفه من أصحابه مجنون ليليات وقيس لبنيات! ... ولكي ينتفع الرافعي بوقته في رمضان كان يتخفف من طعام الفطور، ثم يجلس مجلسه بعد العشاء للإملاء، فإذا فرغ من الكتابة أو الإملاء تناول السحور، فيعوض فيه بعض ما فاته من فطوره ثم ينام!
على أنه لم يجد راحته في هذا النظام أيضا، فلما كان الأسبوع الثالث لم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فعاد إلى أوراقه القديمة يبحث بينها عن شيء يصلح للنشر ليستريح أسبوعا من العمل، فوقع على ورقات من مجلة المقتطف في سنة 1905 كان قد نشر بها قصته الأولى : «الدرس الأول في علبة الكبريت»، فعاد إلى قراءتها، فلما فرغ من القراءة التفت إلي قائلا: «هذه قصة ينقصها السطر الأخير.» قلت: «وماذا يكون هذا السطر؟» قال: «اسمع! هذا غلام سرق علبة كبريت منذ ثلاثين سنة فحوكم بها وحكم عليه ...» قلت: «نعم!» قال: «فما تظن هذا الغلام الآن بعد هذه الثلاثين؟» قلت: «أراه الآن رجلا يفلح الأرض أو يعمل بالفأس في حجارة أبي زعبل!»
قال: «هذه الأخيرة أمثل به، لقد تلقى الدرس الأول في علبة كبريت فقاده إلى الحبس! فهل تراه بعد هذه الثلاثين إلا قد أتم دروسه ووقف على عتبة المشنقة ...؟ اكتب ... اكتب ...»
وأملى علي مقالة «السطر الأخير من القصة».
لم يغير الرافعي هذه المقالة عن أصلها فيما عدا الخاتمة وعبارات قليلة، وزاد عليها شيئا من المحاورة بين الغلام وقاضيه، وما كان حرصه على بقائها كذلك إعجابا بها، لكن كأنما ردته هذه المقالة إلى شيء من ماضيه تروح فيه من روح الصبا والشباب؛ فمن ذلك كان إبقاؤه عليها ليبقى فيها روح الصبا والشباب!
وفي الأسبوع التالي - وهو الأسبوع الأخير من رمضان - أملى علي قصة «الله أكبر».
وهي بسبيل مما سمع من أحاديث الشبان عن الحب، ورقية ثانية من رقى الحب الداعر، كانت الرقية الأولى هي كلمة «برهان ربه» في قصة سمو الحب، وكانت الرقية هنا هي كلمة «الله أكبر».
وأول الأمر في هذه المقالة أنني كنت جالسا إلى الرافعي في القهوة نتحدث في شأن ما، وساقنا الحديث مساقه إلى بعض شئون العيد، ولم يكن بيننا وبين عيد الفطر إلا أيام، وقال الرافعي: «... وأنا لو ارتد إلي السمع لن يطربني شيء من النشيد ما كان يطربني في صدر أيامي نشيد الناس في المساجد صبيحة يوم العيد: الله أكبر الله أكبر! يعج بها المسجد ويضج الناس ... ليت شعري! هل يسمع الناس هذا التكبير إلا كما يسمعون الكلام؟ الله أكبر! أما إنه لو عقل معناها كل من قالها أو سمع بها لاستقامت الحياة على وجهها ولم يضل أحد!»
ومضى يتحدث عن روح المسجد وفلسفة التكبير عند الأذان وفي كل صلاة، فما فرغ من الحديث حتى طرقنا زائر من رواد القهوة فحيا وجلس ...
وتنقل الحديث بيننا من فن إلى فن إلى فنون ...
وتهيأ موضوع القصة في فكر الرافعي، فلما دعاني ليمليها علي لم يجد في نفسه إقبالا على العمل، فوقف في الإملاء عند منتصف المقالة ونسأ البقية إلى غد، ثم كان تمامها.
وفي صبيحة يوم العيد ذهب على عادته إلى المقبرة لزيارة أبويه، وقد كان في الرافعي حرص شديد على ذكرى أبويه، فهما معه في كل حديث يتحدث به عن نفسه، وزيارة قبرهما فرض عليه كلما تهيأت له الفرصة، وما إيثاره الإقامة في طنطا على ضيقها به وجهلها مقداره إلا ليكون قريبا من قبر أبيه وأمه، وقد نقلته وزارة العدل مرة نقلة قريبة، فتمرد على أمر الوزارة وأبى الانتقال وانقطع عن العمل في وظيفته قرابة شهرين حتى ألغت الوزارة هذا النقل، وكانت كل حجته عند الوزارة في إيثار طنطا أن فيها قبر أبيه وأمه! ... وقد مات ودفن إلى جانب أبيه وأمه، فلعله الآن سعيد بقربهما في جوار الله ولعلهما به ... ... ولما عاد من زيارة المقبرة أملى علي مقالة «وحي القبور!» •••
ثم عاد إلى موضوع الزواج يتناوله من بعض أطرافه، فأنشأ قصة «بنته الصغيرة» وهي الثالثة مما نحل أئمة الصدر الأول من القصص، تحدث في «قصة زواج» عن سعيد بن المسيب، وتحدث في «سمو الحب» عن عطاء بن أبي رباح، وتحدث هنا عن مالك بن دينار والحسن البصري.
في هذه القصة يتناول الرافعي موضوع الزواج على النحو الذي تناوله به في قصة «رؤيا في السماء» على أنه باب إلى السمو بالإنسانية، وفيها - إلى ما فيها من الدعوة إلى الزواج وبر البنات - شيء من الأدب الديني يضمها إلى سابقاتها.
ثم نشر بعد هذه القصة الجزء الثالث من «كلمة وكليمة» - العدد 84 سنة 1935 - وفيها كلمات عن السياسة، وحديث عن المرأة، ونظرات في أخلاق بعض الناس أوحى إليه بمعانيها قضية كانت له في المحكمة شغله أمرها وقتا ما، وقصة ذلك أن الرافعي كان اشترى قطعة أرض للبناء في شمال المدينة، ونقد البائع ثمنها وجعل لها حدودا مرسومة، ثم أعجزه أن يبنيها فظلت خلاء، وكانت هي كل ما حصل الرافعي من الاشتغال بالأدب أكثر من ثلث قرن، ثم طمع البائع أخيرا فيما باع، فتحيف القطعة من أطرافها، واصطنع بينه وبين الرافعي مشكلة قانونية تعجزه عن بلوغ حقه إلا بعد مطاولة تدفع إلى اليأس، وشكاه الرافعي وتأهب لمناضلته، واستعان عليه خصمه بواحد من ذوي صهره يعمل مفتشا في وزارة العدل، فانتدب للتفتيش عن أعمال الرافعي الرسمية في محكمة طنطا مهددا متوعدا، لعله يحمله بذلك على النزول عن بعض حقه!
طالت القضية بين الرافعي وخصمه، وتعددت جلسات المحكمة، وطالت كذلك دورة التفتيش وكثر تحدي المفتش للرافعي حتى لزمه ثلاثة أشهر يفتش عن أعماله، فحص فيها عن بعض مئات من القضايا التي قدر الرافعي رسومها، لعله يعثر له فيها على غلطة تحمله على الخضوع له، وغلطة في تقدير الرسوم لقضية من القضايا معناها غرامة مالية ... ومن أين للرافعي؟
وكنت متعودا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ، فلما علمت أن مفتشا عنده أقصرت، فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: «لا عليك وخل عنك هذا الوهم فلا تغير شيئا من عادتك!»
وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسي إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبى على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يغادر مجلسه، وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفا ويتحدث إليه وهو جالس حديثا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفا ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!
وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به! ... ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل، ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطرا كبيرا من سنة 1935، وأوحت إليه بكلمات وكليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة. ••• ... ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية «زوجة إمام» الإمام أبو محمد سليمان الأعمش وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.
قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة، وبها تم ما أملاه علي في موضوع الزواج، وعدته ثلاث عشرة مقالة، أولها مقالة «س، أ، ع» وآخرها الجزء الثاني من «قصة إمام».
وددت لو أن الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به، والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة، فإن ذلك كان خليقا أن يعين الباحث على دراستها مجتمعة متساوقة فصولها فصلا إلى فصل، ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه، فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني، وجعل كل نوع من هذه الثلاثة في بابه، على أن ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمت أسبابه وأسبابها معه. •••
كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل، فإذا لم يجد له عملا في المحكمة انصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة، وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته، وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادة تلهمه الفكر والبيان، ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة ...
وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان، فكان يصحبه شرطي كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إلي لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا، ونظر الرافعي إليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلع لا يكاد يتقار في موضعه ...
ثم انصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، والتفت الرافعي إلي يسألني: «... وبين تلاميذك كثير من مثل هذا الشمعون؟»
وكلمة «شمعون» عند الرافعي هي علم مشترك لكل فتى جميل، وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر ... وكان اسمه «شمعون»، حدثني الرافعي عنه قال: «وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى ...!» ورآه الرافعي كثيرا في صحبة الكاظمي، فوعى اسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام متأنث ... ... قلت للرافعي: «هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإن من خبره ...»
قال الرافعي: «وهذا موضوع جديد!»
فهذا كان سبب إنشائه قصة «الطفولتان». •••
كان الرافعي يؤمن بالغيب إيمانا عميقا لا ينفذ إليه الشك، وكان له عن الشياطين والملائكة، وعن الوحي والإلهام، وعن تجاوب الأرواح في اليقظة والنوم، أحاديث ينكرها كثير من شباب هذا الجيل ... ... وكان له - إلى إيمانه وتدينه - نزوات بشرية تعقبها التوبة والندم، فكان أكثر وقته على تربص دائم من وسوسة الشيطان، فكان إذا مرت أمامه امرأة فأتبعها عينيه، أو سمع حديثا عن غائب فتعقبه بالحديث عن بعض شأنه أو ناله أحد بمساءة فردها إليه، استعاذ وحوقل، وقال: هذا من عمل الشيطان! وإذا همت نفسه بشيء تنكره المروءة، أو دعته داعية من هواه إلى ما يتحرج منه المؤمن، أو صرفه شأن من شئون الحياة عن واجب من واجبه، حمل نفسه على ما لا تحتمل، وأنكر على نفسه ما همت به أو دعت إليه أو انصرفت عنه، وذم الشيطان وتجنى عليه الذنب، وفي مقالته «دعابة إبليس» حديث يحقق هذا المعنى. ... فإني لمعه ذات مساء إذ جاءه البريد برسالة من آنسة في دمشق، ومعها صورتها مهداة إليه، تبثه لواعجها وأشجانها، وتشكو إليه أنها ... مفتقرة إلى رجل!
ونظر الرافعي إلى صورة الفتاة فأطال النظر، ووقف الشيطان بينه وبين الصورة يحاول أن يزيدها في وهمه حسنا إلى حسن، ويرسم له خطة ...
ثم وضع الصورة في غلافها وهو يقول: «أعوذ بالله من الشيطان ... أما إنه ...»
وقال شاب في المجلس: «وهل الشيطان إلا هوى النفس؟»
وقال الرافعي: «وهل تنكر؟»
وطال الجدل، ومضى الحديث في فنون ...
من هذا الحديث وهذه الحادثة كانت مقالة «الشيطان». •••
وكان لولده سامي زوج لم يدخل بها، وقد مرضت بذات الصدر بعدما سماها وعقد عليها، فأقامت زمنا في مصحة حلوان، ثم ارتدت إلى طنطا لتقيم بين أسرتها ما بقي، وزوجها حفي بها قائم على شئونها، ثم جاء أجلها، فدعي الرافعي ليراها، فجلس إلى جانبها لحظات وهي تحتضر، فكان له من هذا المجلس القصير مقالة «عروس تزف إلى قبرها!»
كنت ليلتئذ على موعد معه في القهوة، فظللت أنتظره ساعات، ولم يخلف الرافعي موعده معي مرة من قبل، فلما طال بي الانتظار مضيت لشأني، وفي الصباح جاءني نعي الفتاة فعرفت عذره، فلما كان العصر ذهبت في نفر من الأصحاب لتعزيته في دار صهره، والتمسناه فما وجدناه، وسألنا عنه فعرفنا أنه آب إلى داره بعد الجنازة لبعض شأنه، ولقيته بعدها، فعرفت أنه ترك المأتم والمعزين ليفرغ لكتابة مقاله قبل أن تذهب معانيه من نفسه!
يرحمه الله! لم يكن يمر به حادث يألم له، أو يقع له حظ يسر به، إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخر لفنه، فهي للناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي! •••
وإذ ذكرت السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة «عروس تزف إلى قبرها!» أراني مسوقا إلى ذكر حديث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميته فيه من قبل «فلسفة الرضا».
لم يكن لأحد رأي في خطبة هذه العروس إلى سامي، ولكنه هو خطبها لنفسه، وكان يحبها ويرجوها لنفسه من زمان، ولم يكن بينهما حجاب، فإنها بنت خاله، فلما أجمع أمره على خطبتها بعدما تخرج وصار له مرتب يكفيه،
1
ذهب يعرض أمره على والده، فعارضه فيما ذهب إليه لسبب سببه، ولكنه مع اعتداده برأيه في هذه المعارضة تركه لهواه ولم يفرض عليه رأيه؛ إذ كان يرى من حق ولده أن يختار زوجته لنفسه، فليس له عليه في هذا الشأن إلا أن يبذل له النصح ثم يدع له الخيرة في أمره.
وخطب سامي فتاته، وعقد عقده، وكان حموه يعمل في مال فأكلته الأزمة، وقدر عليه رزقه بعد سعة، ثم مرضت الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!
وتداعت فنون الحديث يوما بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان، فقال لي الرافعي: «انظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ضلت البشرية إن هي حاولت النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس ... ليس للإنسان خيرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسبابا بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب مما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء ... ترى من ذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطب لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمت نظامها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمت له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر مرجو لهذا الواجب من بعد؟ لقد كنت مستيقنا من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة، لأشعر بكثير من الرضا إلى ما كان!» •••
ثم كتب مقالة «بين خروفين».
وهي تمت بسبب إلى مقالة «حديث قطين» وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن وهو أصغر بنيه، وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب، فما يزال يستحثه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمل، وكان «الإيحاء» هو وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل، ويبدو مثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول ذلك المقال.
وكان الرافعي معنيا بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى، وكثيرا ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدت بين أوراقه حديثا له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجا ليهيئ نفسه للامتحان لو أنه اتبعه لكان اليوم غير من هو!
ومن أجل أولاده أنشأ كثيرا من المقالات عن عيوب الامتحانات لمناسبات مختلفة كان ينشرها في المقطم، وكانت له طلبات ومقترحات إلى وزارة المعارف أجابت أكثرها ولم ينتفع بها أحد من ولده ومن أجلهم أنشأها!
أنشأ هذه المقالة قبيل عيد الأضحى، وكان اشترى خروفين للتضحية أودعهما فوق سطح الدار إلى ميعاد، فما نزعه إلى كتابة هذا المقال إلا هذان الخروفان، ثم حاجته إلى أن يقدم إلى ولده نموذجا في الإنشاء يعينه على بعض واجبه المدرسي. •••
وكان للرافعي رأي فيما تنقل الصحف من أخبار تركيا، تفسره مقالة «تاريخ يتكلم»، وقد دعاه إلى إنشاء هذا المقال أخبار تناقلتها الصحف في ذلك الوقت عن أحداث تجري في تركيا، رأى فيها مشابها من حوادث سبقتها في مصر قبل ذلك بألف سنة في أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي.
وفي أحيان كثيرة كانت تثور نفس الرافعي لما يسمع من أخبار تركيا فيهم أن يكتب، ثم يمنعه ذلك خشيته أن يكون فيما يكتبه شيء يقفه موقف المسئول عن غلطة تعكر صفاء ما بين الدولتين، ثم جاءت مناسبة هذه المقالة فأنشأها وجعل الحديث فيها عن الحاكم بأمر الله، وهو يعني رئيس الجمهورية التركية لذلك العهد، وكانت هذه التعمية وسيلته ليتهرب من التبعة السياسية، ومنها كان الغموض في كثير من معاني هذا المقال، فمن شاء فليعد إليه ليقرأه وقد عرف داعيه، فلعله لا يجد غموضا فيه من بعد.
ومن أجل هذا السبب ولهذا المقصد نفسه، كان مقاله «كفر الذبابة»، الذي أنشأه على أسلوب كليلة ودمنة بعد ذلك بأشهر. •••
ثم هل هلال المحرم، وتهيأت الرسالة لإصدار «العدد الممتاز» في ذكرى الهجرة، فكتبت إلى الرافعي فيمن كتبت من أسرة الرسالة، تطلب إليه أن يهيئ موضوعا مناسبا لذكرى الهجرة، وضربت له أجلا، واستبق الرافعي الميعاد فأعد قصة «اليمامتان» وبعث بها إلى الرسالة قبل موعد العدد الممتاز بأكثر من أسبوع، وحسبت الرسالة أنه بعث إليها بمقاله الأسبوعي المعتاد، وأنه ما يزال يعد موضوعه للعدد الممتاز، فنشرت قصة اليمامتين قبل موعدها، وكتبت إليه تستنجزه المقال ... وكان الرافعي متعب الأعصاب، يشكو وجعا في أضراسه يثقل رأسه، وقد غاظه أن الرسالة فوتت عليه الفرصة فسبقت إلى نشر القصة التي أعدها للعدد الممتاز قبل موعدها وتركته في حيرته، ولم يجد في نفسه خفة إلى العمل، فذهب إلى أوراقه القديمة يفتش بينها عن موضوع خليق بالنشر في هذه المناسبة، فوقع على مقالة «حقيقة المسلم»، وكان كتبها قبل ذلك بسنتين إجابة لدعوة جمعية الكشاف المسلم بالشام،
2
ونشرها بالأهرام في ذكرى المولد النبوي لسنة 1352ه، فبعث بها إلى الرسالة لتنشر في العدد الممتاز لسنة 1354ه.
يتحدث الرافعي في قصة اليمامتين عن الفتح الإسلامي، وأخلاق العرب، وتعريب مصر الفرعونية الرومانية، وافتتان القبط بسجايا العرب ومزايا الإسلام، وفيها إلى ذلك حديث عجيب عن الحب والمرأة في قصة خيالية افتعلها ليبلغ بها ما في نفسه من معاني الحب، ثم جعل في خاتمتها «نشيد اليمامة» اليمامة التي تقول الرواية العربية إنها تحرمت في جوار عمرو بن العاص فمنعته أن يقوض فسطاطه!
