حیات فکر در جهان جدید
حياة الفكر في العالم الجديد
ژانرها
فلما تحطمت الفلسفة المثالية التقليدية على أيدي البراجماتيين، تحطم معها التقليد الفلسفي كله، الذي كان يربط الفيلسوف بنمط معين من التفكير، وهنا خرجت مذاهب واتجاهات جديدة، لم يكن لها جلال التفكير التقليدي القديم، لكنها عوضت ذلك الجلال المفقود بروح علمية جديدة، مالت بالفلاسفة نحو التشبه بالعلماء في طريقة معالجتهم لمشكلاتهم؛ من حيث تعاون مجموعة الباحثين على حل مشكلة بعينها بدل أن يستقل كل فرد منهم بإقامة بنائه الفكري الخاص، وسترى في الفصلين السادس والسابع شرحا لتلك الاتجاهات الجديدة، كالواقعية الجديدة، والواقعية النقدية، ثم الفلسفة الطبيعية، وعقبنا على ذلك بفصل ثامن وأخير، عرضنا فيه اتجاهين من الاتجاهات المعاصرة عرضا موجزا، هما الوضعية المنطقية، والدعوة إلى رجوع الفلاسفة إلى ما هجروه من «تقليد عظيم».
وقد اكتفيت في عرضي لمجرى الحياة الفكرية الفلسفية في العالم الجديد، بالمعالم الرئيسية دون التفصيلات، راجيا أن يكون هذا الكتاب صورة مجملة تتلوها صور جزئية في سلسلة من كتب، نفصل فيها ما أجملناه، ونذكر ما قد أهملناه.
زكي نجيب محمود
الفصل الأول
دستور في سطور1
(1) جون لوك يضع الأساس
تستطيع أن تتعقب تاريخ الأمة خطوة وراء خطوة، دون أن ينتهي بك السير إلى لحظة زمنية يكون في مستطاعك عندها أن تقول: هنا بدأ تاريخ الأمة؛ لأن خيوط التاريخ تمتد إلى الوراء إلى غير بداية معلومة، فإذا ما اتخذ المؤرخ بداية يبدأ عندها تاريخ أمة من الأمم، فإنما يفعل ذلك جزافا، مستندا إلى أن هنالك قبل التاريخ المدون تاريخا مجهولا لم يدون، يضم عناصره الغامضة، ويطلق عليها «ما قبل التاريخ»، لكنك تستطيع - على سبيل التجوز اليسير - أن تستثني من هذه القاعدة الولايات المتحدة؛ إذ جاء مولدها في يوم معلوم، هو اليوم الرابع من شهر يوليو سنة 1776م، يوم أن أعلنت استقلال نفسها عن إنجلترا، فجاء في إعلانها ذاك ما يلي:
إننا نؤمن بأن هذه الحقائق واضحة بذاتها، وهي أن الناس قد خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة هي جزء من طبائعهم لا يتجزأ؛ منها «الحياة» و«الحرية» والتماس «السعادة»، وأنه لكي يظفر الناس بهذه الحقوق، أقيمت فيهم الحكومات، تستمد سلطاتها العادلة من رضا المحكومين، وأن الحكومة - كائنة ما كانت صورتها - إذا ما انقلبت هادمة لتلك الغايات، فمن «حق الشعب» أن يغيرها أو يزيلها، وأن يقيم حكومة جديدة، تضع أساسها على مبادئ، وتنظم سلطاتها على صورة، بحيث تبدو للناس تلك المبادئ وهذه الصورة أنهما - على الاحتمال الأرجح - مؤديتان إلى أمنهم وسعادتهم.
هذه أسطر قلائل، لكنها - كما قال «جفرسن» وهو الذي صاغ عبارتها بقلمه - تعبر عن العقل الأمريكي، وقوتها مستمدة من تركيزها لاتجاهات الناس في عصرها تركيزا يلخص روح عصر بأسره، هو عصر الثورة الأمريكية، أو إن شئت فسمه عصر التنوير في أمريكا، وقد كان التنوير فالثورة في أمريكا مقابلين في العصر نفسه لتنوير وثورة في فرنسا، ففي هذه الوثيقة القصيرة من المبادئ الهامة ما يستوقف النظر بغير حاجة إلى تحليل، فهي تنص على أن حقوق المساواة والحياة والحرية والتماس السعادة هي أشياء واضحة بذاتها - أي بديهيات - لا يحتاج صدقها إلى إقامة البرهان، وأنها حقوق مستمدة من الله، وليست هي بالهبات يمنحها الحاكم إذا شاء، ويحبسها إذا شاء، وهي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته؛ بحيث يستحيل تصور الإنسان إنسانا بغيرها، وأنه إن قامت بين الناس حكومة فلأن الناس أنفسهم هم الذين أقاموها لتحافظ لهم على تلك الحقوق، وهم الذين يغيرونها أو يزيلونها إذا هي قامت عقبة في سبيل تلك الحقوق الإنسانية.
وتستطيع أن تمضي في تحليل هذه الأسطر القلائل ليتبين لك أنها تتضمن ما يصح أن يكون مثلا أعلى للإنسانية جميعا، وفي ذلك يقول «لنكلن»: «إنني ما أحسست قط بشعور - من الوجهة السياسية - لم أجده نابعا من العواطف التي تبلورت في «إعلان الاستقلال» ...»
صفحه نامشخص