حیات فکر در جهان جدید
حياة الفكر في العالم الجديد
ژانرها
7
وهي بغير معنى إذا لم يكن لها مثل هذه الدلالة العملية، وهذا المقياس العملي بعينه هو الذي نقيس به العبارة - لا من حيث معناها فحسب - بل من حيث كونها صوابا أو خطأ، فالعبارة من عبارات اللغة لا بد أن يكون شأنها شأن أي فرض علمي، بحيث يمكنك إزاءها أن تقول: لو كانت هذه العبارة صادقة لترتب عليها كذا وكذا في دنيا العمل والسلوك والتجارب، ثم تنطلق إلى هذه الدنيا التجريبية لترى هل يترتب عليها ما توقعته فتكون صحيحة وإلا فهي باطلة، لكن هب أنك إزاء عبارة يطلب إليك وصفها بصواب أو بخطأ، مع أنها لا تدلك على نتيجة واحدة عملية يمكنك الرجوع إليها لتفصل بها بين حالتي الصواب والخطأ، فهل يسعك عندئذ إلا أن تخرج مثل هذه العبارة من حدود الكلام المفهوم؟
ولما كان معنى العبارة هو نفسه ما يترتب عليها من عمل، نتج عن ذلك أن العبارتين إذا اختلفتا لفظا واتحدتا في العمل الذي يترتب عليهما، كانتا متحدتين في المعنى على الرغم من اختلافهما في اللفظ، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه إذا اتفقت عبارتان في اللفظ، ثم ترتب على كل منهما عمل يختلف عن العمل الذي يترتب على الأخرى، كانتا مختلفتين في المعنى، وإن اتحدتا في اللفظ، ومن أنفع الأمثلة التطبيقية التي نسوقها لذلك، هذه الاختلافات التي تقوم بين المذاهب الفلسفية، والتي كثيرا ما تكون اختلافا في اللفظ فقط مع اتحادها في الجانب السلوكي، وإذن فلا اختلاف؛ وبالتالي فلا إشكال، مثال ذلك هذه المشكلة القائمة بين الواقعيين والمثاليين حول طبائع الأشياء، فهل للشيء الخارجي وجود مستقل عن الذات العارفة، أم أن وجوده ليس إلا ما تعرفه الذات عنه؟ يقول الواقعي إن للشيء وجودا مستقلا خارج الإنسان سواء عرفه هذا الإنسان أو لم يعرفه، ويقول المثالي إن الشيء موجود في إدراك الإنسان له، ولو لم يكن هنالك العقل الذي يدرك الشيء لما كان لهذا الشيء وجود، وبعبارة أكثر تفصيلا وتحديدا، يفرق الواقعي بين نوعين من صفات الأشياء الخارجية، فمنها صفات توجد في الشيء ذاته بغض النظر عن وجود الذات المدركة له، كشكله وحجمه، وهذه هي ما تسمى بالصفات الأولية، لكن هنالك إلى جانبها صفات ثانوية، كاللون والطعم، لا تكون في الشيء ذاته، بل تتكون عند من يدرك الشيء، فالشيء كما هو في الخارج لا لون له ولا طعم، وإنما اللون والطعم من صنع حواسنا، وأما المثالي فلا يفرق في ذلك بين صفات أولية وثانوية، ويجعلها جميعا من صنع العقل المدرك للشيء. هذان رأيان مختلفان عن طبيعة الشيء الخارجي، أهو قائم بذاته في الخارج مستقلا عن الإنسان، أم أن وجوده متوقف على وجود العقل المدرك؟ فكيف نفصل بين هذين الرأيين من حيث الصواب والخطأ؟ لو كان الأمر كلاما في كلام لما انتهينا إلى نتيجة حاسمة ولو لبثنا نناقش الأمر إلى يوم الدين، لكن طبق القاعدة البراجماتية في المعنى، وهي أن تسأل عن نوع السلوك الذي يترتب على قول الواقعي ونوع السلوك الذي يترتب على قول المثالي إزاء شيء معين، فماذا عسى أن أجد من النتائج العملية في هذه المنضدة التي أمامي إذا صح قول الواقعيين عنها ، ثم ماذا عسى أن أجد فيها إذا صح قول المثاليين عنها؟ ما هو الاختلاف في التجربة العملية بين الرأيين؟ إنه لا اختلاف، وإذن فالرأيان - على اختلافهما في اللفظ - متحدان في المعنى.
وننتقل الآن من مشكلة «المعنى» إلى مشكلة «الاعتقاد»، والمشكلتان مرتبطتان على كل حال إحداهما بالأخرى، وتؤديان إلى نتيجة واحدة، فما المقصود حين تقول: إن لديك فكرة أو اعتقادا بأن كذا وكذا صواب؟ يجيب «بيرس» أن المقصود ها هنا هو أن لديك عادة سلوكية معينة أنت شاعر بوجودها، وتستطيع ممارستها إزاء هذا الذي تقول عنه إنه صواب «... فالفكرة التي تظن بها الصواب تأويلها هو ما أنت على استعداد للقيام به من عمل إزاءها.»