كان لهذه القصة عند الرافعي وعند كثير من قراء الرسالة موقع لم تبلغه قصة سعيد بن المسيب، وقد افتتن بها القراء، حتى كان منها أن اهتدى إلى الإسلام أستاذ مسيحي من أساتذة التاريخ في بلاد الجزائر، فكتب إلى الرافعي رسالة يعلن فيها إليه إسلامه، ويسأله الوسيلة إلى دراسة هذا الدين والتفقه فيه، ولم أعثر على هذه الرسالة بين ما خلف الرافعي من رسائل أصدقائه إليه.
ومن اعتداد الرافعي بهذه القصة وبما بلغ فيها من التوفيق، جعلها فاتحة الجزء الأول من كتابه «وحي القلم».
ولم يكفه أسبوع للاستجمام والخلاص مما يعاني من وجع الضرس وتعب الأعصاب، فاستراح أسبوعا آخر وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من «كلمة وكليمة». •••
ثم وقعت حادثة اهتزت لها نفس الرافعي اهتزازا عنيفا ونقلته من حال إلى حال: جلست يوما إليه نتحدث من أحاديثنا فقال: «... إن صديقنا الأستاذ «م» لم يكتب إلينا من زمان ... ليت شعري ما منعه عنا، إن بي قلقا عليه وفي نفسي أن أراه أو أعرف من خبره!»
وفي صبيحة اليوم التالي طالعتنا الأهرام بخبر غامض: «... أن شابا من الأدباء، هو ابن شيخ كبير من شيوخ الأزهر، قد حاول الانتحار بقطع شريان في يده! ...»
وقرأ الرافعي الخبر فاربد وجهه وانفعلت نفسه، وقال: «اقرأ، إنه هو ...!»
قلت: «من تعني؟»
قال: «صديقنا «م» لقد غلبه شيطانه على دينه آخر الأمر. غفر الله له!»
فجزعت وطارت نفسي، وقلت له وأكاد أغص بريقي: «م؟ إنك لتتوهم، وإنك مما تفكر في شأنه ليخيل إليك، إن لصديقنا دينا، وإن فيه تحرجا وخشية وما أراه في أي أحواله يقدم على مثل هذه الجريمة.»
ولكن الرافعي لم يلتفت إلى ما أقول، وأخذ يحوقل ويسترجع ويستعيذ بالله من غلبة الهوى وفتنة الشيطان، ثم مد يده إلى مكتبه فكتب رسالة إلى «م» يسأل عن حاله وخبره ويرجو له العافية في دينه ودنياه، ثم يطلب إليه أن يصف له ما كان منه وما حمله عليه وما آل إليه أمره، ولم ينس مع كل أولئك ومع ما تفيض به نفسه من الحزن والألم أن يرجوه «الدقة في وصف المرحلة التي كان فيها بين الحياة والموت، فإنها المرحلة التي لا يحسن أن يصفها إلا من أحس بها ...»
وصديقنا الأستاذ م أديب واسع المعرفة، له دين ومروءة، وفيه تحرج وخشية، وقد نشأ في بيت له ماض في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذود عن حرماته، وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب، وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فإنه من سعة خياله ودقة حسه وحدة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم، وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبا في هذا العالم وبين هذا الناس، فإن له من خياله دنيا غير دنيا الناس، وعالما غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض، وكان بينه وبين الرافعي ود وله في نفسه مكان، فكان له سره ونجواه منذ كان فتى يافعا لم يبلغ العشرين.
وكان الرافعي يعتد بصداقته ويقر له ويعجب بدينه وتقواه ويتوقع له مستقبلا مجيدا بين المجاهدين من أهل الأدب ودعاة الإسلام.
فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه في الانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه، وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي من دنياه، فمن أجل هذه الحادثة أنشأ مقالات «الانتحار».
ولم يكن الرافعي يعلم من أحوال صاحبنا ما دفعه إلى هذه المحاولة الطائشة، فأخذ يتكهن وينتحل الأسباب ليبني عليها الحديث والقصة، فما جاء جواب الأستاذ «م» إلا بعد المقالة الثالثة، فأخذ من هذا الجواب مادة الجزء الرابع من هذه المقالات، وجعل الحديث في هذا الجزء على لسان «أبي محمد البصري» وهو يعني به الأستاذ «م» فهو هو، وكلامه كلامه في جملته ومعناه، لم يغير منه الرافعي إلا قليلا من قليل، فما يدل على حالة صاحبنا إلا المقالة الرابعة من هذه المقالات الست، أما ما عداها مما سبق أو لحق، فهي قصص مفتعلة من وحي هذه الحادثة في نفسه.
ومقالات الرافعي في «الانتحار» هي باب من الأدب لم ينسج على منواله في العربية فيها فن القصصي، وفيها روح المؤمن الذي لم تفتنه دنياه عن ربه، وفيها إلى ذلك شعر وفلسفة وحكمة، وقلب رجل يعيش في حقيقة الحياة. •••
وكان بين الرافعي والأديب حسن مظهر محرر اللطائف المصورة مودة، فلما تولى تحرير اللطائف كتب إلى الرافعي يرجوه أن يكتب فصلا لقراء اللطائف عن «سحر المرأة» فكتب فصلا بديعا يصف فيه نفسه وصاحبته «فلانة» في أول لقاء بينهما.
فلما فرغ من مقالات «الانتحار» تناول هذا الفصل فزاد فيه ما زاد وبعث به إلى الرسالة بعنوان «ورقة ورد»؛ لأنه سار فيه على نهج كتابه المعروف «أوراق الورد»، فهذا الفصل عنده هو من تمام هذا الكتاب. •••
وكان من زملاء الرافعي في محكمة طنطا الأديب فؤاد ... وهو شاب له ولوع بالأدب، وعلى أنه زوج وأب، فإنه كان بأناقته ولباقته مرعى أنظار كثير من الفتيات، وكان له في الغرام جولان ...
ثم فاء إلى نفسه بعد حين، فانصرف عن اللهو والغزل إلى شئون أسرته وولده، وراح ينشر بعض مغامراته الغرامية في إحدى الصحف الصغيرة التي تصدر في طنطا ...
وقرأ الرافعي بعض ما ينشر صاحبنا، فرأى «علما جديدا» لم يدخل إليه من باب ولم يقرأه في كتاب، فأرسل يستدعي صاحب هذه المقالات إليه؛ ليفيد علما من علمه وتجاربه ...
وجلس صاحبنا يتحدث إلى الرافعي ويقص عليه، والرافعي صاغ إليه ملذوذ بما يسمع، فما انتهى صاحبنا من حديثه حتى كان على موعد مع الرافعي أن يحضر له طائفة من مذكراته ورسائل صواحبه؛ لعله يجد فيها موضوعا يكتبه لقراء الرسالة.
فمن هذه المذكرات وتلك الرسائل استملى الرافعي مقالات «الطائشة» و«دموع من رسائل الطائشة» و«فلسفة الطائشة».
هي قصة لا افتعال فيها وليس فيها شيء من صنع الخيال، وما حكى الرافعي من رسائل الطائشة هو من رسائلها نفسها كما نقلها إليه صاحبها، وفلسفتها هي فلسفتها كما فهمها الرافعي من رسائلها ومما كان من أمرها مع صاحبها.
ولقد نال الرافعي من ملامة الفتيات ما ناله بسبب هذه المقالات، وقرأها أكثر من قرأها منهن على أنها قصة من الخيال اخترعها الرافعي ليحتج بها فيما يحتج لمذهبه في الحب والمرأة وتجديد الأخلاق، والحقيقة فيها هي ما قدمت، وقد زاد الرافعي إيمانا بمذهبه بعد هذا الذي سمع من صاحبه وقرأ من مذكراته ومن رسائله!
ولم يكتب الرافعي قصة «الطائشة» على أنها قصة؛ إذ كان صاحبها قد كتب قصتها على طريقة من فنه، فآثر الرافعي أن يتناولها من أطرافها ليحكم بها حكمه ويتحدث عن رأيه في طائفة من فتيات العصر، فترك صلب القصة ليكون حديثه تعليقا وحاشية.
وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها، فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفا بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته، ونبض قلبه، وإحساس روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئا من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب، وكان هذا دليل الصدق عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته.
ولما كتب المقالة الثالثة «دموع من رسائل الطائشة» خلا إلى نفسه أسبوعا ليستجم، وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من «كلمة وكليمة» وفيها حديث عن العقاد.
3
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان «فلسفة الطائشة».
ثم أملى علي مقالة «كفر الذبابة» يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية، وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة.
وكانت مقالة «كفر الذبابة» هي آخر ما أملى علي من المقالات، وذلك في صيف سنة 1935، ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في سيدي بشر، وتهيأت للسفر إلى القاهرة لبعض شئون العمل المدرسي، وانتقلت بعدها إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع، فأسبوعا أزوره في طنطا، وأسبوعا يزورني في القاهرة، على أن الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة 1937، قبل موته ببضعة أشهر، ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، وكان آخر مجلس لنا في قهوة «پول نور» بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، والسيد زيادة، ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه أشياء ...!
وفي صبيحة الغد بدأت المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول «وحي القلم». ... ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني، وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه، حتى جاءني نعيه ... غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله؛ لتخفف عني وقع المصاب من بعد، أو لتحملني - غير محمول من أحد غير واجبي - على كفارة الذنب الذي أذنبت بهذه القطيعة، فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ لعلي أقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت عن وفائه في حياته. يرحمه الله! ••• ... لم يمل علي الرافعي شيئا بعد مقالة كفر الذبابة، ولكنه طلب إلي أن أنسخ له صورة من مقال كان نشره في المقتطف قبل ذلك بسنوات عنوانه «سر النبوغ في الأدب».
فلما سافر إلى مصيفه بعث إلى الرسالة بمقاله «كلمات عن حافظ» لمناسبة ذكراه، ثم أصابته قرحة في كفه منعته من العمل، فأخذ مقالة «سر النبوغ في الأدب» فجعل عنوانها «الأدب والأديب» ثم جعلها مقالة الأسبوع التالي، وهي مقالة من مقالات الرافعي الفريدة، تهم الباحث الذي يريد أن يدرس الرافعي صاحب «تاريخ آداب العرب». •••
ثم توالت مقالات الرافعي يمليها على نفسه ويكتبها بخطه، على أني بما كنت ألقاه وبما كان بيني وبينه من الرسائل إلى ما قبل موته بأشهر، لم يفتني أن أعرف دوافعه إلى كثير مما كتب بعد ذلك من المقالات لقراء الرسالة، فسأحرص - تماما لهذا البحث - على أن أذكر ما أعرف من دوافع بعض المقالات التي أنشأها وحده من بعد، غير معتبر ترتيبها في النشر؛ إذ لا عماد لي فيما أكتب عنها إلا الذاكرة.
من هذه المقالات: الجمال البائس، القلب المسكين، المشكلة، المجنون، أحاديث الباشا.
أما مقالات «الجمال البائس» فقد أملاها عليه حب جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي: «... وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعا في الهواء، لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني، ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى أكبر من المرأة، أكبر منها، غير أنه هو منها! ... ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه، فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس، ما تطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك، ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا.
والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل، ينساك بعد ساعة، ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه، والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في وهمهم ويطفئوها وينتبهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضا وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر، وهذا هو تجبره على جبار الحب!»
4
حب هو سمو بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السموات يتنور في عوالمها الخفية نور الإنسانية في حقائقها العالية.
بدأ ذلك الحب في صيف سنة 1935، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر، ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانا؛ ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ عامر - رحمه الله - وكان بينهما صلات من الود ترجع إلى نحو عشرين سنة منذ كان الأستاذ حافظ محاميا في طنطا.
وكان صديقه يقضي إجازته في الإسكندرية، مشغولا بكتاب يهم أن يصدره في شأن من شئون الإسلام وكان الرافعي يعاونه في إنشائه ...
5
وكانا يتواعدان على اللقاء في ملهى من ملاهي الإسكندرية على شاطئ البحر، حيث تتهيأ لهما الفرصة، من هدوء المكان في النهار وقلة إقبال الناس عليه، لما هما فيه من عمل.
في هذا الملهى كانت تعمل فرقة الراقصة المشهورة «ببا» فيعج كل مساء بمن يفد إليه من طلاب اللهو والهوى، ليفرغ للرافعي وصاحبه في النهار يداولان الرأي في شئون الأدب والدين والفلسفة، وشتان ليله ونهاره!
وكثر تردد الرافعي وصاحبه على هذا الملهى حتى ألفهما المكان وألفا ما فيه، وألفهما فيمن ألف فتاة من راقصات الفرقة، هي الإيطالية الحسناء «ب ...» فما كان بينها وبين الرافعي إلا نظرة وجوابها ثم كانت قصة حب ...
وجلس الرافعي إليها يتحدثان ذات نهار، وكشفت له عن صدرها وكشف لها، فكان بينهما حديث طويل، شهده المرحوم حافظ عامر من بدايته إلى منتهاه، ثم ترك الرافعي لهواه وتركته صاحبته ...
وذاق الرافعي مرة أخرى لوعة الحب وبرحاء الهوى، وكانت محبوبته الأخيرة راقصة من بنات الهوى تعمل في مسرح هزلي من مسارح الصيف المتنقلة بين شواطئ الإسكندرية ...!
تلك هي صاحبة «الجمال البائس». •••
وانتهت أشهر الصيف وعاد الرافعي إلى طنطا، وعادت الفرقة الراقصة إلى القاهرة، وشت ما بين الحبيبين!
ولقيت الرافعي بعدها، فحدثني حديثه والكلمات ترتعش على شفتيه وفي عينيه بريق عجيب، ثم رق صوته وتهدج وهو يقول: «مسكينة! ليتني أستطيع أن أبلغ ما في نفسها لأعلم ما تشكر من حظها وما تنكر ... ليس موضعها هناك، ولكنه القدر!»
ولقيته في القاهرة ذات مساء، وقد فرغ من مقالات «الجمال البائس» فدعاني أن أصحبه إلى الملهى الذي تعمل فيه ليراها من بعيد، وأرسل من يطلب له تذكرتين عند شاب من أبناء عمومته يعمل في «دار الهلال» وأبطأ عليه الرسول فلم ينتظر، فنهض ونهضت معه واتخذ طريقه إلى «عماد الدين» ...
ووقف بالباب ينظر الصور ويقرأ الإعلان وهو يسألني: «أين اسمها؟ وأين صورتها؟ وأين ... وأين هي؟»
وطالت وقفته وهو ينظر إلى صورتها في إطار كبير إلى جانب الباب يضم صورتها إلى صور شتى من راقصات الفرقة، ما منهن إلا لها جمال وفتنة، ولكن عينيه كانتا تنظران إلى صورة واحدة، إلى صورتها!
ثم تحول عن الباب مسرعا عجلان وهو يجمجم بكلام لا يبين.
وقال لي وقد أسرعت إليه حتى حاذيته: «أيليق أن ندخل هذا المكان؟ أتراه من المروءة؟ وددت لو رأيتها، ولكن ...»
وانتهينا إلى قهوة «پول نور» فجلس وجلست، ومضى يتحدث عن السحر والشعر وفتنة الجمال، فما هي إلا لحظة ثم مرت بنا منحدرة من شارع فؤاد إلى شارع سليمان باشا، فأتبعها عينيه من نافذة إلى نافذة حتى توارت في مزدحم الناس، ثم عاد إلى نجواه وشكواه ...
وجلس مرة يتحدث إلى الأديب حسن مظهر محرر «اللطائف» عن ذات «الجمال البائس»، فأهدى إليه صورتها، فظلت هذه الصورة معه إلى أخريات أيامه لا تفارقه.
ولقد كان يحسن الظن بعلمها وفهمها، حتى ليحسبها من قراء الرسالة، فمن أجلها كتب مقالات الجمال البائس؛ لتعرف موضعها من نفسه!
وكان لا ينفك يسأل: «أتراها علمت ...؟ أتراها قرأت ...؟»
وما أحسبه لقي صاحبا من أصحابه إلا تحدث إليه عن صاحبة الجمال البائس ... جلست منذ قريب إلى الأستاذ توفيق الحكيم نتحدث عن الرافعي ونذكر من خبره فقص علي، قال: «كان الرافعي يجلس على هذا الكرسي، من هذه الغرفة، وكان ذلك قبل منعاه بأشهر قليلة، ومضى الحديث بيني وبينه حتى جاء ذكر صاحبة الجمال البائس، فأخذ الرافعي يصفها لي وصفا لا أجد أبلغ منه ولا أجمل من صاحبته، وطاوعه القول على تصويرها كما هي في نفسه، فما كانت عندي بما وصف إلا امرأة قد اجتمع لها من ألوان الجمال وفنون الحسن وسحر الأنوثة ما لم يجتمع مثله لامرأة، وتمثلت صورتها لعيني كما أراد أن يصف، فلما بلغ آخر الحديث عنها، قدم إلي صورتها في ورقة لأرى بعيني مصداق ما سمعت ...»
قال الأستاذ توفيق الحكيم: «ونظرت إلى الصورة التي صورها لي حديث الرافعي وإلى الصورة التي في الورقة، فكأنما استيقظت من حلم جميل! ... يرحمه الله، لقد كان شاعرا ...!»
كذلك كان سلطانها في نفسه وأثرها في خياله! •••
وكانت نشأة هذه الفتاة في طنطا لأول عهدها بالرقص، وكانت تعمل مع فرقة قروية أقامت «خيمتها» في طنطا بضع سنين، ولم يكن الرافعي يعلم ذلك من خبرها يوم التقيا في الإسكندرية في صيف سنة 1935، فما عرف ذلك إلا مني حين رأيتها في فرقة «ببا» ونظرت صورتها، فلما عرف من ماضيها في طنطا ما عرف، أغمض عينيه وراح في فكر عميق ... أتراه قد لقيها من قبل في طنطا ولم يكن يذكر، أم كان ينظم شعرا لم يجهر به ولم يسمعه أحد؟
والعجيب أن الرافعي وهو في غمرة هذا الحب الجديد لم ينس صاحبته «فلانة» ولم يفتر حبه لها، بل أحسبه كان أكثر ذكرا لها وحنينا إليها مما كان، وكأنما كان قلبه في غفوة فأيقظه الحب الجديد ورده إلى ما كان من ماضيه.
