أما الكتابة الصحفية، فقد ذهبت إلى أسوان وأنا أحسبني في إجازة منها إلى موعد غير مسمى ... وخيل إلي أنها ستكون أقل الشواغل شغلا لي حتى في الاطلاع عليها والعناية بأخبارها، فإن عاودني الحنين إليها فلتكن عودتي إليها بقصيدة من الشعر، أو مقالة في حكم القصيدة الشعرية، توحي بها لمحة من لمحات الخاطر أو عارض من عوارض الشعور ...
وتقدرون فتضحك الأقدار ...
وقدرت أن الكتابة الصحفية لن تشغلني قارئا ولا كاتبا خلال مقامي في أسوان، إلا أنها تسلية من قبيل تزجية الفراغ، فإذا بمقالة واحدة كتبتها - من هذا القبيل - تشغلني أضعاف شغلي بمقالات الصحف سنوات في أحرج أيام القلاقل والقضايا والأزمات، مع أنها قرئت مخطوطة قبل أن تقرأ مطبوعة، ولم تزد نسختها المتداولة أولا على عدد أصابع اليدين ...
تلك هي مقالة «نادي العجول»، كدت أذهب من جرائها إلى جزيرة مالطة، وأنا أحوج إلى المقام بأسوان أو في جو القطر من المشتى إلى المصيف. «شهوة» و«شبهة»!
أدركتني الحرب العالمية الأولى وأنا في أسوان، وأحس الناس بوطأة الأحكام العرفية في هذا البلد النائي على طرف الصعيد الأعلى قبل أن يحسوا بها في سائر البلاد المصرية؛ لأن أسوان على ملتقى الطريق بين مصر والسودان، وملتقى الطريق بين النيل والبحر الأحمر من جانب الصحراء، ومرجع الأحكام العرفية فيها إلى رئيس إقليمي بعيد من الرقابة مطلق التصرف في الأوقات التي تشغل الحكومة المركزية عن تفصيلات الشئون الإدارية في الأقاليم ... وقد كانت شهوة الطغيان، والحجر على الحريات قد ملكت نفوس الحاكمين، وأذنابهم من المسلطين على الرقاب تحت حمايتهم، بعد اشتداد الحركة الوطنية وتتابع القوانين، والأوامر المقيدة لحرية المحكومين، فلما تقررت الأحكام العرفية بكل قسوتها وصرامتها بعد شيوع العمل بالقوانين المقيدة للحريات، أوشكت الرغبة في الاستبداد أن تصبح هوسا في نفوس بعض «الحكام» ... ولا سيما الذين بدا لهم أن الفرصة سانحة لاستغلال هذا السلطان المطلق طمعا في الكسب، وشفاء للضغائن والأهواء، وماذا يمنع الرشوة أن ترفع رأسها وتصيح بين الزوايا وفوق الجدران إذا كان أداء الرشوة هو البديل الوحيد من النفي والاعتقال بغير تحقيق؟ ... وماذا يفيد التحقيق إذا كانت «شبهة» الوطنية كافية لاعتبار «المتهم» من ذوي الخطر والسابقة المحذورة؟ وكانت هذه الشبهة لاصقة بالأكثرين من المصريين؟ ...
لقد بلغ الطغيان بحاكم من الحكام في أسوان أنه أراد أن يقضي يوما مع أسرته في الجزيرة المغربية التي يقصدها بعض الناس للرياضة في أيام الإجازات، فأرسل المنادي «الرسمي» يطوف أرجاء المدينة، وينذر من تحدثه نفسه بالنزول في الجزيرة أن يوطن نفسه على السيف والنار، وخراب الديار ...
وشاعت سيئات الحرب العالمية على أسوئها في إقليم أسوان الآمن الوديع! تجنيد إجباري لفرقة العمال، واعتقال متكرر لشبهة ولغير شبهة، وإتاوات تفرض لعلة من العلل المخترعة، تبرعا للصليب الأحمر، أو ترفيها عن المرضى والجرحى، أو مساعدة على مشروع كائنا ما كان من مختلف المشروعات، وأصبح كل طلب إنذارا بالتهمة المحكوم فيها بغير استئناف، أو إنذارا بالسداد في غير تردد ولا مساومة.
نادي العجول
حدث هذا في بلدي وبين أهلي وعشيرتي، وأنا أنظر إليه بعيني وأستمع إلى أخباره بأذني، وأحس كل مظلمة من مظالمه بإحساس قريب وإحساس إنسان ...
حدث هذا وأنا في الخامسة والعشرين.
صفحه نامشخص