من توافق المصادفات أن الشاعر اللاتيني كان كالشاعر العربي لا يسلم أحد من لسانه، وأن هجاءه لفنان العصر «باريس» قذف به من روما إلى جزيرة أسوان؛ لأن هذا الفنان الساحر كان حظيا عند العاهل درومسيان!
قدم جوفنال إلى جزيرة أسوان قائدا للحامية الرومانية في ظاهر الأمر، وأسيرا منفيا في حقيقته، ولم يستطع أن يلعن رومسيان، فلعن الجزيرة ومن فيها ومن حولها، ولم يرض عن شيء رآه في ولايته التي فرضت عليه، فكذب وأقذع في شكواه، وادعى على مصر والمصريين ما لم يدعه أحد سواه.
قال: إن المصريين يعبدون كل حيوان، ولا يدعون شيئا إلا عبدوه حتى الثوم، وما كان المصريون يعبدون الثوم ولا البصل، ولكنهم عرفوا خصائص هذا وذاك، فانتفعوا بها في الغذاء وفي العلاج، وجاء المحدثون في عصرنا هذا فاتخذوا من الثوم عصيرا سموه ماء الحياة.
وقال: إن المصريين يأكلون لحم البشر، وقص من أخبار هذه الدعوة أن أناسا من أهل كوم أمبو الذين يعبدون التمساح هجموا على رجل من أهل دندرة قتل تمساحا فأكلوه!
والتمساح - واسمه هذا منقول من المصرية القديمة - حيوان مقدس كالذئبة الرومانية، ولكنه كان مقدسا عند أناس ورجيما ملعونا عند آخرين، أما أن الذين يقدسونه يأكلون لحم قاتليه، فتلك هي الفرية التي اتفق المؤرخون على تكذيبها، وحسبوها «اختراعة» من أفانين الهجاء، جناها السخط على الشاعر الهجاء قبل أن يجنيها بشعره على أبناء كوم أمبو الأقدمين، المظلومين!
ومن عجيب التوافق بين الشاعرين الساخطين أنهما يتفقان في الخاطر كما يتفقان في المزاج، فكان جوفنال يعجب لمن يسأله عن سبب هجائه ، كأنما كان الهجاء عنده أصلا من الأصول التي لا تحتاج إلى سبب، وكان دعبل ينظم القصيدة المقذعة ويسألونه عمن قيلت فيه، فيقول لهم: إنها ستجد صاحبها لا محالة، ويتفلسف فيمضي قائلا: «إن من يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك.»
فهي طبيعة واحدة في الشعراء الهجائين مع تباعد الجنس والزمن، ولا نظلمهم فنحكيهم حين يجنون بالسخط على الحقيقة، فما نحسبهم ظالمين في كل ما تقولوه على الناس، وما نظنهم سخطوا بغير حق في كل مقال، فلعل إصابتهم الناس عن بعض ما أصابهم منهم، ولعلهم شقوا بالعالم كما شقي العالم بهم، ومن دلائل هذا الشقاء أن شاعرا هجاء في اللاتينية وشاعرا هجاء في العربية يرددان معنى واحدا عميقا في دلالته على شقاوة الرجلين، فيقول جوفنال في الأهجية الخامسة عشرة: «إن الطبيعة خلقت للإنسان الكريم قلبا رحيما، فأودعت فيه ينابيع الدموع، وهي أكرم جانب في طوية الإنسان.»
ويقول ابن الرومي:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن
صفحه نامشخص