لقد كان قلب الرافعي عجيبا في قلوب العشاق، ليت لي من يستطيع أن يكشف عن أعماقه!
وبسبيل وحي هذا الحب الجديد وما أذكره من ماضيه، كانت قصة «القلب المسكين» التي نشرها في الرسالة نجوما من بعد، ثم ضمها إلى أصول الجزء الثالث من وحي القلم الذي طبع بعد وفاته. •••
أما موضوع «المشكلة»
6
فقد استملاه الرافعي من رسائل قرائه إليه، وصاحب هذه المشكلة هو صديقنا الأستاذ كامل ح. وهي كانت أول صلته بالرافعي، ولقد كانت قبل أن يكتب إليه مشكلة اثنين: هو وهي. فصارت من بعد مشكلتهما ومشكلة الرافعي معهما؛ إذ لم يجد لها حلا، ولقد شغلته هذه المشكلة زمنا غير قصير، ثم اتصل بموضوعها عن كثب حين اتصلت أسبابه بصاحبها وصاحبته، وقد كتب الرافعي ما كتب في هذا الموضوع، ثم مضى وخلف دنياه وما تزال هذه المشكلة قائمة تنشد من يحل عقدتها ...
كان ذلك في الخريف من سنة 1935 حين جمعتني ظروف العمل بصديقي الأستاذ كامل، فلم يمض على تعارفنا أيام حتى استودعني كل السر ... ... فقد أمه وهو غلام، فلم يلبث غير قليل حتى حلت غيرها محلها في بيت أبيه، وكان أكبر ثلاثة إخوة، فاقتضاه حق أخويه عليه أن يستشعر معاني الرجولة وما يزال في باكر الشباب، ورأى أبوه أن عليه شيئا لهذا الرجل الصغير، فسمى عليه بنت خاله قبل أن يدرك، ورأت تقاليد الريف الذي نشأ فيه أن عليها دورا في هذه القصة، فحجبت الفتاة عن خطيبها ولما تبلغ التاسعة وأغلقت دونهما الباب ... ومضت سنوات وسنوات وسنوات وهو لا يراها ولا تراه، وفرغ من حسابها بينه وبين نفسه، ثم نسي ما كان وما ينبغي أن يكون، وكان يبغضها بغض الطفل والطفلة ، فلما باعدت بينهما السنون انقطعت بينهما أسباب الكره والمحبة فلا يذكرها ولا يذكر شيئا من خبرها ...
وانتهى الفتى إلى مدرسته العالية، وابتعد عن أعين الحراس والرقباء في القرية، فمضى على وجهه في القاهرة العظيمة يلتمس لذات الشباب ...
وكان له فكر وفلسفة، وفيه خلق ودين ومروءة، وبين جنبيه قلب يحس ويشعر ويتأمل، وعلى أنه كان يهيئ نفسه ليكون من أساتذة «العلوم» فإنه كان ولوعا بالأدب مشغوفا بمطالعاته، فكان له من ذلك روح وعاطفة، وكان في دمه ثورة وغليان، وكان في عقله مثال يريد أن يحققه، وكان في رأسه شعر يحتاج إلى بيان، وكان له من كل أولئك قلب يتحفز لوثبة من وثبات الشباب في قصة حب، ثم لم يلبث أن اشتبك في الملحمة ...
وأحب فتاة من بنات القاهرة وأحبته، فما كان له من دنياه إلا الساعة التي يلتقيان فيها، وما كان لها ...
وأجمع أمره على أن يتزوجها لينعما بالحب ويحققا المثل الذي ينشدانه، وكان قد مضى على الباب المغلق بينه وبين الفتاة المسماة عليه بضع عشرة سنة ... فما يذكرها ولا يفكر فيها ...
وكان نائما يحلم حين ترامى الخبر إلى أبيه بما أجمع أمره عليه، فما وجد أبوه وسيلة لإنقاذه إلا تعجيل زفافه إلى بنت خاله وفاء بوعد مضى في ذمة التاريخ ...!
غضب الفتى واحتج وثارت كبرياؤه ورجولته، وأبى أن ينزل على رأي أبيه في شأن هو من خاصة شئونه، ولكن الكثرة من أعمامه وأخواله قد غلبته على إرادته، وساقته في عماية إلى دار خاله ليزف على عروسه ثم يصحبها في السيارة من ليلته مرغما إلى بيته في القاهرة ... وابتدأت المشكلة ... ... هذه الفتاة هي بنت خاله، وهي زوجه أمام الله والناس، ولكنه لا يحبها، ولكنه لا يطيق أن ينظر إليها، وإن فتاة أخرى تنتظره، وإن عليه لها واجبا تحتمه عليه رجولته ...
وما أطاق أن يمنح زوجه نظرة أو يبادلها كلمة على طول الطريق حتى بلغت السيارة بهما الدار في القاهرة ... كانت إلى جانبه ولكنه هناك، عند صاحبته التي فتنته واستولت عليه، فما نظر إلى وجه زوجه لأول مرة منذ بضع عشرة سنة إلا حين همت أن تنزل من السيارة لتدخل داره ...
وكان حريا أن تئوب إليه نفسه حين نظر إليها فيعود إلى الحقيقة التي كتب عليه القدر أن يعيش فيها، ولكنه لم يفعل، وما رأى زوجته حينئذ إلا سجانه الذي يحرمه أن يستمتع بالحرية التي وهبها له الله يوم وهب له الحياة، وتأرثت في نفسه البغضاء من يومئذ لهذه المسكينة ...!
وعاشت في بيته بضعة أشهر كما يعيش الضيف، لا يقاسمها الفراش، ولا يؤاكلها على المائدة، ولا يؤنسها من وحشتها بكلمة ... فما تراه ولا يراها إلا في الصباح حين يخرج إلى عمله، وفي المساء حين يعود إلى داره قبل منتصف الليل، وما كان بينهما من صلة تجمعهما إلا البغضاء التي تؤج في صدره، والحسرة التي تتسايل دموعا من عينيها، وإلا هذه الخادم التي تقوم لسيدها بشئونه وتقوم لها ...
ولم يفتر صاحبنا عن لقاء صاحبته والاختلاف إلى ملتقاهما.
على أن ذلك لم يزده إلا ولوعا بحبيبته وتبرما بزوجته ... ومضت الأيام تباعد من ناحية لتقرب من ناحية، حتى جاء اليوم الذي وجد صاحبنا فيه أنه غير قادر على احتمال هذه الحياة أكثر مما احتمل ... فمضى يدبر أمرا للخلاص من هذه المشكلة، ولكن المشكلة زادت تعقيدا على الأيام ولم يجد وسيلة إلى الحل ...!
كان كل طريق يفكر فيه للخلاص محفوفا بأشواك، فلا هو يرضى أن يطلق زوجه، ولا هو يطيق أن يهجر حبيبته، وليس في استطاعته أن يجمع على نفسه همين، وكان تفكيره في ذلك هما ثالثا يضنيه وينهك أعصابه ويعرق عظامه!
وكتب إلى الرافعي يستفتيه في مشكلته ...
كنت مع كامل حين كتب قصته إلى الرافعي، وفي مساء اليوم التالي كنت في مجلس الرافعي بطنطا وبين يديه قصة صاحب المشكلة لم يفض غلافها بعد ...
وقرأ الرافعي الرسالة ثم دفعها إلي وهو يقول: «ماذا ترى حل هذه المشكلة؟»
قلت: «لقد جهدت جهدي قبل اليوم فما أفلحت!»
قال: «أوتعرف صاحب المشكلة إذن ...؟»
قلت: «نعم، وما كتب إليك هذه الرسالة إلا برأيي.»
وأطرق الرافعي هنيهة يفكر وفمه إلى الكركرة (الشيشة) كما هي عادته حين يستغرقه الفكر، ثم رفع رأسه إلي قائلا: «تعرف؟ إن صاحبك لمفتون بصاحبته إلى درجة الحمق والسفه، وما تنحل هذه المشكلة إلى أن يكون له مع نفسه إرادة صارمة ويكون له سلطان على هواه، وهيهات أن يكون له! فما هنا إلا وسيلة واحدة ترده إلى رشاده فتنحل المشكلة ...»
قلت: «فما هذه الوسيلة؟»
قال: «أن تدخل بينه وبين صاحبته دخول الشيطان، فتفرق بينهما ... أتراك تستطيع؟»
فضحكت وقلت: «ثم ماذا؟»
قال: «فإذا بدا له من سيئاتها ما ينكر، وإذا بدا لها ... انتهى ما بينهما إلى القطيعة فيعود إلى زوجه نادما، وإن مرور الأيام لخليق أن يؤلف بينهما من بعد.»
قلت: «فهمت، ولكن ماذا تراني أقول حتى أبلغ من نفسه ومن نفسها ما تريد؟ وهبني عرفت أن أقول له، فمن أين لي أن أستطيع لقاءها فأتحدث إليها؟»
قال: «اسمع، أتراها تقرأ؟»
قلت: «إنني لأعرف مما حدثني عنها أنها قارئة أديبة، وأنها من قراء الرسالة، وقد كان فيما أهدى صاحبها إليها كتاب أوراق الورد، وأحسبها تنتظر ما تكتبه في هذه المشكلة، فقد حدثها صاحبها أنه كتب إليك ...»
قال: «حسن! فسأجرب أن أكون شيطانا بينهما، بل ملكا يحاول أن يرد الزوج الآبق إلى زوجته بوسيلة شيطانية ...!» •••
وكتب الرافعي المقالة الأولى من مقالات المشكلة، وكان مدار القول فيها أن ينتقص صاحب المشكلة ويعيبه وينسب إليه ما ليس فيه مما ينزل بقدره عند صاحبته، ثم نشر أجزاء من رسالته إليه وأن فيها لما يعيبها ويثلبها ويضعها بإزاء صاحبها موضعا لا ترضاه، فلما فرغ مما أراد جعل حديثه إلى القراء يسألهم أن يشاركوه في الرأي ويحكموا حكمهم على الفتى وفتاته بعدما جهد في تصويرهما الصورة التي أراد أن يكون عليها الحكم في محكمة الرأي العام، وترك الباب مفتوحا لترى صاحبة المشكلة رأيها في القضية فيمن يرى من القراء.
ولقيت صاحب المشكلة من الغد، فسألني: «هل رأيت الرافعي؟»
قلت: «نعم!»
قال: «ورسالتي إليه!»
قلت: «بلغته !»
قال: «وماذا يرى؟»
قلت: «ستقرأ رأيه في الرسالة بعد أيام!»
وأخفيت عنه ما كان بيني وبين الرافعي من حديث وما دبر من خطة ... ونشرت المقالة الأولى من «المشكلة» ومضى يوم، وجاء صاحبي غاضبا يقول: «كيف صنع الرافعي هذا؟ لقد نحلني من القول ما لم أقل، أتراني قلت عنها كما يزعم، لقد خلطتني بنفسها حتى لو شئت أن أصل إليها في حرام وصلت ...! لقد ساءها ما نحلني الرافعي من الكلام، وقد تركتها الليلة غاضبة لا سبيل إلى رضاها!» ... وتحقق للرافعي بعض ما أراد، وانثالت عليه رسائل القراء يرون رأيهم في هذه المشكلة، وجاءه فيما جاءه من الرسائل، رسالة من صاحبة المشكلة نفسها ...
وفعل برسالة صاحبة المشكلة ما فعل برسالة صاحبها، ولكنه تلقاها تلقيا حسنا، ومضى يتحدث عنها حديثا ليس فيه من رأيها ولا مما تقصد إليه، ولكنه إيحاء، إيحاء إلى الفتاة بأنها في مرتبة أعلى، وأن ما بها ليس حبا وإن زعمت لنفسها هذا الرأي، ولكنه شيء يشبه أن يكون صورة عقلية لخيال بعيد تظنه من صور الحب وما هو به ... ثم مضى يفسح لها الطريق إلى الفرار من هذه المشكلة بالإيحاء والإغراء والحيلة ...
وكانت المقالات الثلاث الأخيرة تعليقا على آراء القراء وسخرية ونصيحة.
وفرغ الرافعي من مقالات المشكلة فما هو إلا أن تلاشى الصدى حتى عاد فلان وعادت فلانة، وما تزال المشكلة تطلب من يحلها، ومضت سنوات وفي الأتون ثلاثة قلوب تحترق ... وعلى مقربة من النار صبي يحبو ينادي أباه، وأبوه في غفلة الهوى والشباب، أترى إلى هذه المشكلة وقد دخل فيها هذا العضو الصغير الجديد قد أوشكت أن تبلغ نهايتها، فيكون حلها على يدي هذا الصغير وقد عجز الكبار عن حلها بعد مجاهدة سنوات؟ أم هو قلب رابع سينضم إلى القلوب المحترقة في أتون الشهوات ...؟
ومعذرة إلى صديقي كامل ...! •••
أما حديث «المجنون» فأعرف من سببه ما ذكر الرافعي في أول مقاله،
7
والمجنون في هذه المقالات هو شخص حقيقي كما وصف واصفه ، رأيته لأول مرة في مجلس الرافعي ذات مساء في قهوة «لمنوس»، فرأيت شابا أمرد يلبس جلبابا رخيصا وعلى رأسه عمامة، وقد جلس بين يدي الرافعي مجلس من لا يحتشم، فأنكرت موضعه، وأشرت إلى الرافعي أسأله عنه، فقال: «سله أنت من يكون؟»
فالتفت الفتى مغضبا يسأل: «أوليس يعرفني؟ أوينكر موضع نابغة القرن العشرين ...؟ ... ثم كان مجلس طويل وصفه الرافعي فيما وصف من مجالس المجنون.
وهو فتى كان طالبا في مدرسة المعلمين الأولية بطنطا، ثم أصابه ما أصابه فانقطع عن المدرسة، ولكنه لم يقطع صلته بالأدب، وصديقنا الأستاذ حسنين مخلوف يعرف هذا النابغة، فإنه كان بين تلاميذه في مدرسة المعلمين.
أما المجنون الآخر الذي وصف الرافعي من حاله ما وصف بعد، فهو طالب في إحدى كليات الأزهر، ولم ألقه أو أعرفه إلا بعد أن كتب الرافعي عنه ما كتب.
كنت يوما في إدارة الرسالة، حين دخل علينا فتى أزهري في جلباب حائل اللون، فحيا وقال: «ألست تعرفني؟»
فحيرني هذا السؤال ولم أدر بم أجيبه، فقال: «إن بيننا نسبا وقرابة، وإن بيني وبين الرافعي ... إنني أنا الذي يكتب عنه الرافعي مقالات المجنون!»
قال ذلك وفي وجهه أمارات الجد، وبدا لي كأنه يفاخرني بما يقول! قلت: «ولكني أعرف نابغة القرن العشرين معرفة النظر!» قال: «نعم، فهل عرفت الآن من يكون الآخر ...؟»
وقد كانت صلة الرافعي بهذين الفتيين بابا من العبث والمجانة، على أنهما قد استطاعا أن يحملاه على العناية بأمرهما والتفكير في كتابة شيء عن المجانين ...
وقد احتفل لهذه المقالات احتفالا كبيرا، فبعث إلي في القاهرة لأشتري له نسخة من كتاب «عقلاء المجانين»، ثم بعثني بكتاب خاص إلى الدكتور محمد فؤاد مدير قسم الأمراض العقلية بوزارة الصحة - وكان زميله في المدرسة الابتدائية - يرجوه أن يأذن لي في زيارة مستشفى المجانين لأكتب إليه عن بعض طرائفهم، لعله يجد فيها مادة تعينه على تمام موضوعه.
ولم يفته مع ذلك أن يلتمس علم ما لم يعلم عند كثير من الأطباء، فكان له حديث طويل عن المجانين مع الدكتور محجوب ثابت، والدكتور محمد الرافعي، والدكتور عبد الحميد المحلاوي طبيب الأمراض العقلية بمستشفى الخانقاه.
وقد أفاد من حديثهم بعض النوادر الطريفة التي حكاها في مقالاته ونسبها إلى نابغة القرن العشرين وزميله، على أن أكثر ما في هذه المقالات هو صحيح في جملته وفي نسبته إلا بضع نوادر! •••
أما «أحاديث الباشا» فأكثرها خيال وأقلها حقيقة، وقد اختار الرافعي أن يجعل بعض حديثه في الشئون الاجتماعية على هذا النظم حتى لا يمل قراءه.
وقد تخيل أخاه الأستاذ محمود الرافعي المحامي بدمنهور، كاتم سر الباشا الذي سماه ونسب إليه؛ لأنه كان يستوحيه كثيرا من الحقائق فيما يكتب، وقد كان الأستاذ محمود الرافعي في صدر أيامه زعيما من زعماء الشباب في طنطا، يقودهم ويرى لهم الرأي في مسائل الوطنية وتدبيرات السياسة في إبان الثورة المصرية سنة 1919 وكان يومئذ طالبا في مدرسة الحقوق.
أما «م» باشا فلا أحسب له شخصية حقيقية كان منها وكان مما روى الرافعي، ولكنها شخصية من تأليفه هو اصطنعها ليقول بلسانها ما قال.
على أن أكثر ما روى الرافعي من الروايات على لسان «م» باشا هو حقائق، ولكنها لا تنتسب جميعا إلى شخص واحد.
نقلة اجتماعية
لم يكن بين الرافعي وقرائه صلة ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه، فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه منها في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد، وأستطيع أن أقول غير مبالغ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالما لم يكن له به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه، وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثرت فيه، فإن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة كانت تطورا جديدا في حياته الاجتماعية نقله إلى عالم فيه جديد من الصور وألوان من الفن تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدد الحياة، وقد عاش الرافعي حياته بعيدا عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في المذياع، يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له ما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه.
وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علته سبب يباعد بينه وبينهم، فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويحصل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم ...
ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفته طائفة لم تكن تعرفه، وتذوق أدبه من لم يكن يسيغه، وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئا يعبر عن شيء في نفوسهم، فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فانفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علم جديد ... فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران، لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فانتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة ...
هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يفارق بيئته ومنزله وأهله.
