صناعة مرذولة محتقرة
هذا هو الرأي المجمل في صحافة مصر غير اليومية منذ خمسين سنة ... ولكنك لا تستطيع أن تبخل بوصف الاحترام على صناعة الصحافة يومئذ في مصر إذا التفت من ناحية الصحافة «غير اليومية» إلى ناحية الصحافة اليومية، لما كان في مصر يومئذ من صناعة تضم بين أبنائها أناسا أحق بالاحترام؛ من علي يوسف مدير المؤيد، ومصطفى كامل مدير اللواء، وأحمد لطفي السيد مدير الجريدة، كائنا ما كان المقياس الاجتماعي الذي تقاس به الصناعات.
طبقة من المجاورين
ولا استثناء في ذلك لمقياس الدولة والحكومة، فإن الرتب والألقاب التي حصل عليها أقطاب الصحافة المصرية من الدولة لم تكن تقل في قيمتها الرسمية عن ألقاب الوزراء ... ومن حصل منهم على «البيكوية»، فإنما كان يحصل عليها من الصنف الذي ينادى صاحبه بلقب الباشوية، ولولا أن الأستاذ «أحمد لطفي السيد» كان من المعارضين للسيادة العثمانية لجاءته الرتبة التي أنعمت بها الدولة على صاحبي المؤيد واللواء.
ومن الملاحظات التي لا تهمل في هذا الصدد مسائل الزوجية التي تعرض لها كبار الصحفيين في تلك الآونة، فإنها تدل على إحساس عميق داخل أصحاب هذه الصناعة، أودع في نفوسهم الثقة بمكانتهم الاجتماعية في شئون يتغلب فيها العرف التليد على كل اعتبار جديد، فلولا «الاحترام الاجتماعي» الذي كان يحسه الزعيم النابه في الصحافة اليومية، لما خطر لمصطفى كامل أن يخطب «الأميرة شويكار»، ولا خطر لعلي يوسف أن يتزوج بسليلة بيت السادات، وهو طموح أبعد من الطموح إلى مصاهرة بيت الإمارة؛ لأن اعتداد بيت السادات بشرفه الديني كان في ذلك العهد أقوى من اعتداد الأمراء بمراتبهم الدنيوية.
ولا يرجع شيء من هذا الاحترام الاجتماعي إلى مزية من مزايا الطبقة أو مزايا الثروة، فإن مصطفى كامل كان من طبقة الموظفين الصغار، وعلي يوسف كان من طبقة الفلاحين الفقراء «المجاورين» للجامع الأزهر، ولم يكن لهما من الثروة قسط يذكر بعد أن بلغا في الصحافة قمة النجاح ... •••
من الكلمات التي قرأتها ولم أنسها منذ قرأتها كلمة الروائي العبقري «شارلز ديكنز» في مقدمة قصة المدينتين، حيث يقول عن عصر الثورة الفرنسية:
إنه كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان ... كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام ... كان ربيع الرجاء، وكان زمهرير القنوط، بين أيدينا كل شيء وليس في أيدينا أي شيء، وسبيلنا جميعا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعا إلى قرار الجحيم ... تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات ...
فقد قرأت هذه الكلمة فخطر لي يوم قرأتها أنها لعبة من ألعاب المجانسات اللفظية لا تصدق على زمن من الأزمان، ولا على حالة من الحالات، فما برحت منذ قرأتها أعيدها أو تعيدني إلى ذكراها كلما صادفتني مرحلة من مراحل التاريخ الكبرى؛ لأنها وصف يصدق على كل مرحلة من هذه المراحل، ويصدق على كل جديد، ومنها فترة اليقظة المصرية في أوائل هذا القرن العشرين ...
حائر بين الاثنين
صفحه نامشخص