والآن وقد وصلت إلى جلاء هذا المعنى كما شاهدته وعاينت أثره، فإني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأي المعاني ألهمته وقدحت زناد فكره، وإذا كانت بعض «الظروف الخاصة» قد حالت بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته وما اطلعت عليه بنفسي من بعد ... •••
نستطيع أن نرد الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة: (1)
رسائل الإعجاب والثناء. (2)
رسائل النقد والملاحظة. (3)
رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى.
أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما، على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب كان عن مقالاته في الزواج، وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء وأولئك، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله، وأطرف هذه الوسائل هي رسالة من آنسة أديبة كتبت إلى الرافعي تسأله أن يكتب رسالة خاصة إلى أبيها - وقد سمته في رسالتها - يعيب عليه أن يعضل ابنته ويرد الخطاب عن بابه حرصا على التقاليد ... ... ثم رسالة من «مأذون شرعي» يحصي فيها للرافعي بعض ما مر عليه من أسباب الطلاق في الأسر المصرية، ويردها كلها إلى سوء فهم الناس لمعنى الزواج وحرصهم على تقاليد بالية ليست من الدين ولا من المدنية، وفي هذه «الإحصائية» الطريفة قصص خليقة بأن تنشر لو وجدت من يحكيها على أسلوب فني يكسبها معنى القصة.
وأعجب ما قرأت من رسائل النوع الثاني، رسالة جاءته بعقب نشره مقالة «الأجنبية» عليها خاتم بريد «شطانوف»، فلما فض غلافها لم يجد فيها إلا صفحات ممزقة من عدد «الرسالة» الذي نشرت فيه القصة ومعها ورقة فيها هذه الأسطر:
سيدي الأستاذ
إن كان لا بد من رد فهذا هو خير رد، وإن كان لا بد من كلمة فكلمتنا إليك هي تلك الكلمة التي ختمت بها هذا الكلام المردود إليك.
مصري
ومن النوع الثالث من هذه الرسائل، كان استمداد الرافعي ووحيه ودنياه الجديدة، وإلى القراء نماذج مختلفة من هذه الرسائل: (1)
هذه رسالة فتى في العشرين، يكتب إلى الرافعي من الإسكندرية، يقول:
أستاذي الكبير
ليس لي الآن إلا ربي وأنت يا أستاذي، وإن من حقك علي أن أسألك حقي عليك، وقد هداني الله إليك ... قرأت وتدارست ما كتبته عن الانتحار، فماذا تقول في امرئ علم عمن الجنة تحت أقدامها أنها فسقت وزلت، فهو يتحين الفرصة ليقتلها، إني أبكي يا أستاذي إذ أعيد هذا القول، أبكي دما، لي إخوة وأنا أكبرهم، ولا أخاف إلا أن لي أختا، وأبي - غفر الله له - ليس له ما يكون للرجل من معاني الرجولة ليضمن ألا يكون في بيته شيء مما قد كان ...
الشك يساورني منذ أكثر من عامين، واليوم فار التنور؛ إذ سمعت أنها حبلى، ووقع في يدي ما ملأني يقينا بتصديق إثمها، ولقد هممت أن أفعل ما لا يفعل، وأنا أخشى ألا يتداركني حكمك ... ماذا تقول يا أستاذي؟ أنا الصابر أبدا كاد الصبر يتلاشى من نفسي، أنا المطمئن أبدا كاد أمري يضيع من يدي، أنا كالمجنون لا يبقيني شبه عاقل إلا أنت، فماذا تقول يا أستاذي وبماذا تحكم؟ يكتبها الله لك فتداركني برأيك ...
ولك مني شكر من يسأل الله ويسعى إلى أن يكون بنفسه وحياته من حسنات تربيتك، وأن يكون في اليوم الآخر كلمة من سطر من كتابك القيم ...
ومعذرة لي من لدنك إن أغفلت الآن اسمي.
في 14 / 5 / 1935 (2)
وهذه معلمة في إحدى مدارس الحكومة، حامت حولها ريبة فوقفتها وزارة المعارف حتى تحقق أمرها، فكتبت إلى الرافعي تسأله أن يعينها بجاهه حتى تعود إلى عملها الذي تعول منه أبويها، فيشفق عليها الرافعي ويسعى سعيه لبراءتها ... وعادت إلى عملها، وحفظت الجميل للرافعي، فكانت تكتب إليه كل أسبوع رسالة تبثه خواطرها وتصف له من أحوالها وما تعمل؛ وتكثر رسائلها إلى الرافعي حتى يزول الحجاب بينهما، فتصرح له بما لا تصرح فتاة، ويئول أمرها في النهاية أن تكتب إلى الرافعي بأنها عاشقة ... وأن معشوقها الصغير - التلميذ في إحدى المدارس الصناعية بالقاهرة - لا يعلم ما تكن له! هي تلقاه وتماشيه، وتخلو به خلوات «بريئة»! ولكنها لم تكشف له عن ذات نفسها، وتأكلها النار في صمت ...! وتقول في رسالتها إلى الرافعي: ... فدبرني يا سيدي في أمري، قلبي يحس أنه يحبني، لقد قالتها لي عيناه، ولكنه لم يتحدث إلي، ولست أجد في نفسي القدرة على التصريح له ...
وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثور فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفقر تلهمه معاني جديد وفكرا جديدا، ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها ...
بين يدي الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل، ليت شعري! كيف انتهت قصة هذا الحب؟ (3)
وهذه رسالة من «حلب» يدهش كاتبها أن يرى صورة «الشيخ» مصطفى صادق الرافعي مطربشا حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه: ... لقد رأيت رسمك يا مولاي فتأملته ... فوجدته من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ، فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأي دعاك إلى هذا المظهر الأنيق ...؟ (4)
وتلك رسالة من «دمشق» وقع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن بها الظن إحسانا يمثلها لعينيه ملكا أنثى! لا يترك مجلسا من مجالس غنائها، ولا يفكر في خلوته إلا فيها ... ثم يأتيه النبأ أنها قد سميت على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيما إيلام، فيكتب إلى الرافعي يقول: ... إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل، وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيت عنها حقيقته، وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة ...
هل يجب علي أن أقف وقفة المحذر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأرد لها صورها ورسائلها احتراما لهذا الزواح من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟ (5)
وذلك طالب في الجامعة، له دين وخلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال، وفار دم الشباب في عروقه، فتسلطت عليه غرائزه، تغالبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطانا على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أياما في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال «المرأة» تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وإنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه ... فماذا يفعل؟ (6)
وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في هم لا يطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تحسن عملا ولا تجد لذة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينتها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعاتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة! وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة، ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل؛ لأنها تسيء الظن بكل الرجال، فماذا تفعل؟ (7)
وهذا فتى مثالي يحسن الظن بالأيام، ولكن الأيام تخلفه موعده، أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره، والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكنه وجدها غلا في عنقه وكمامة على فمه، وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدرا بوفاء، وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال وبرم بالحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب ... فماذا يصنع؟ (8)
وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين، يخاف الله ويخشى عذابه، أحب فتاة من جيرته حبا «عذريا» وأحبته، وبرح بهما الحب حتى ما يطيقان أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة! ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما ... ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له ... ... ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي! وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقا في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث، ولم تطق أن تراه بعد، وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة ...
وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعا سبب موتها ... ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته، ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة، ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته: ... إنني أنا الذي قتلتها، إن دمها على رأسي، لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملت بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهى ولم يبق لي قوة على الاحتمال أكثر مما احتملت ... فماذا أفعل ...؟
ألوان وصور، ملائكة وشياطين، نفوس تتعذب، قلوب تحترق، أنات وابتسامات، دنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.
وثمة لون آخر من الرسائل: ... المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم ... شاب له خلق ودين، وفيه اعتزاز بالعربية والإسلام، فهو من ذلك يحب الرافعي وينتصر له، ويتتبع بشوق وشغف كل ما ينشر من كتب ومقالات، ولكنه مع ذلك يحب العقاد وينتصر له، ويراه صاحب مذهب في الشعر ورأي في الأدب جديرا بأن يتأثر خطاه ويسير على نهجه، وليس عجيبا - فيما أظن - أن يجتمع الرأي لأديب من الأدباء على محبة الرافعي والعقاد في وقت معا، كما أنه ليس عجيبا أن يتعادى الرافعي والعقاد أو يتصافيا ما دام لكل منهما في الأدب طريق ومذهب، ولن يمنع ما بينهما من الخلاف، أو من الوفاق، أن يكون لكل منهما قراؤه المعجبون به، أو يكون لهما قراء مشتركون يعجبون بما ينشئ كل منهما في فنون الأدب، وإنما العجيب أن يبلغ إعجاب القارئ بالكاتب الذي يؤثره درجة التعصب، فلا يعتبر سواه ولا يعترف لغيره بأن يكون له مكان بين أهل الأدب.
على أن شأن صاحبنا المحامي الشاعر الأستاذ إبراهيم مع الرافعي والعقاد يبعث على أشد العجب وأبلغ الدهشة ... إنه يحب الرافعي ويؤثره، ويعجب به إعجابا يبلغ درجة التعصب، وإنه يحب العقاد كذلك، ويعجب به، ويتعصب له ... لكل منهما في نفسه مكان لا يتسع إلا له، ولا يزاحمه فيه خصمه، ولكنهما يحبهما معا، ويتعصب لهما معا!
رأيان يتواثبان، وشخصيتان تتناحران، وإسراف في التعصب لكل منهما على صاحبه، فأين يجد نفسه بين صاحبيه اللذين يؤثر كلا منهما بالحب والإعجاب والأستاذية؟
صورة طريفة وقعت عليها فيما وقعت بين رسائل الرافعي!
وهذه رسالة منه إلى الرافعي يقول فيها:
1
سيدي، إنني أحبك، وأعجب بك، وأتعصب لك، ولكن موقفك من العقاد يا سيدي! ... ليت شعري! لماذا تتخاصمان؟ ... لقد كنت على حق ... ولكن العقاد على حق! ... هل تأذن لي أن أكون رسول السلام بينكما؟
ثم لا تمضي أيام حتى يعود فيكتب إلى الرافعي رسالته الثانية: «معذرة، إنك لتتجنى على العقاد تجنيا ظالما، فما لك وجه من الحق في عدائه والحملة عليه، لقد عقمت العربية فلم تنجب غير العقاد ... وإنك أنت ... إنك كبير في نفسي، كبير جدا، وإني لأقلب تاريخ العربية بين يدي فلا أجد غير الرافعي ... أنت ... والعقاد ... أين ترى يكون اللقاء؟»
وعلى هذا المثال قرأت لصاحبنا المحامي الشاعر بضع رسائل بين ما خلف الرافعي من أوراق تملأ النفس عجبا ودهشة، وآخر ما وصل إلى الرافعي من رسائله، رسالتان؛ كتب إحداهما في المساء، وكتب الثانية في صباح اليوم التالي، ولولا خط الكاتب، ونوع الورق، وخاتم البريد، لما حسبتهما إلا رسالتين من شخصين لو أنهما التقيا في الطريق لتضاربا بالأكف ...!
على أن الرافعي مع ذلك كان يرد على رسائله! وددت لو ينشر صاحبنا بعض رسائل الرافعي إليه!
2 •••
والآنسة الأديبة «ف. ز.» معلمة في إحدى مدارس الحكومة، كان أبوها زميلا للرافعي في محكمة طنطا، وكان بينهما صلة من الود، فلما مات لم تنس ابنته صديق أبيها، فكانت تستعينه في بعض شئونها، ومن ثمة نشأت بينهما مودة، فكانت تراسله ويراسلها، ومن رسائلها إليه كان له علم جديد في شئون وشئون.
صحبته إلى زيارتها مرة في ليلة من ليالي الشتاء مع الصديقين كامل حبيب وسعيد الرافعي، فلقيناها مع بعض صديقاتها، وكانت جلسة طالت ساعات، أعتقد أن الرافعي قد أفاد منها بعض معانيه في قصة «القلب المسكين!» ••• ... وقد أنشأت هذه الرسائل بين بعض قرائه وبينه صلات عجيبة من الود، فهو منهم أب وصديق ومعلم ومشير، وجلس على «كرسي الاعتراف» فترة غير قصيرة من حياته تفتحت فيها عيناه على كثير من حقائق الحياة لا يبلغ أن يصل إليها من رحل وطوف، وكان له في كل دار أذن وعلى كل باب رقيب عتيد! ولست بمستطيع أن أفسر سر هذه الثقة العجيبة التي ظفر بها الرافعي من قرائه، ولكني أستطيع أن أجزم بأنه كان أهلا لهذه الثقة، فما أعرف أنه باح بسر أحد فسماه أو عرف به، وما أطلع على رسائل قرائه أحدا غيري، إلا قليلا من الرسائل كان لا يرى بأسا من إطلاع نفر قليل من أصحابه عليها لغرض مما يستجره إليه بعض الحديث في موضوعها، بل إن كثيرا من هذه الرسائل قد أخفاه عني - وما كان بيني وبينه حجاب أو سر - فما عرفت خبرها إلا بعد موته، ويستطيع أصحاب هذه الرسائل أن يطمئنوا إلي، فستظل أسرارهم - في يدي - مصونة عن عيون الفضوليين، فلن أتناول الحديث عنها إلا من حيث يدعوني الواجب لجلاء بعض الحقائق في هذا التاريخ.
وكان له مراسلون دائمون ... يجدون الكتابة إليه جزءا من نظام حياتهم، فلا تنقطع رسائلهم عنه، ولا يخفى عليه شيء من تطورات حياتهم، وقد أكسبهم طول العهد بالكتابة إليه شيئا من الأنس به والاطمئنان إليه كما يطمئنون إلى صديق عرفوه وجربوه وعايشوه طائفة من حياتهم، وإن القارئ ليلمح في هذا النوع من الرسائل الدورية التي كان يبعث بها إليه هؤلاء الأصدقاء الغرباء، مقدار ما أثر الرافعي في حياتهم منذ بدأت صلتهم به، فتطورت بهم الحياة تطورات عجيبة، وأدى الرافعي إليهم دينه وأثر فيهم بمقدار ما كان لهم من الأثر في أدبه وفي حياته الاجتماعية، وإني لأضرب مثلا لواحدة من هؤلاء الأصدقاء.
هي فتاة من أسرة كريمة في دمشق، نشأت في بيت عز وغنى وجاه، وهي كبرى ثلاث نشأن نشأة يفاخرن بها الأتراب، ثم تقلبت بهن الحياة فإذا هن بعد الغنى والجاه ناس من الناس، واضطرت الكبرى أن تخرج إلى الميدان عاملة ناصبة لتعول أسرتها، وكان لها من ثقافتها وتربيتها معين ساعدها دون أختيها في ميدان الجهاد، وعلى أنها كانت أجمل الثلاث وأولاهن بالاسقرار في بيت الزوج الكريم، فقد سبقتها أختاها إلى الرفاء والبنين والبنات وظلت هي ... وما كان ذلك لعيب فيها، ولكنه سر لم يلبث أن انكشف لعينيها، لقد كانت هي وحدها - من دون أختيها - التي تستطيع أن تعول أسرتها لأنها عاملة ... وتألمت حين عرفت السر، ولكنها كتمت آلامها وظلت «صابرة»، ومضت الأيام متتابعة والأماني تخلف موعدها، وتحركت فيها غريزة الأمومة، ولكنها قمعتها بإرادة وعنف، ومضت تصارع الطبيعة وتتحدى القدر بعزيمة لا تلين، ولكنها لم تلبث أن أحست بوادر الهزيمة بعد طول الكفاح، فشرعت قلمها وكتبت رسالتها الأولى إلى الرافعي بإمضاء «الصابرة».
وقرأ الرافعي رسالتها، ثم قص علي خبرها وتندت عيناه بالدمع وهو يقول: يا لها من فتاة باسلة!
وأجابها على رسالتها بتذييل صغير في حاشية إحدى مقالاته في الرسالة ... وعادت تكتب وعاد يجيبها، وتوالت رسائلها ورسائله وقد كتم اسمها وعنوانها عن كل أحد، وكانت كتبته إليه في ورقة منفصلة في إحدى رسائلها ليمزقه وحده إن عناه أن يحتفظ برسائلها، وكان الرافعي لها كما أرادت، أبا وصديقا ومرشدا ومشيرا، ولم يأب عليها في بعض رسائله أن يتبسط في الحديث إليها عن قصة «القلب المسكين» لعلها تجد فيما يكتب إليها من شئونه عزاء وتسلية ... وتعزت المسكينة عن شيء بشيء، وثاب إليها الاطمئنان والشعور بالرضا، وبدا في رسائلها لون جديد لم يكن في رسالتها الأولى، وأخذت تكتب إليه عن كل شيء تحس به أو تراه حولها، وتستشيره فيما جل وما هان من شئونها ، في سفرها، وفي إقامتها، وفي رياضتها، وفي عملها، وفي يقظتها، وفي أحلامها ... في كل شيء كانت تكتب إليه، سائلة ومجيبة، ومخبرة ومستشيرة، حتى في صلاتها مع صديقاتها وأصدقائها، وفي الخطاب الذين يطرقون بابها يطلبون يدها ... ولم يكن يضن عليها بشيء من الرأي أو المشورة ...
وكان للصابرة جزاء ما صبرت، وتحققت أمانيها على أكمل ما تتحقق أماني فتاة، وجاءها العروس الذي لم تكن أحلامها تتطاول إليه في منامها، وبرق في إصبعها خاتم الخطبة، فانبهرت منه عيون! ... لا أريد أن أذكر من صفات خطيبها حتى لا أعرف بها وبه، فليس من حقي أن أكشف ما تريد هي أن يظل مستورا، لو قلت: إن خطيبها وزير من وزراء ذلك البلد لما بعدت!
واستمرت تكتب للرافعي والرافعي يجيبها ... حتى رسائل خطيبها إليها كانت تبعث بها إلى الرافعي ليشير عليها كيف تجيب، وحتى برنامجها قبل الزفاف وبعده كان بمشورة الرافعي ورأيه ...
وجاءته آخر رسالة منها مؤرخة في 3 / 4 / 1937 - نعي الرافعي في 10 / 5 / 1937 - تقول فيها:
الصديق الكريم ...
ما أحلى دعوتك يا صديقي وما كان أشدها تأثيرا على نفسي! لقد شعرت وأنا أقرؤها بسرور عميق، وتركز في ذهني أن هذه الدعوة مقبولة ... ما أسعدني إذا صرت في المستقبل أما!
أعتقد أنك تعرف تماما أن حنيني للزواج فيما مضى، وتمردي وثورتي على هذه الحياة، لم تكن إلا لأني رأيته وسيلة للحصول على الطفل، فقد تنبهت في غزيرة الأمومة بشكل هائل، تصور يا أستاذي ... صرت أكره الأطفال؛ لأني ليس لي بينهم ولد، وكنت إذ أرى أما تعانق طفلها وتضمه إلى صدرها أحس بألم مرير يحز بقلبي ويكاد يقطعه، وكثيرا ما كنت أتشاغل وأشيح بوجهي حتى لا تقع عيني على هذا المنظر، لست حسودة والله، ولكن شدة إحساسي كانت تجعلني بهذا الوضع ... أما الآن فأنا مسرورة لأقصى حدود السرور، وأتمنى لو أنثر الخير والسعادة على الجميع ... ... والله يعلم أن ليس لي أي غاية مادية من وراء هذا الزواج، وليس قصدي منه إلا الحماية والستر ؛ لأني مللت ومرض قلبي من فضول الناس ...
وكانت على نية زيارة مصر لتزور الرافعي مع زوجها؛ اعترافا بحقه عليها، ولكن القدر لم يمهله حتى يحين الموعد، وحان أجله ولم ينظر بعينيه الفتاة التي تبناها على بعد الدار وشغلته أحزانها زمانا، فلما ابتسم لها القدر وتحققت أحلامها، ناداه أجله قبل أن يشاركها في ابتسامة الفرح وتهاني المسرة ...!
تقول له في رسالتها المؤرخة 15 / 1 / 1937:
الصديق الكريم ... ... ولماذا أخشى هذه المقابلة يا أستاذ؟ وهل أنت مخيف لهذه الدرجة ...! على كل حال إذا وجدت ما يرعبني فسأختبئ وراء «فلان»
3
ولا بد أنه يحسن الدفاع عني. لا، لا، سألبس درعا متينة تقيني «شر» هذه المغناطيسية القوية، ولكني أخاف يا أستاذي أن يكون الحديد أكثر انجذابا، وأكون حينئذ أسأت من حيث أردت الإحسان ... صحيح أنني معجبة، ولا أزال، وسأبقى دائما، ولكن ألا ترى أن الإعجاب و... قد يتفقان أحيانا وقد يختلفان؟ ثم أليس ل ... معاني كثيرة وأساليب عديدة ...؟
تريد رأيي في صاحب القلب المسكين؟ أنت تعرفه جيدا، فلماذا تريد إحراجي ...؟
الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قل أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه، اسمع، سأبدي رأيي. لا، لا، ما بدي أقول، أستحي ...!»
وكانت تعرف من أمره مع «فلانة» ما قص عليها في رسائله، وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها ...
وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و«فلانة» ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا، فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسلة التاريخ!
إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها، ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقي!
هذه قصة فتاة يجد القارئ بين أولها وآخرها أشتاتا من تاريخ الرافعي، وفيها مثال يبين معنى ما سميته «النقلة الاجتماعية» في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل، على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أي حظ، وقد كان على أن يكتب - بما اجتمع له من فصول هذه القصة - مقالة بعنوان «الصابرة» جمع لها فيما جمع من نثار الأفكار قدرا غير قليل، وما أخره عن كتابتها - إلى أن وافاه الأجل - إلا انتظار الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع، وهكذا نجد شدة احتفال الرافعي بموضوع ما تكون سببا في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه.
كان يحتفل بكتابه «أسرار الإعجاز» فلم يتم، وبمقالتي «الزبال الفيلسوف» و«الصابرة» فلم يكتبهما، ولكن التاريخ لم ينس له.
مقالات منحولة
كثيرا ما تدعو الدواعي كاتبا من الكتاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه، ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالا في صحيفة من الصحف غير معزو إلى قائله أو مرموزا إليه رمزا ما، ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكتاب مقالة أو فصلا من كتاب، أو كتابا بتمامه، ثم ينسب ما ينشئه إلى كاتب غيره وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك، فثمة مقالات ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي من إنشائه وكد فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهدا عنها أو التماسا للنفع من ورائها، ولو أني أردت أن أستقصي ما عرف من ذلك لأغضبت كثيرا من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم، ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصا على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخا بعيدا عن التهمة، لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، ومعذرة إلى أصدقائي ... •••
في سنة 1911 أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبت عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكف الرافعي، ففي ذات يوم قصد إلى جريدة «المؤيد»، فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلا عنه، فقال زكي باشا: «وماذا تريدني أن أكتب؟» قال الرافعي: «تقول وتقول ...» قال زكي باشا: «فاكتب ما تشاء وهذا إمضائي ...!» وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة ...
وقرأ الناس في اليوم التالي مقالا ضافيا بإمضاء «أحمد زكي باشا» في تقريظ «تاريخ آداب العرب» شغل الصفحة الأولى كلها من الجريدة، ولكن أحدا من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!
ولهذه الحادثة أخوات مع زكي باشا نفسه، فإنه لما أنشأ نشيده «اسلمي يا مصر ...» قرأ القراء مقالا في الأخبار بإمضاء أحمد زكي باشا، يثني على النشيد ويطري مؤلفه، ولم يكن كاتب هذا المقال أحدا غير الرافعي، بل إن أكثر المقالات التي يراها القارئ في الكتيب الصغير الذي نشره الرافعي عن نشيده هذا
1
هو من إنشائه أو من إملائه!
وقد ظل هذا «التعاون» وثيقا بين المرحومين زكي باشا والرافعي إلى أخريات أيامهما، ومنه أن زكي باشا كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول ألفها الرافعي بتمامها وأعدها للإمضاء ... ولكن المنية أعجلت المرحوم أحمد زكي باشا عن إصدار هذا المعجم، وأحسبه ما يزال محفوظا بين مخلفاته المخطوطة. •••
ويمت بسبب إلى هذه المقالات التي كان ينحلها الرافعي صديقه زكي باشا، ما نحل أخاه المرحوم محمد كامل الرافعي من شرح ديوانه الذي أصدر منه ثلاثة أجزاء سنة 1903-1905، فإن شارحها هو الرافعي نفسه، وفيها عليه ثناء وإطراء.
2 •••
في الحادثتين السابقتين إشارة إلى بعض الأسباب التي كانت تحمل الرافعي على أن ينحل أصدقاءه بعض ما يكتبه، وهنالك أسباب أخرى:
في سنة 1917 وقعت في طنطا جريمة قتل مروعة، وكانت القتيل امرأة عجوزا مسموعة بالغنى والشح والكزازة، تزوجها قبيل مقتلها شاب من الشباب العابثين طمعا في مالها، فلم يلبث معها إلا قليلا ثم وقعت الجريمة!
وتوجهت التهمة أول ما توجهت إلى زوجها الشاب، ثم انصرفت عنه إلى أختها وزوج أختها فسيقا إلى قفص الاتهام، وكانا شيخين عجوزين، فيهما بلاهة وغفلة، فلم يستطيعا الدفاع عن نفسيهما وهيآ بغفلتهما وبلاهتهما الفرصة للمجرم الحقيقي أن يحوك حولهما الشبكة، وأن يصوب عليهما أدلة الاتهام لينجو هو من العقوبة ...
كان المجرم الحقيقي معروفا للجميع، ولكن المحكمة بما اجتمع لديها من براهين مصنوعة لم تجد أمامها غير هذين البريئين المغفلين، فألقت بهما إلى السجن المؤبد، وقضيا في السجن بضع سنين!
شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلى ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثما ... ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الاحترام، فلم تبق إلا الرحمة الإنسانية شفيعا من قسوة القانون.
وسعت أسرة السجينين إلى المحامي الأديب المرحوم حافظ عامر تطلب إليه أن يكتب استرحاما في أمرهما إلى أمير البلاد، لعل في عطفه ما يأسو الجرح ويخفف وقع المصاب، وجعلت له أجرا على ذلك مائة جنيه!
وماذا يقول المحامي في قضية فرغت المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟
ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض، لقد فات أوان ذلك كله فلم تبق إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدر العبرة ويحسن الاعتذار عن النفس البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد، ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة.
وقصد المرحوم حافظ عامر إلى صديقه الرافعي؛ ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفق في مسعاه.
وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب ...
وبلغت صيحته حيث أراد فأفرج عن السجينين في مايو سنة 1921.
وتناول الرافعي أجرته على ذلك من المحامي سبعة عشر جنيها، واستبقى المحامي لنفسه ثلاثا وثمانين ...
3
في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لون من أدب الرافعي غير معروف لقرائه، وفيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السمو، وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مثلها في أساليب الأدباء.
وقد ظل هذا «التعاون» الأدبي متصلا بين الرافعي وصديقه الأستاذ حافظ عامر إلى ما قبل موت الرافعي، ولكن هذا «التعاون» قد خرج من نطاق القضايا والمحاكمات إلى نطاق أدبي آخر ليس من حقي أن أتحدث عنه اليوم ... وعند الأستاذ الزيات بقية الخبر، تحدث به الرافعي إليه في مجلس ضمنا نحن الثلاثة ... •••
أشرنا في بعض ما سبق من هذه الطبعة إلى ما أجملنا ذكره في الطبعة الأولى من خبر «رسالة الحج» المنسوبة للمرحوم حافظ عامر قنصل مصر في جدة سابقا
4
على أن ما ذكرناه إجمالا في الطبعة السابقة لم تخف حقيقته عن كثير من القراء، ففهموا ما قصدنا إليه، وإن كنا لم نقطع برأي أو خبر في نسبة تلك الرسالة، وقد كتب إلينا صديقنا الأديب السيد حسين نصيف من جدة في سنة 1943 يقول: «إن هذه الرسالة ليست من تأليف حافظ عامر، ولا من إنشاء الرافعي، وإنما نقلها أولهما عن ترجمة إنجليزية مخطوطة لكتاب بالأردية عن «أسرار الحج»، ولم يكن يعلم أن النسخة الأردية قد نشرت على قرائها في الهند قبل ذلك بسنين، وأن ترجمتها الإنجليزية قد سبقت النسخة العربية التي نشرها حافظ عامر في القاهرة بمعونة صديقه الرافعي»، ولكي يبرهن صديقنا الأستاذ نصيف على دعواه بعث إلينا بالنسخة الأردية لنوازن بينها وبين رسالة حافظ عامر، فدفعناها إلى صديقنا الأستاذ محمد حسن الزيات - رد الله غربته - ليقارن بين الأصل و«الصورة» ففعل، ولا تزال تلك النسخة الأردية عنده حتى اليوم، وقد نشرت مجلة «الرسالة» في ذلك الحين دعوى السيد حسين نصيف والرد عليها، وتناولنا موضوعها بالتعليق في بعض ما كنا نكتبه وقتئذ في مجلة «الثقافة» بتوقيع «قاف» تحت عنوان «الصحافة والأدب في أسبوع».
فإذا صح هذا الذي رويناه - ونحن نميل إلى تصحيحه - فإن عمل الرافعي في تلك الرسالة التي نشرها المرحوم حافظ عامر منسوبة إليه، لا يعدو عمل المنشئ وصاحب البيان لفكرة زعم له صديقه أنها فكرته! •••
ونعود إلى حديث المقالات المنحولة فنقول: في شهر ديسمبر من سنة ما، قصد الأستاذ جورج إبراهيم صديقه الرافعي، يطلب إليه أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسية في ليلة عيد الميلاد ...
وكتب الرافعي المسلم كلمة مسلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه، وألقتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين المثقفين فخلبت ألبابهم واستحقت منهم أبلغ الإعجاب.
وفي الشهر التالي كانت هذه الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في «المقتطف» منسوبة إلى الفتاة، وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلا من الإنجيل.
تحت يدي الآن النسخة الأصلية من هذه الخطبة مكتوبة بخط الرافعي، وهي النسخة التي بعث بها إلى صديقه الأستاذ جورج ليدفعها إلى الفتاة، وفي صدرها بخطه إلى صديقه:
هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة، فنقح فيه ما شئت، واضبط لها الكلام، والسلام.
وفي آخرها يتفكه مع صديقه:
وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة، والمضرة، والمعرة يا عم جورجي.
وكان المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي - صهر الرافعي - من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المقربين، وكان أدنى إليه منزلة من كثير من تلاميذه، على أن تأثره به كان من الناحية الأدبية وحسب، على حين كان تلميذه المقرب المرحوم السيد رشيد رضا مخصوصا بالرواية عنه في الناحية الدينية، فكلاهما من تلامذة الأستاذ الإمام، ولكن لكل منهما نهجه وشرعته.
فلما هم البرقوقي أن يصدر مجلة البيان
5 - وكان السيد رشيد رضا قد سبقه بإصدار مجلة المنار - قصد البرقوقي إلى الرافعي يقول له: «إنني لا أتصور كيف يصدر العدد الأول من «البيان» وليس فيه كلمة أو حديث أو مجلس من مجالس المرحوم الأستاذ الإمام أصفه لقرائي، وأنا كنت أدنى إليه مجلسا من رشيد رضا الذي لا يكاد يصدر عدد من مجلته - المنار - إلا وفيه حديث أو خبر أو مجلس من مجالس الشيخ!»
قال الرافعي: «فابدأ العدد الأول بما شئت من حديثه أو مجالس درسه!»
قال البرقوقي: «ولكني لا أجد عندي ما أرويه عن الإمام، لقد ترك الشيخ في نفسي أثره، ولكنه لم يترك في ذاكرتي من حديثه ومجالسه شيئا يستحق الرواية.»
قال الرافعي: «... ولا بد من ذكر شيء عنه في البيان؟»
قال: «بلى، وإلا غلبني رشيد رضا واستطال علي عند قرائه بأنه هو وحده تلميذ الإمام وراويه!»
وضحك الرافعي وأطرق هنيهة، ثم تناول قلما وورقة وكتب ...
وصدر العدد الأول من مجلة البيان، وفيه حديث يرويه البرقوقي عن الشيخ محمد عبده في مجلس من مجالس درسه، بأسلوب من أسلوبه وروح من روحه وبيان في مثل بيانه، وما قال المرحوم الإمام شيئا من ذلك ولا تحدث به، ولكنه حديث مصنوع وضعه الرافعي على لسان الأستاذ الإمام ونشره البرقوقي ليقضي لبانة في نفسه ... ... ألقى إلي الرافعي هذا الحديث ساخرا، ثم دفع إلي العدد الأول من مجلة البيان وهو يقول: «اقرأ، أترى هذا الحديث من مهارة السبك بحيث يجوز على القراء أنه من حديث الأستاذ الإمام؟»
وضحكت وضحك الرافعي، وعاد يقول: «ولكن تمام الفكاهة أن السيد رشيد رضا لما قرأ هذا الحديث المصنوع، التفت إلى جلسائه قائلا: وأي حديث هذا الذي يبدأ به البرقوقي مجلته؟ لقد كنت حاضرا مجلس الشيخ، وسمعت منه هذا الحديث، ولكني لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته ...!»
6 ... واستمر هذا «التعاون» أيضا بين الرافعي والبرقوقي طول المدة التي كانت تصدر فيها مجلة البيان، فأي مقال قرأت من أعداد هذه المجلة فشككت في نسبته إلى مذيله باسمه، فاحمله على أنه مما كتب الرافعي من الأدب المنحول ...
ومن ذلك مقدمة شرح ديوان المتنبي الذي نشره البرقوقي.
ويدخل في هذا الباب كثير من المقالات كان الرافعي يكتبها بأسماء طائفة من ناشئة المتأدبين؛ ليدفع عن نفسه في معركة، أو يدعو إلى نفسه لمغنم، أو ليعين صاحبا على العيش، أو ليوحي إلى «صاحب الإمضاء» إيحاء يدفعه إلى الاستمرار في الأدب والأمل في أن يكون غدا من الكتاب المشهورين ... وليس يعنيني في هذه الناحية أن أسمي أحدا أو أشير إليه؛ إذ كان الذي كتبه من ذلك ليس له من القيمة الأدبية ما يدعونا إلى الحرص على تصحيح نسبه، وأكثره لغو مما ينشر في بعض الصحف لملء الفراغ.
من شئونه الاجتماعية
لم يكن الرافعي عضوا في جماعة من الجماعات، ولا منتسبا إلى حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف؛ إذ كان يؤثر الوحدة والاستقلال في الرأي، وكان من التعصب لرأيه والاعتداد بنفسه بحيث يأبى أن ينزل عن رأي يراه مجاملة لصديق أو خضوعا لرأي جماعة ينتسب إليها، وكان له من علته سبب آخر نبهت إليه عند الحديث عن نشأته، ثم إن الرافعي لم يكن رجلا اجتماعيا يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوب الناس فيما يليق وما لا يليق، فهو لا يعتبر إلا رأيه، أو حاجته، أو مصلحته، فيما يكون بينه ويبن الناس من صلات، ولم يكن يعرف هذا النفاق الاجتماعي الذي يسميه الناس التقاليد، أو الأدب اللائق ... فهو بذلك كان عالما منفردا يسير في نهجه إلى الهدف المؤمل على وحي الفطرة أو هدي الإيمان، سم هذا شذوذا في الخلق، أو سمه استقلالا في الرأي وأسلوبا من التعبير عن الشخصية المتميزة بخصائصها، فما يعنيني هنا إلا إثبات هذه الحقيقة في التاريخ كما شهدتها في معاملاته وفي صلاته بالناس، وكما لمحتها في جملة من أحاديثه. ... هذه الأسباب هي أهم ما كان يباعد بين الرافعي والاشتراك في الجماعات، أو يباعد بينها وبينه!
على أن ذلك لم يكن يمنعه أن يكون هواه مع جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب في وقت ما لسبب ما، ولم يمنعه ذلك أن يكون عضوا في بعض الجماعات.
وأول أمره في ذلك - على ما أعرف - أنه شرع وهو شاب لم يجاوز العشرين في تأليف جماعة من الشباب تدعو إلى نوع من الإصلاح الديني، وكان معه على هذا الرأي صديقان من أترابه، أذكر منها الأستاذ عبد الفتاح المرقي المحامي بطنطا، وقد اتخذوا «مسجد البهي» في طنطا مكانا لاجتماعهم وتبليغ دعوتهم، وطنطا كما قد يعرف كثير من القراء، مركز هام من مراكز الثقافة في مصر، وفي أهلها حفاظ وتحرج، ولها صبغة دينية نشأت من أن فيها معهدا دينيا كبيرا في «الجامع الأحمدي» كان في وقت ما يشتد عدوا في مسابقة الجامع الأزهر بالقاهرة، والأزهريون في طنطا كالأزهريين في القاهرة، إلى عهد قريب، أكثر أهل العلم في مصر حفاظا على القديم، وأسرعهم إلى سوء الظن بكل إصلاح جديد، من ذلك لقي الرافعي وصاحباه في دعوتهم ما لقوا من عداء طلبة الجامع الأحمدي وعلمائه، حتى هم الطلبة مرة أن ينالوهم بالأذى في أبدانهم ... فلم يجد الرافعي وصاحباه في النهاية بدا من التسليم، وانحلت الجمعية الرافعية الصغيرة.
حدثني الرافعي حديث هذه الجمعية في خريف سنة 1932 بعد ثلث قرن مما كان، وكنت ذهبت إليه يومئذ في وفد ثلاثة ندعوه إلى الاشتراك معنا في جماعة أنشأها بطنطا في ذلك الوقت باسم «جماعة الثقافة الإسلامية» تدعو فيما تدعو إلى العمل على إحياء الشعور بمعنى القومية الإسلامية العربية، واتخذت لذلك وسائل وشرعت نهجا، وكانت تضم فيمن تضم طائفة ممتازة من أهل الرأي والعلم والأدب لكل منهم صوت ورأي وجاه في قومه ...
ولبى لرافعي دعوتنا بعد تمنع، وانتظمت الجماعة على رأي واحد إلى هدف واحد، فلما استكملنا الأهبة، دعونا الشباب المثقفين في طنطا إلى اجتماع عام في ناد كبير، وكان الرافعي من خطباء الاجتماع.
صعد الرافعي إلى المنصة، فوقف برهة يجيل نظره في ذلك الجمع الحاشد، ثم انطلق في خطبته.
وعلى أن الدعوة إلى الاجتماع كانت عامة، وعلى أن موضوعه هو الثقافة الإسلامية، فإنه لم يشهد هذا الاجتماع من شيوخ «الجامع الأحمدي» ومدرسيه غير ثلاثة من الشيوخ، وطائفة غير قليلة من المدرسين غير الشيوخ، ولم يفت الرافعي أن يلاحظ ذلك، فمال في خطبته إلى هذه الناحية، ينعى على شيوخ الأزهر أن يتجاهلوا واجبهم في مثل هذه الدعوة، وأن يؤثروا القعود على الجهاد! وكان فيما قاله: «إن أديبا كبيرا من وزراء الدولة قد قالها مرة منذ ثلاثين سنة: لو قعد حماري في الأزهر خمس عشرة سنة لخرج عالما! وما نحب أن يقولها اليوم أحد ليلحد في كفاية طائفة من أهل العلم والدين هم أكرم علينا ...!»
قالها الرافعي في حماسة وانفعال وفي لهجة خطابية ثائرة، فسمع المجتمعون همهمة عن يمينه وشماله، أما عن يمينه فكان الشيوخ الثلاثة قد آذاهم ما قال الرافعي، وأما عن الشمال فكان طائفة من المدرسين غير الشيوخ في الأزهر قد خافوا أن تؤول كلمة الرافعي تأويلا ينالهم بالشر من إخوانهم الأزهريين ...
وعلى أن الرافعي كان بريء الصدر فيما قال، وعلى أن الأزهريين كانوا يعلمون قبل غيرهم أن هواه معهم، وعلى أن صدر كلامه وخاتمته لم يكن ينبئ عن قصد الإساءة، فإن هذه الكلمة التي قالها قد أحدثت دويا بين الأزهريين تهدد الجماعة في نشأتها.
وسعى ساع إلى شيخ الجامع الأحمدي «المرحوم الأستاذ محمود الديناري» فأنبأه أن الرافعي قد قال في خطبته: «لو قعد حماري في الأزهر بضع سنين لخرج أعلم من شيخ الأزهر ...!»
وكتبها كاتب في رسالة خاصة إلى المرحوم الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر ...!
وتسامع بها الشيوخ على ما حكاها الراوي فراحوا يتناولون الرافعي وجماعته بما وسعهم من التجريح في أعراضهم ودينهم ومقاصدهم، وقال قائل منهم، «وما حاجتنا إلى هذه الجماعة فيما تدعو إليه؟ لقد انتشر الإسلام ومد ظلاله في العالم على حد السيف، فما يغني غناءه في هذه الدعوى كاتب يكتب أو خطيب يخطب!»
وامتدت هذه المقالة الطائشة على لسان طائفة ...
وعرف الطلاب من الأمر ما عرفوا فأعلنت طائفة منهم الحرب، وسعت طائفة أخرى في وفد إلى مدير المديرية تطلب إليه أن يقمع هذه الفتنة بسلطانه، واصطبغت المشكلة صبغة سياسية؛ إذ كان للأزهريين يومئذ في السياسة دولة وسلطان.
وإذا اتصل الأمر بالسياسة، فإن طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة قد فزعوا فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقت طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفدا إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويمحو سوء الظن ويعتذر ... ولكن شيخ الجامع رد الوفد ردا غير جميل وقال عن الرافعي ما قال ...
وجاء الخبر إلى الرافعي بما أحدثت كلمته، فما أفزعه من ذلك إلا أن يصدق شيخ الأزهر ما نقل إليه منسوبا إلى الرافعي وإنهما لصديقان من زمان ... فكتب إليه: ... وإن شيخا من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف! وهذا كلام، وسيبقى كلاما ما دمت ساكتا عنه، فإذا عرضت له بالمناقشة فقد تغير وجهه، لو كان وجه النهار لاسود.
وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه بما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي ...
وكان الرافعي جالسا إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي، فرده، وعاد يدعوه ثانية ويلح في الرجاء، فحدد الرافعي موعدا.
وذهب إلى لقاء الشيخ، فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعوا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ، قال الرافعي: «ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه «إعجاز القرآن» فما لقيني حتى قال: أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقا خيرا منه، إنه زادي وعمادي. ثم عيث في درج مكتبه قليلا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إلي وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه، لا أجد من يصلحها خيرا منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!»
قال لي الرافعي: «وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي، طاعة لأمر شيخ الأزهر بعد الذي قال عني منذ أيام ...»
تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تبق على الجماعة، فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسة يومئذ حديث طويل ...
ولم يشترك الرافعي - على ما أعلم - في غير هاتين الجماعتين. •••
ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علما أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين - لا أذكر - إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله، فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة 1912.
على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له، ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به، ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية، فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفرا بأمنية عزيزة؛ لأنه أتاح له أن يتنقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، حتى ما يكاد يستقر في بلد، فيوما في القاهرة، ويوما في الإسكندرية، ويوما في بورسعيد، يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه، حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية، فأحس شيئا من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بورسعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد ...
وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الإبراشي مما فصلت مجمله في فصل سابق، وكان الرافعي قد قصد إليه يطلب إليه مد أجل هذا الجواز بعد انتهائه!
وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له؛ ليفيد من ذلك شيئا يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما ...
كان يسمي السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما، فلكليهما أثر متشابه في نفسه، وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!
وكم كان ظريفا أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلا: «هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟» يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة؛ لأن كلمة «خارج القطر» كانت عنده علما عرفيا على السيما لا يحتاج إلى تعليق! •••
وكان عجيبا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنادي الموتى والأحياء، وكان يؤمن بالسحر والعرافة، وكثيرا ما كنت تسمع منه: «حدثتني نفسي ... ألقي إلي ... هتف بي هاتف.» وكان يعني ما يقول على حقيقته، جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل ... وعلى حين غفلة سكت، ثم قال: «كيف صديقنا مخلوف؟» قلت: «لم أره من زمان!» قال: «إنه قادم الساعة ... لقد ألقي إلي ... أحسبه الآن يصعد في السلم ...!» فما كاد يتم حتى دق الجرس، وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفا: أكان على موعد مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!
وسألني مرة أخرى: «ماذا تعرف عن صديقنا «م»؟» قلت: «لا جديد من أخباره!» قال: «يهتف بي الساعة هاتف أنه في شر!» وفي صباح اليوم التالي كان نبأ شروعه في الانتحار منشورا في الصحف! وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة ما يبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئا!
وكان بينه وبين رجل قضية، فغاظه، وجاءني الرافعي يوما محنقا وهو يقول: «سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب!» وفي الغد جاءنا نعي الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذ، فتندت عيناه بالدمع، وتناول سبحته وأخذ يتمتم في صوت خافت وشفته تختلج من شدة الانفعال!
هذه حوادث ثلاث رأيتها بعيني، ولعلها من عجائب الأخبار عند بعض القراء، وأحسبني قد رأيت له غير ذلك، ولكني لا أتذكره الآن ...
وحدثني أن أباه كان مسافرا مرة إلى بلد ما، وكان عليه صلاة، فافترش مصلى وأخذ يصلي على رصيف المحطة، وإنه لكذلك إذ جاء القطار، قال الرافعي: «وكان أبي حريصا على ميعاد هذه السفرة، يخشى شيئا لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره ما يتسع لصلاة الشيخ، ولكن الشيخ استمر في صلاته على ونى واطمئنان، وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته واطمأن في كرسيه وحيا مودعيه ووصى، وكان سبب تأخير القطار شيئا غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة!»
وأحسبه ذكر مرة في بعض ما كتب، كيف ثقل نعش أمه على كتفه ثم خف! وأخبرني أنه لما مات أخوه المرحوم محمد كامل الرافعي استحضر روحه فلبت نداءه، وكان بينهما حديث لا أذكره، وحاول مرة أن يعلمني وسيلة لتحضير الأرواح، ولكني لم أتعلم!
وكان يحفظ كثيرا من الأدعية والدعوات لأسبابها!
ولما وقع في حب «فلانة» ونال منه الوجد بها، لجأ إلى العرافين في أمل يأمله، فكتب تميمة فعلقها في خيط فربطها في سارية بأعلى الدار تتلاعب بها الريح ...
1
قال: «ولكن أمورا عجيبة مفزعة وقعت لي ولأهلى ولسكان الدار جميعا في خلال اليومين اللذين كانت التميمة معلقة فيهما، فأيقنت أن ذلك من ذلك، فإن لكل تميمة غايتين: إحداهما مما تأمل، وثانيتهما مما تخاف، وكان ما وقع لي وما يتهددني من شر، أكبر عندي من الأمل الذي كنت أرجو، فندمت على ما كان، وتسللت إلى السطح فحللت رباط التميمة وفضضت خاتمها ... قال: فما فعلت ذلك حتى عادت الأمور تسير على عادتها في رفق وأناة، وزال ما كنت أحذر وهدأت نفسي من ناحيته، فما كان شأني في الحالتين إلا كراكب سفينة هبت عليها عاصفة ثم قرت! ... قال: وما كان الذي وقع لي في هذين اليومين مما يقع في العادة، ولا كانت نهايته وقد فضضت خاتم التميمة بالنهاية التي تنتظر ...!»
وكان يؤمن إيمانا لا شك فيه بأن يوما ما سيأتي فيرتد إليه سمعه بلا علاج ولا معاناة؛ لأن بشيرا من الغيب هتف بهذه البشرى في نفسه، فهي لا بد واقعة! وقد مات وعلى مكتبه رسالة من صديقه المرحوم فليكس فارس يشير عليه بتجربة لترد عليه سمعه الذي فقده منذ ثلاثين سنة أو يزيد، ورسالة أخرى من صديقه المرحوم حافظ عامر فيها شيء يشبه ذلك!
وأحسبه قال لي مرة أو مرات وكنت جالسا أتحدث إليه: «ارفع صوتك بالحديث لعل الساعة الموعودة قد حانت، فأسمع ما تقول!»
ولو أنني ذهبت أستقصي ما أعرف من مثل هذه الأخبار ما وسعني الوقت، وفي بعض ما قدمت الكفاية لمن يلتمس أسباب العلم. •••
وكان الرافعي ولوعا بالرياضة البدنية من لدن نشأته، يعالج أسبابها في أوقات رتيبة، وكان المشي الطويل أحب رياضة إليه.
خرجت مرة في جماعة من صحبي يوم «شم النسيم» للرياضة بعيد الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بعد ميل من المدينة والشمس لما تشرق، لمحت الرافعي على بعد يخب في مشيته على حافة قناة بين زرعين، فلما دنوت منه رأيته يميل فيبلل كفه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط، وأقبلت عليه أسأله، قال: «هذه رياضة تحلو لي كثيرا، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحيانا أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان ...» قلت: وهذا الندى الذي تغسل به وجهك؟ قال: «إنه ينضر الوجه ويرد الشباب!» ثم سأل: «وأنتم أين تقصدون؟» قلت: هذه رياضة لا نقوم بها في العام إلا مرة، وإن معنا لطعاما وماء وحلوى، فهل تصحبنا؟
قال: «وددت، ولكن في غير هذا اليوم ... أسأل الله لكم العافية!»
ونالنا في هذا اليوم شر لم نتوقعه، فعدنا قبل أن ينتصف النهار محزونين! ... وسمع الرافعي بما نالنا فقال: «هو ذلك! إن الشر ليتربص بالمسلم الذي يحتفل لهذا اليوم أكثر مما يحتفل لمطلع المحرم! هذه وصية أب!»
2
وكان يعالج كثيرا من وسائل الرياضة غير المشي، وقد أتقن تمرينات «صاندو» الرياضي الفرنسي المشهور ...
ولو أن أحدا دخل منذ سنوات الغرفة التي كان فيها مكتب الرافعي، لرأى «عقلة» تتدلى من السقف، وكرات وأساطين من الحديد ملقاة إلى جانب، وأثقالا من أثقال الرياضة مسندة إلى الحائط.
وقد كان إلى قريب يملك عودا طويلا من الحديد الغليظ يعلق في طرفيه ولديه الشابين سامي ومحمد، ثم يرفعهما بيده كما يفعل أبطال الحمل حين يحملون من أثقال الحديد ...!
وكان ولعه بالرياضة يحمله على السعي إلى أبطالها يلتمس صداقتهم، ومن أصدقائه المصارع الكبير المرحوم عبد الحليم المصري، والبطل المصري المشهور السيد نصير!
ومن عجائب الازدواج في شخصية الرافعي أنك كنت تنظر على مكتبه ثلاث صور لا تجتمع في مكان: هي صورة المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وصورة الرياضي الفرنسي المشهور صاندو ، وصورة ... كريمان هانم خالص، ملكة الجمال التركية في وقت ما، واسترعى اجتماع هؤلاء الثلاثة ملاحظتي ذات يوم، فقال وأشار إلى صورتي صاندو والشيخ محمد عبده: «هاتان قوتان تعملان في نفسي: قوة في روحي، وقوة في جسدي!»
قلت: «وهذه ...؟»
قال: «وهذه ...! ما أجملها! انظر! ألا تقرأ شعرا مسطورا على هذه الجبين؟»
وكان سباحا ماهرا، وكانت له جولات في السباحة يشهدها شاطئ سيدي بشر في الصيف، وكان يقصد هو وأسرته للاستحمام جانبا من الشاطئ غير مطروق لعنفوانه وشدة موجه، وكان يمزح ويسميه «بلاج الرافعي»؛ إذ قل أن يقصد إليه للاستحمام أحد من المصطافين في سيدي بشر غير الرافعي وأسرته.
ولا يطعن في قدرة الرافعي على السباحة أنه أوشك أن يغرق مرة، كان ذلك قبل منعاه بأشهر، وكاد يغرق معه طائفة من أولاده، لولا أن أسرع حارس الشط لنجدتهم.
وللرافعي صورة طريفة تصورها منذ بضع عشر سنة، وتمثله في زي أبطال الرياضة المشهورين، عاري الجسد، بارز العضلات!
وله مقالات مشهورة عن الرياضة البدنية، نشرها مسلسلة في مجلة «المضمار» الرياضية التي كانت تصدر في القاهرة منذ بضع عشرة سنة.
وكانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوته العصبية أيضا، ومن هاتين كان اصطبار الرافعي على العمل الشاق فيما يعالج من شئون الأدب.
ولكنه وا أسفا! ... قد مات بغير علة؛ لأن القدر أقوى من احتيال البشر! •••
قلت في أول هذا الفصل: «إن الرافعي لم يكن رجلا اجتماعيا يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوب الناس فيما يليق وما لا يليق ...»
فلعل قراء الصحف المصرية ما يزالون يذكرون ذلك الإعلان المشهور الذي كان يطالعهم في كل جريدة وكل مجلة عن «الفسفورين» وفي رأسه صورة الرافعي وشهادة بخطه عن مزايا الفسفورين الذي «شربه فكأنما شرب فيه الكهربا ...»
ولعل كثيرا من الذين قرءوا هذا الإعلان ورأوا في رأسه صورة الرافعي وشهادته بخطه، قد عجبوا وسألوا أنفسهم: كيف يرضى رجل كالرافعي أن يضع نفسه هذا الموضع؟
ولعل كثيرا منهم كذلك كانوا يعتقدون أن الرافعي لم يكتب هذا الإعلان إلا مأجورا كما يؤجر «نجوم » السيما وملكات الجمال على الإعلان عن صنوف العطر والصابون وأدوات الزينة ...! ... ولكن هذا الذي كان يدور في خلد جميع القراء، أو أكثر القراء، لم يكن يخطر للرافعي أو يدور بخلده، بل لعله كان يراها مفخرة له على أدباء الجيل أن يؤخذ بشهادته من دونهم جميعا، وأن تنشر صورته كل يوم في كل جريدة مع لقب «إمام الأدب وحجة العرب ...» الذي نحله إياه الأمير شكيب أرسلان في بعض ما كتب عنه! وأحسبه قال لي مرة: «إن الأديب فلانا ليأكله الغيظ كلما رأى هذه الصورة مقترنة إلى هذا اللقب الذي لا يتطاول إليه أديب من أدباء الجيل!»
أتراه كان يعتبرها شهادة منه بفائدة الفسفورين، أم شهادة من الفسفورين بإمامته ...؟
ولكنه - يرحمه الله - لم يكن يعرف من تقاليد الناس ما يؤهله ليرى أن نشر صورته مع مثل هذا الإعلان عمل لا يليق!
والسبب الذي دعاه لكتابة هذا الإعلان، أنه ذهب مرة ليشتري دواء من صيدلية، فأهدى إليه من أهدى شيئا من الفسفورين زعم أنه يعينه على المجهود العصبي الذي يبذله في معاناة الأدب، ثم دعاه بعد إلى كتابة هذا الكتاب، فلما أجابه الرافعي إلى ما طلب، بعث إليه في منزله بهدية من مركبات الفسفور في صندوق ... ثم كان كتاب الرافعي - كما رآه القراء - إعلانا بأبخس الأثمان، وهو راض مسرور!
وثمة إعلان آخر غير هذا الإعلان، نشره منذ سنين في مجلة المقتطف،
3
يشيد بفن مهندس مشهور؛ لأنه وضع له رسما لمنزله الذي مات قبل أن يبنيه، وكان هذا الإعلان هو كل أجر المهندس على الرسم الذي وضعه!
وإلى القراء هذا الإعلان أثبته هنا طرفة أدبية لا يقع القراء على كثير من أمثالها ...!
إلى المهندس النابغة الأستاذ رمسيس ...
عزيزي الأستاذ رمسيس
تأملت رسمك الجميل الذي وضعته لمنزلي، وتتبعت مواضع الاتصال فيه بين قريحتك المبدعة، وبين شكل الطبيعة وروحها، فأشهد لكأن هذا الرسم بما فيه من القوة يحاول أن يحيا في نظر من يتأمله.
إنك بهذا الذوق السلم الحي لتعطينا السرور في شكل من الفن، حتى لو ملك المالك رقعة من الأرض كالبقعة من الظلمة لوضعت لها من هندستك غرة فجر يضيء عليها.
وأراك بهذه الدقة وهذا العلم كأنما ترغم الطبيعة أن تقدم لك حسابا عن كل مكان تتناوله منها، وأحسبها لو هي صنعت بناء كما تصنع ثمارها وأزهارها لجاءت به في موضعه على الرسم الذي تتخيله أنت لموضعه، كأنك أعطيت بالعلم سر إظهار الجمال في أشكاله كما أعطيت هي بالقدرة سر تكوين الأشكال في جمالها ...
ما أبدع ما تمزج أيها الساحر بين القريحة والمادة! وما أدق ما تصل بين الجمال والمنفعة! وما أكمل ما تحقق بين المخيلة والواقع! إن هذه الخطوط التي رسمتها لتكون ميلاد بيت جميل، هي نفسها ميلاد فن بليغ يقيم لك بناء فخما من إعجاب محبك!
مصطفى صادق الرافعي
ديسمبر سنة 1928
وقد طبع الأستاذ رمسيس من هذا الكتاب آلاف الصور؛ ليكون إعلانا عن فنه بشهادة الرافعي، وحسبك بها من شهادة! •••
ولئن كان في هذين الإعلانين الكفاية لإثبات ما قدمت من وصف أخلاقه الاجتماعية، إن في الحادثة التالية لشاهدا حقيقا بالنظر: عاد الأستاذ حافظ عامر من الحجاز ذات سنة في إجازته، فأهدى إلى الرافعي سبحة نادرة لمناسبة عودته، زعم له أنها تساوي بضعة جنيهات.
وعرض الرافعي السبحة علي وقال: «كم تساوي؟» قلت: «لا أدري!» قال: «فهل لك أن تقومها في السوق؟» فذهبت بها - ولم أكن أعرف أنها مهداة إليه - فلم أجد لها شبيها في السوق، ولكن تاجرا أنبأني أنها لا تساوي أكثر من جنيه!
وأنبأت الرافعي بما سمعت، فما لبث أن تناول قلمه وكتب رسالة إلى صديقه يعتب عليه أن يغالي بقيمة الهدية إلى خمسة أمثالها!
وعلمت بعد بما كتب الرافعي فتألمت لذلك ولم أكتم عليه رأيي، فنظر إلي مدهوشا، وهو يقول: «أتراه خطأ أن أكتب إليه بهذا ...؟»
قلت: «نعم!» فسكت هنيهة ثم قال: «وهل تراه يغضب لهذا؟»
قلت: «أظن!»
فعاد إلى سكوته وفي وجهه الأسف!
وجاءه بعد يومين جواب صديقه بالبريد، فيه عذل، وفيه عتاب، وفيه ورقة بجنيه يطلب إليه أن يشتري به سبحة مثلها إن وجد ...!
وقرأ الرافعي رسالة صديقه، وكان حريا أن يشتد به الأسف لجواب صديقه، لولا أن هذا الجنيه قد محا ما كان في نفسه ... فاستبقاه لنفسه ...!
في يومه الأخير
في الساعة الثانية بعد ظهر الأحد 9 مايو سنة 1937، نهض الرافعي عن مكتبه في المحكمة منطلقا إلى داره، يرافقه صديقه الأديب أمين حافظ شرف - وهو كان رفيق أوبته كل يوم - وتحت إبطه عديد من الكتب والصحف والمجلات، تعود ألا يسير إلا ومعه مثلها، وفي يمناه عصا لا يعتمد عليها، ولكنه تعود ألا يمشي إلا بها.
وافترق الصديقان وبينهما ميعاد على اللقاء مساء في مكان ما؛ ليذهبا معا لمشاهدة فرقة راقصة هبطت المدينة منذ قريب، وتغدى الرافعي وصلى الظهر ونام، ثم نهض بعد ساعتين، فصلى العصر وجلس إلى أولاده يداعبهم ويمزح معهم ويتبسط لهم، على عادة تعودها، ثم ذهب إلى عيادة ولده الدكتور محمد حيث لقي هناك أخاه الدكتور محمد النبوي، وصهره الأستاذ مغازي البرقوقي، فجلس يمزح ويضحك ويتندر أكثر مما عرف عنه من المزاح والضحك والتندر في يوم من الأيام، ثم صلى المغرب والعشاء في العيادة، وصحب أخاه إلى مأتم جار من العامة ليعزيا أهله، والمعروف عن الرافعي أنه كان يكره حضور المآتم وتقديم التعازي كراهة ظاهرة، وقلما كان يشاهد في مأتم، حتى إنه لما توفيت زوج ابنه سامي، لم يجلس في المأتم إلا لحظات، ثم انفرد في خلوته يستوحي الحادثة مقاله المعروف «عروس تزف إلى قبرها!» وجاء المعزون يلتمسون الرافعي فلم يجدوا إلا ولده وصهره ...
1
أفكان الرافعي بحضور هذا المأتم في يومه الأخير يريد أن يصل نسبا ويعقد آصرة بالعالم الثاني، أم كان ذلك ميعادا إلى لقاء قريب ...!
ثم ذهب الرافعي بعد التعزية إلى موعد صديقه ماشيا، واتخذ طريقهما راجلين إلى حيث أرادا، فتفرجا، وشاهدا ما شاهدا في الحفلة الراقصة، وأخذ الرافعي ما أخذ من وحي الراقصات لفنه وأدبه، وأخذ صديقه ما أخذ ...
أفكان الرافعي يريد من هذه السهرة أن يصل ما انقطع من قصة «الجمال البائس» و «القلب المسكين» و«في اللهب ولا تحترق» ...؟ ... وفي منتصف الساعة الثانية عشرة، كان الرافعي في طريقه إلى بيته، بعدما ودع صديقه في منتصف الطريق، فلما بلغ الدار، خلع ثيابه، وتناول عشاء خفيفا من الخبز والبطارخ، والبطارخ كان طعام الرافعي الذي يحبه ويوثره على كل طعام في المساء؛ لأنه كان يؤمن بفائدته لأعصابه، وكان يستورده من بورسعيد جملة.
واستيقظ مع الفجر على عادته كل يوم، فتوضأ وصلى، وجلس في مصلاه يسبح ويدعو ويتلو قرآن الفجر، وأحس بعد لحظة حراقا في معدته، فتناول دواء وعاد إلى مصلاه، وصحا ولده الدكتور محمد لموعده، فشكا إليه ما يجد في معدته، وما كان إلا شيئا مما يعتاده ويعتاده الناس كثيرا من حموضة في المعدة، فأعطاه ولده شيئا من دواء وأشار عليه أن ينام، ثم لبس محمد ثيابه ومضى ليدرك القطار الأول إلى القاهرة كعادته كل يوم، ومضت ساعة ثم نهض الرافعي من فراشه لا يحس ألما ولا يشكو وجعا وما به علة، فأخذ طريقه إلى الحمام، فلما كان في البهو سمع أهل الدار سقطة عنيفة أحدثت صوتا شديدا، فهبوا مذعورين ليجدوا الرافعي جسدا بلا روح!
قال الدكتور محمد: «ولما وجدت البرقية تنتظرني في محطة القاهرة وليس فيها سبب ما يدعونني إليه، تحيرت حيرة شديدة، بلى، قد أيقنت أن شيئا حدث وأن كارثة وقعت، ولكن لم يخطر في بالي قط أنه أبي، لقد تركته منذ ساعتين سليما معافى قوي القلب أقوى ما يكون قلب رجل في سنه ... كل المفاجآت المروعة قد خطرت في بالي إلا هذا الخاطر، ولكن ... ولكن الذي مات كان أبي ...!»
يا صديقي، لك العزاء ولي، أحسبت أن الرافعي سيموت في فراشه وهو قد نذر أن يموت في الجهاد وفي يده الراية ينافح بها الشرك والضلال ويدعو إلى الله «ويواصل حملة التطهير ...؟»
2
طبت نفسا يا مصطفى! لكم كنت تخشى الهرم والمرض والزمانة ولزوم الفراش وثقل الأيام التي تعد من الحياة وما هي من الحياة! فأي كرامة نلت؟ وأي مجاز جزت؟ وهل رأيت الطريق بين الحياتين إلا ما كنت تريد؟ وهل كانت إلا خفقة نفس نقلتك من ملأ إلى ملأ أرحب في كنف الخلد وفي ظلال الجنة؟
يرحمك الله يا صديقي، ويرحمنا! •••
وحمل جثمانه بعد ظهر الإثنين 10 مايو سنة 1937، إلى حيث رقد رقدة الأبد في جوار أبويه من مقبرة الرافعي بطنطا، لم يشيعه إلا بضع عشرات من زملائه في المحكمة، أو من جيرانه في الدار!
وبلغ نعيه أقطار العرب وأدباء العربية، فسكت القارئ وتلفت السامع، وتغشى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض.
وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكر بما كان وتنبه إلى ما ينبغي أن يكون ...
وهمس هامس: «يرحمه الله! لقد كان رجلا للدين وللعربية، هيهات أن تجد بديلا منه أو ينقضي زمان من عمر التاريخ!»
ثم عاد الصمت، وعاد السكون، إلا النظرات الشاردة، والخواطر المائجة، والذكريات والأماني ...
وهتف هاتف في جلال الصمت وفي وحشة السكون: «إن للفقيد لحقا على اللغة، وحقا على المسلمين، لا يجزئ فيهما أن نقول: يرحمه الله!»
وتدانت الرءوس، وتجاوبت النظرات، وانثالت الأفكار، وتزاحمت الأماني، ثم لم يلبث أن عاد الصمت وعم السكون!
ثم عاد القارئ يقرأ، وأنصت السامع يسمع، وانتحى اثنان يداولان الرأي في شأن من شئون الأدب، وتماسك اثنان يفاضلان بين الجديد والقديم، وغامت في سماء الندي غائمة، وانعقدت على رءوس السامرين عجاجة، وضج المكان كسالف عهده، واختلطت الأصوات فما يبين صوت من صوت، واشتغل كل بما هو فيه ...
وصاح صائح في نبرة البائس المحزون: «ويحكم يا بني العرب! لقد شغلتكم دنياكم عن الوفاء، وفتنتكم الحياة عن ذكر الموت! لقد كان هنا إنسان منكم، وإنه لأرفعكم صوتا، وأبلغكم بيانا، وأبعدكم غاية ومدى، فهلا ذكره منكم إنسان!»
وبرقت العيون، واختلجت الشفاه، واهتزت الرءوس، وانبعث صوت السامرين يحوقل ويسترجع في همس خافت، وقال قائلهم: «يرحمه الله! لقد كان ...!»
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل وفاء العربية للراحلين من أدبائها ، يتهاوون من الذروة إلى بطن الودي فردا فردا ، وإخوانهم على الطريق ينظرون إليهم في بلادة وصمت، لا تشيعهم منهم قدم، ولا تتبعهم عين باكية، ولا يذكرهم منهم إنسان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل تراث الأديب في العربية لبنيه وأهله، هو حسبهم من الطعام والشراب والثياب وتكاليف الحياة، وفيه العوض كل العوض من عائلهم الذي طواه الموت بين الصفائح والتراب!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا هو الخلود الذي ضمنته العربية لمن يموت من أدبائها وهو في ميدان الجهاد يكافح الفقر والمرض وشئون العيال، ويبذل نفسه لينشئ أدبا يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقا تسير فيه إلى عظمة الخلد وسعادة الأبدية ومجد التاريخ!
يرحمه الله! يرحمه الله!
هذا كل ما تستطيع العربية من كلمات العزاء، وكل ما يملكه أدباء العربية من أساليب المواساة، وكل ما يقدر عليه ناطق يبين، وصديق يتحبب، وحبيب يشعر أن عليه حقا لمن يموت من أهل البيان!
يرحمه الله! يرحمه الله!
صوت ما له صدى، وتراث ليس فيه غناء، وطعام لا يهنأ ولا يمرأ، وخلود لا يدوم إلى غد، وعزاء لا يجفف دمعة ولا يخفف لوعة ولا ينفذ إلى قلب طفل سلبه الموت أباه وسعادة دنياه!
يرحمه الله! يرحمه الله! ... خلوا عنكم أيها الأدباء الكبار، وأيها الشعراء العظام، وأيها الخطباء المصاقع، خلوا عنكم عناءها، سيرحمه الله وإن لم تقولوها، سيرحمه بما جاهد، وبما بذل، وبما عانى، وبما تحمل من جهد التضحية ومشقة الحرمان، وسيرحمه ثانية بما لقي من العقوق وكان برا، وبما لقي من الغدر وكان وفيا، وبما قوبل من إنكار الجميل وكان من أهل الجميل، وسيرحمه بدموع اليتامى، وبأنات الأيامى، وبدعوات كثير من أهل الإيمان وفوا له ما وسعهم الوفاء!
مضى عام وأوشك عام ثان منذ مات الرافعي،
3
فهل سأل أحد: كم خلف وكم ترك؟
سأقول وإن لم يطلبها أحد إلي ...
أما المال فلا سبد ولا لبد، وأما الأدب فثروة للرواة ومحزنة للولد، وأما العيال ... فوا حزنا لو كان يجدي الحزن!
هذا «سامي» كبيرهم في بعثة الجامعة بأمريكا ما يزال بينه وبين الغاية خطوة ، وهذه «سعدية» الصغيرة تلثغ في الراء وتضم شفتيها على الباء، وبينهما ثمانية يقوم على شئونهم «محمد»! الله لهذا الشاب العائل! لم يكد ينعم بقرب الأهل بعد فراق سبع سنين، حتى كان عليه عبء الأسرة كله، فكأنما كان هو في تلك الغربة وديعة إلى أجل، وذخيرة إلى ميعاد، وعاجلته تبعات الحياة ولم يزل في باكر الشباب!
والحكومة ...؟ خلي عنك يا وزارة الحقانية، خلي عنك يا وزارة المعارف، خل عنك يا وزير المالية ... الله أكرم!
لقد تصرم من عمر الرافعي في خدمة الحكومة ثمان وثلاثون سنة، ومات ولم يجاوز السابعة والخمسين، فأي مكافأة نالها وأي جزاء؟ بضعة عشر جنيها في كل شهر تأبى الحكومة إلا أن يكون لها فيها ميراث ...!
إنه الرافعي، إنه الرجل الذي كان اسمه في مقدمة الأسماء المصرية التي تؤكد زعامة مصر للأمم العربية، وترفع اسمها، وتبني مجدها الممتاز، وتسن طرائقها التي يحتذيها الأدباء في العالم العربي. إنه هو ... ولكنها هي مصر!
وكتب رئيس الرافعي في وزارة العدل كتابا غداة منعاه إلى وزارة المالية، يصف لها من حال الرافعي ومن خبره، ويقترح أن تنزل الحكومة عن نصيبها من الميراث في «معاش» الرافعي لأولاده ... ولكن وزير المالية يأبى ...
4
ولكن الله أكرم ...! «يرحمه الله! يرحمه الله!»
ذلك كان جواب الحكومة المصرية ...!
لقد مضى عام وأوشك عام، فهل تذاكر أدباء العربية فيما عليهم للرافعي؟
وهل ذكرت الأمة والحكومة ما عليهما من واجب الوفاء للرافعي؟
لقد تداعى الأدباء إلى ميعاد يحتفلون فيه بتأبين الرافعي، وجاء الميعاد وتخلف المدعو والداعي، وترادف ميعاد وميعاد وميعاد، ومضى عام، وعلى مكتب كل أديب دعوة لتأبين الرافعي، وفي ذيل كل دعوة جواب المدعو بخطه أو بلسانه: «يرحمه الله! يرحمه الله!»
وعند دكاكين الوراقين أسئلة عن كتب الرافعي، ولكن السوق ليس فيه كتاب من كتب الرافعي،
5
وقال قائل: «أعيدوا طبع الديوان، أعيدوا طبع إعجاز القرآن، أعيدوا ... أعيدوا ...»
وقال الطابع والناشر والوراق: «يرحمه الله! يرحمه الله!»
وعلى مكتب الرافعي كتب لم تطبع ، وقصاصات لم ترتب، وثمرة عقل خلاق كان يجهد جهده ليضيف كل يوم إلى العربية ثروة جديدة وفكرا جديدا.
وقلنا: «يا وزارة المعارف، هذه كتب إن لم تخرج للناس سبق إليها العث والفيران، فيضيع على العربية كنز ما لها منه عوض! ولكن وزارة المعارف في أحلامها الهنيئة لا تسمع ولا تجيب، إلا همسا في أمثال أنفاس النائم تردد قول الناس: «يرحمه الله! يرحمه الله!»»
وفي الأمة مع ذلك أدباء، وفي الأمة كتاب وشعراء، وفي الأمة ناشئة غافلة وما تزال ترجو الخلود في الأدب ...
وفي الأمة عقول ناضجة في أجسام مهزولة من الفقر والجوع، وفي الأمة رءوس ممتلئة على أناسي تضطرب كل مضطرب للبحث عن القوت.
وفي الأمة رءوس فارغة على أجسام تكاد تتمزق شبعا وريا، وفي الأمة قلوب خاوية في أناسي تتمرغ بين وسائد الدمقس وحشايا الحرير ...
وفي الأمة مع ذلك من يتساءل مدهوشا: «لماذا ... لماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتابا ومنئشين كبعض من نقرأ لهم من أدباء الغربيين ...؟»
يرحمك الله يا مصطفى ... بل يرحمك الله أيتها الأمة!
الخاتمة
مات الرافعي فانطوت صفحة من تاريخ الأدب في مصر، وانقرض جيل من أدباء العربية كان له مذهب ومنهاج، ولكن الرافعي الذي مات وغيبته الصفائح قد خلف وراءه تراثا من الذكريات والآثار الفنية ستتعاقب أجيال قبل أن يفرغ الأدباء من دراستها والحديث عنها، وإنها لذكريات تثير في كل نفس ما تثير من عوامل الكره أو المحبة، وإنها لآثار ...
أما هذه الذكريات، على ما تبعث في نفوس من معاني الغضب أو معاني الرضا، فقد أثبت منها في هذه الفصول ما قدرت عليه، وليس يعنيني ما تترك من أثر في نفس قارئها؛ إذ كانت غايتي التي أحرص عليها هي جلاء هذا التاريخ لقراء العربية كما أجد صورته في نفسي وأثره في وجداني، متجردا ما استطعت من غلبة الهوى وسلطان العاطفة وتحكم الرأي، لأضع بين يدي كل قارئ - اليوم أو غدا - المادة التي تعينه على الدرس والحكم والموازنة.
وأما آثاره الأدبية فقد فصلت الحديث عن بعضها في بعض ما سبق من هذه الفصول، وإلى القارئ جملتها مرتبة على تاريخ إنشائها: (1)
ديوان الرافعي: ثلاثة أجزاء، صدرت بين سنتي 1903 و1906، وقدم لكل جزء منها بمقدمة في معاني الشعر تدل على مذهبه ونهجه، وهي مذيلة بشرح ينسب إلى أخيه المرحوم محمد كامل الرافعي وهو من إنشاء المترجم نفسه. (2)
ديوان النظرات: أنشأه بين سنتي 1906 و1908. (3)
ملكة الإنشاء: كتاب مدرسي يحتوي على نماذج أدبية من إنشائه، أعد أكثر موضوعاته، وتهيأ لإصداره في سنة 1907، ونشر منه بعض نماذج في ديوان النظرات، ثم صرفته شئون ما عن تنفيذ فكرته فأغفله، وقد ضاعت «أصوله» فلم يبق إلا النماذج المنشورة منه في ديوان النظرات. (4)
تاريخ آداب العرب: صدر في سنة 1911 بسبب من إنشاء الجامعة المصرية، ويراه أكثر الأدباء كتاب الرافعي الذي لا يعرفونه إلا به. (5)
إعجاز القرآن: وهو الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، طبع ثلاث مرات، أخراها في سنة 1926 على نفقة المغفور له الملك فؤاد.
1 (6)
حديث القمر: أول ما أصدر الرافعي في أدب الإنشاء، وهو أسلوب رمزي في الحب تغلب عليه الصنعة، أنشأه بعد رحلته إلى لبنان في سنة 1912 حيث التقى لأول مرة بالآنسة الأديبة «م. ي.» فكان بينهما ما كان مما أجملت الحديث عنه في بعض الفصول من قصة حبه. (7)
المساكين: فصول في بعض المعاني الإنسانية ألهمه إياه بعض ما كان في مصر من أثر الحرب العامة، أنشأه في سنة 1917. (8)
نشيد سعد باشا زغلول: كتيب صغير عن نشيده «اسلمي يا مصر!» الذي أهداه إلى المرحوم سعد زغلول في سنة 1923، طبع المطبعة السلفية بالقاهرة، وأكثر ما في الكتاب من المقالات هو من إنشاء الرافعي أو إملائه. (9)
النشيد الوطني المصري: «إلى العلا ...» ضبط ألحانه الموسيقية، الموسيقار منصور عوض. (10)
رسائل الأحزان: كتاب أنشأه في سنة 1924، يتحدث فيه عن شيء مما كان بينه وبين فلانة، على شكل رسائل يزعم أنها من صديق يبثه ذات صدره. (11)
السحاب الأحمر: هو الجزء الثاني من قصة حب فلانة، أو الطور الثاني من أطواره بعد القطيعة، صدر بعد رسائل الأحزان بأشهر. (12)
المعركة تحت راية القرآن: هو كتاب «الجديد والقديم»، وفيه قصة ما كان بينه وبين الدكتور طه حسين لمناسبة كتابه «في الشعر الجاهلي»، صدر في سنة 1926. (13)
على السفود: قصة الرافعي والعقاد، نشرته مجلة العصور في عهد منشئها الأول الأستاذ إسماعيل مظهر، ولم تذكر اسم مؤلفه ورمزت إليه بكلمة «إمام من أئمة الأدب العربي». (14)
أوراق الورد: الجزء الأخير من قصة حبه، يقوم على رسائل في فلسفة الجمال والحب أنشأها ليصور حالا من حاله فيما كان بينه وبين فلانة، ومما كان بينه وبين صديقته الأولى صاحبة حديث القمر.
وتعتبر كتبه الأربعة: حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وحدة يتمم بعضها بعضا؛ لأنها جميعا تنبع من معين واحد وترمي إلى هدف واحد وإن اختلفت أساليبها ومذاهبها. (15)
رسالة الحج: أنشأه في صيف سنة 1935؛ استجابة لرأي صديقه المرحوم حافظ عامر وإليه ينسب! (16)
وحي القلم: مجموع مقالاته في الرسالة بين سنتي 1934 و1937 إلى مقالات أخرى، طبع منه جزءان في حياته، ثم أعيد طبعه مع الجزء الثالث أكثر من مرة بعد موته.
وله عدا ذلك كتب لم تطبع، أهمها ما يأتي: (1)
الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب: تام التأليف والتصنيف تقريبا.
2 (2)
أسرار الإعجاز: فيه فصول تامة التأليف، وفصول أخرى أجمل فكرتها في كلمات على ورق أو أشار إلى مصادرها، وكان الرافعي يعتد بهذا الكتاب اعتدادا كبيرا، وهو جدير بذلك حقا، وقد أطلعني - رحمه الله - على فصول منه، كما تحدث إلي عن نهجه في تأليفه، وأذكر أن نهجه فيه كما يأتي: (أ)
يتحدث في صدر الكتاب عن البلاغة العربية، فيردها إلى أصول غير الأصول التي اصطلح عليها علماؤها منذ كانت، ويضع لها قواعد جديدة وأصولا أخرى. (ب)
ويتحدث في الفصل الثاني عن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه، مسترشدا في ذلك بما قدم في الفصل السابق من قواعد. (ج)
ويتناول في الفصل الأخير من الكتاب، آيات من القرآن على أسلوب من التفسير يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة، ويعتبر هذا الفصل الأخير هو صلب الكتاب وأساسه ، وقد أتم الكتابة - إلى آخر يوم كنت معه فيه - عن بضع وثمانين آية على هذا النسق، وقد نشر منها في الرسالة بضع آيات مفسرة على ذلك النهج، وجعلها في بعض أقاصيصه. (3)
ديوان أغاني الشعب: وهو ديوان من الشعر جعل فيه لكل جماعة أو طائفة من طوائف الشعب نشيدا أو أغنية عربية تنطق بخواطرها وتعبر عن أمانيها، وقد أنجز الرافعي طائفة كبيرة من هذه الأغاني نشر بغضها وما يزال سائرها بين أوراقه الخاصة ومؤلفاته التي لم تنشر، وأكثر الأغاني في هذا الديوان مأنوس اللفظ رشيق المعنى مما يجمل وقعه في النفس ويخف جرسه على الأذن. (4)
الجزء الثالث من وحي القلم: وفيه سائر المقالات التي كتبها، سواء منها ما نشر في الرسالة وغيرها من المجلات والصحف، وما لم ينشر من قبل.
3 (5)
الجزء الأخير من الديوان: وهو مجموعة كبيرة من شعره بين سنتي 1908 و1937، بما فيه من شعر الحب، والمدائح الملكية التي أنشأها للمغفور له الملك فؤاد.
هذا إلى شتيت من المقالات والرسائل الأدبية التي أنشأها لمناسباتها ومنها كثير من مقدمات الكتب المطبوعة، بعضها منسوب إليه، وبعضها منحول مجهول النسب.
أما المطبوع من هذه الكتب فقد أعيد طبع أكثره، وأما غير المطبوع فما يزال ورقات وقصاصات على مكتبه، وإني لأخشى أن يمضي وقت طويل قبل أن نتنبه إلى ضرورة العناية بهذه المؤلفات التي خلفها الرافعي ورقات مخطوطة يكاد يبليها الإهمال والنسيان!
ولدى الدكتور محمد الرافعي مشروع لإحياء تراث أبيه، لست أدري أيجد الوسائل لتنفيذه أم تحول دونه الحوائل وتمنع منه الضرورات؟
على أني أكاد أومن بأن هذه ليست هي الوسيلة للمحافظة على تراث الرافعي، فليس من الوفاء له وحسن الرعية لأولاده أن نحمل عليهم هذا العبء وما انتفعوا من أبيهم بأكثر مما انتفع كل أديب وكل مسلم وكل عربي في مصر وغيرها من بلاد العربية.
لقد كان الرافعي صاحب دعوة في العربية والإسلام يدعو إليها، فحقه على العربية، وحق العربية على أدبائها، وحق الإسلام على أهله، أن نجدد دعوته، وأن نبقي ذكره، وأن ننشر رسالته، وأن نعنى بآثاره، فإذا نحن وقد وفقنا إلى كل أولئك فقد وفينا له بعض الوفاء!
والآن فلننظر لنرى مقدار ما يمكن أن تصل إليه هذه الدعوة من النجاح، وأمامنا إلى ذلك وسيلتان: أولاهما: أن نعرف مدى تأثر الناشئة من المتأدبين اليوم بأدب الرافعي ومذهبه، والثانية: هي البحث عن آثار الرافعي ومنشآته الأدبية وتراثه الفكري لنحرص عليه من الضياع.
فأما الأولى: فإن بين الرافعي والأكثرين من ناشئة المتأدبين في هذا الجيل حجابا كثيفا يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به، لعوامل عدة:
فالرافعي أديب الخاصة، كان ينشئ إنشاءه في أي فروع الأدب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة تعلو بها وتعز مكانا بين اللغات، وشبابنا - أصلحهم الله - لا يعرفون الأدب إلا ملهاة وتسلية، لا ينشدونه للذة العقلية وسمو النفس، ولكن ينشدونه لمقاومة الملل وإزجاء الفراغ؛ فهذا سبب.
والثاني: أن الرافعي - رحمه الله - لم يكن يكتب الكتابة الصحافية التي ينشئها أكثر كتابنا ليتملقوا غرائز القراء بالعبارة المتهافتة والقول المكشوف، وعند المتأدبين من ناشئة اليوم أن قيمة الأدب هي بمقدار انطباقه على أهواء النفس وارتياحها إليه وقدرتها على أن تسيغه بلا تكلف ولا عناء!
وثمة سبب آخر، هو طغيان السياسة على الأدب في هذا الجيل طغيانا أقحم على الأدب ما ليس فيه وعلى الأدباء من ليس منهم، بحيث يتحرج أكثر الأدباء أن يقولوا قالة أو رأيا أدبيا في أديب أو شاعر إلا متأثرين بما كان له من مذهب سياسي أو رأي في السياسة المصرية.
والرافعي رجل كان لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، ولم يكن يعتبر له مذهبا في النقد إلا المذهب الأدبي الذي لزمه منذ نشأ في الأدب؛ فمن ذلك كانت خصوماته الأدبية تنتهي نهايتها إلى اتهامه في وطنيته وفي مذهبه السياسي، ورآها أكثر خصومه من كتاب الشعب فرصة سانحة لينالوا منه عند القراء، فانتهزوها، وبالغوا في اتهامه، وأغرقوا في الطعن على وطنيته وتأولوا مذهبه، حتى صار عند بعض القراء رجلا لا وطنية له ولا إنسانية فيه ولا إخلاص في عقيدته ، وما تزال السياسة عند أكثر شبابنا ذات سلطان، وما زال الأدب يجري في غبار السياسة وهو أعلى مكانا وأرفع منزلة ...
ولقد يضاف إلى كل أولئك سبب أخير، هو أن أكثر ما كان يتناوله الرافعي من شئون الأدب هو ما يتصل بحقيقة الإسلام أو معنى من معانية، على أن الكثرة من ناشئة المتأدبين اليوم يريدون أن يفرقوا بين الأدب والدين، فلا يرون ما ينشأ في هذا الغرض لونا من ألوان الأدب أو مذهبا من مذاهبه.
تلك جملة الأسباب، أو مجمل الأسباب، التي باعدت بين أدب الرافعي وبين الجمهور من ناشئة المتأدبين، ما بد من النظر فيها والبحث عن علاجها حين نهم بأن نجدد دعوة الرافعي وننشر رسالته إن كان ثمة يقين بأن أدب الرافعي حقيق بالخلود، وإن اليقين به ليعمر قلب كل أديب يؤمن بأن الدين واللغة هما أول المقومات لقوميتنا العربية المسلمة. ... ذلك شيء ... أما آثار الرافعي فإن كل ما في يد العربية منها هو صدى كلمات وعنوانات كتب، أما حقيقتها ومعناها فقد انفرط الجيل الذي درسها أو كاد؛ فلم يبق للجيل الناشئ منها غير عنوان، فليسأل كل أديب نفسه: ماذا قرأ من كتب الرافعي وماذا حصل وماذا أفاد؟
إنها لمكتبة حافلة جديرة بأن تنشئ مدرسة جامعة لمن يريد أن يتزود من العربية زادا مريئا وغذاء شهيا، ليكون أديبا له لسان وله بيان وله منزلته الأدبية في غد ...
إني لأكاد أوقن أن تسعين من كل مائة من القراء لا يعرفون من هذه الكتب إلا أسماءها، وإن منهم لمن يتوهم أن من حقه أن يتحدث عن الأدب ويؤرخ لأدباء الجيل.
وما عيب على من لم يقرأها أنه لم يقرأها، ولكن العيب كل العيب علينا عامة نحن المشتغلين بالأدب أن يكون كل وفائنا لمن يموت من أدباء العربية أن نقول: كان وكان ويرحمه الله.
لقد أدى الرجل واجبه ما استطاع، وبقي علينا فرض واجب الوفاء. •••
لقد أورثني الرافعي بعض تبعاته، وإني لأحس بثقلها على عاتقي أكثر مما أحس بحاجتي إلى التحدث عن ماضيه.
لقد عاش الرافعي حياته يجاهد لأمته ما لم يجاهده أديب في العربية منذ قرون، وقضى حياته يلقى من العقوق ونكران الجميل ما لم يلق أديب في العربية منذ كانت العربية، ومات فما كان حظه منا في أخراه أحسن منه في دنياه، فهل لي أن أؤمل أن تتنبه الأمة والحكومة إلى ما ينبغي أن يكون؛ وفاء لهذا الراحل الكريم؟
ليس يكفي أن يكون كل وفائنا للرافعي حفلة لتأبينه وبضع كلمات لرثائه، ولكن الوفاء حق الوفاء أن نعمل على تخليد ذكراه، بتخليد أدبه، وتجديد دعوته، وإبقاء ذكره، ونشر رسالته، فليكن هذا الذي أنشأته عن «حياة الرافعي» أولا له ما بعده، لنفكر في الوسائل النافعة التي تجدي على الأدب والعربية أكثر مما تجدي رسائل التأبين وكلمات الترحم والاسترجاع!
أما هو فقد انطوى تاريخه على هذه الأرض، فلن يجدي عليه شيئا ما نفعل وما نقول، ولكن ما نفعله وما نفكر فيه إنما هو لخيرنا وجدواه علينا، فلنفكر في أنفسنا وفي ذواتنا وفيما يعود علينا وعلى العربية من تجديد ذكرى الرافعي، إن كان يعز علينا أن نعمل أو أن نفكر إلا فيما تكون منفعته إلينا ولنا من ثمراته نصيب! •••
أما بعد؛ فهذه «حياة الرافعي» مبسوطة لمن يريد أن يدرس، وأنا لم أجهد جهدي في جمعها وترتيبها لكي أقول ويقول الناس: كان وكان من أمره وحسب؛ فما في ذلك كبير فائدة، ولكني أنشأت هذه الفصول؛ لتكون تمهيدا لدراسة الرافعي في أدبه وفنه ومذهبه، فما أسميها كتابا، ولكنها مقدمة تتلوها فصول وكتب إن شاء الله، وهذا كتاب «حياة الرافعي» اليوم في سوق الأدب، فما يكون عنوان الكتاب التالي عن الرافعي ومتى يطالع القراء؟
أتراني أحسن الظن بأهل العربية في هذا التساؤل؟
لقد مات الرافعي، ولكن اسمه سيبقى ما بقيت العربية، وليس بعيدا ذلك اليوم الذي يتداعى فيه أدباء العربية من كافة أقطارها ليجعلوا ذكرى الرافعي موسما من مواسم الأدب وحلبة يتسابق فيها أهل البيان.
ألا إنه إذا كان أكثر الأدباء المعاصرين قد عقوا الرافعي وأغفلوا شأنه وتناسوه، فإن جيلا جديدا يوشك أن يبسط سلطانه زاحفا متقحما لا يثبت أمامه شيء، ويومئذ ... ويومئذ تذهب العداوات بأصحابها، وتنطفئ هذه الفقاعات العائمة، ويخبو الرماد، ويخلص وجه الحق للحق! ... ويومئذ ... ويومئذ تعلو كلمة الله!
صفحه نامشخص