8
ولنضرب لذلك مثلا يوضح ما يريده «بيرس» بهذا التحديد لمعنى الاعتقاد أو الفكرة، هبك قد رأيت على أرض الغرفة شيئا «اعتقدت» أنه ثقل من أثقال الحديد التي يحملها الرياضيون، فما معنى هذا «الاعتقاد» الذي نشأ لديك إزاء الجسم المعين الذي رأيته؟ معناه طائفة من القواعد تضبط بها سلوكك إزاء ذلك الجسم، فلو أردت السير على أرض الغرفة مارا به، وجب أن تدور حوله أو تخطو من أعلاه حتى لا تعثر قدمك عليه فتقع، وإذا أردت حمله، فلا بد أن تستعد لذلك استعدادا عضليا يتناسب مع ثقله المنتظر، وهكذا، هذه «النتائج العملية» التي تترتب على «اعتقادك» بأن ما أمامك ثقلا من حديد، هي نفسها مغزى ذلك الاعتقاد ومضمونه ومعناه، وقل هذا في كل «اعتقاد» لديك عن العالم الخارجي، وما فيه من أشياء، فلا يكون «الاعتقاد» جديرا باسمه إلا إذا كان دالا على أنماط من السلوك العملي حيال الشيء الذي يتعلق به ذلك الاعتقاد، لكن افرض أن قائلا زعم بأن على أرض الغرفة «شيطانا» لا تراه العيون، ولا تمسه الأيدي، ولا تعثر به قدم السائر، ولا يمكن حمله من مكانه، ولا زحزحته، ولا ينعكس عليه الضوء الساقط، فما هو السلوك الذي يقتضيه «اعتقاد» كهذا ممن يسير على أرض الغرفة، إنه لا سلوك؛ وبالتالي فليس «الاعتقاد» بذي معنى.
ويرتبط «بالاعتقاد » الشعور «بالشك»؛ لأنهما حالتان متصلة إحداهما بالأخرى، ذلك أنك لو «اعتقدت» في أمر معين، ثم سلكت إزاءه حسب اعتقادك فيه، فوجدت ما يعطل هذا السلوك أو يغيره على أي وجه من الوجوه، «شككت» في اعتقادك الأول الذي كان باعث ذلك السلوك أو بعبارة أخرى، يحدث الشك كلما وجدنا اختلافا بين السلوك الواقع والسلوك المتوقع، أما إذا كان السلوك الذي توقعناه هو نفسه السلوك الذي أجريناه، فيظل اعتقادنا الذي بعثنا على السلوك قائما، ونعود إلى ثقل الحديد الذي سقناه مثلا، فلو «اعتقدت» أو ظننت أن ما أمامك ثقلا ثقيلا من حديد، وأردت حمله، تأهبت لذلك بما يتناسب مع ذلك الاعتقاد، لكن افرض أنك حملته على هذا الظن، فإذا هو أخف جدا مما توقعت، فماذا يحدث لشعورك إزاءه؟ ستأخذك الدهشة أولا، ثم يأخذك «الشك» في صواب ما اعتقدته حين اعتقدت أنك مقدم على حمل ثقل من حديد؛ ومن ثم تغير من اعتقادك لتتخذ إزاء الشيء اعتقادا آخر يتناسب مع العادات السلوكية المطلوبة للتصرف حياله، كأن تعتقد - مثلا - أنه جسم مصنوع من ورق، أو من خشب، أو نحو ذلك، ويترتب على العقيدة الجديدة قواعد سلوكية جديدة، فلا تضعه في النار إذا لم ترد له احتراقا، ولا تقذف به من النافذة إذا شئت ألا يصيبه كسر أو عطب وهكذا، وها هنا نضع أيدينا على مبدأ منهجي خطير، وهو أن الباعث على التفكير العلمي والبحث المجدي هو الشعور بالدهشة الذي ينتابنا حين تدلنا المشاهدة على أن ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة لم تجر معنا في خبراتنا على النحو الذي توقعناه لها، فعندئذ فقط نشك فيما كنا قد اعتقدناه حيالها، ونحاول أن نعتقد في أمرها اعتقادا جديدا، يتضمن نمطا سلوكيا جديدا.
ومؤدى هذا الذي أسلفناه من حيث حالة الشك، هو أن الشك لا يكون شكا حقيقيا إلا إذا كنا إزاء موقف لم ينجح فيه السلوك الذي سلكناه على عقيدة معينة لدينا، فتحتم أن نشك في هذه العقيدة، وأن نبحث لها عن بديل، بحيث يقتضي هذا البديل سلوكا يتفق مع الموقف الذي نحن بصدد التصرف حياله، وها هنا مكان مناسب لمناقشة «ديكارت» في شكه المشهور الذي عرفت به فلسفته، أكان شكه ذاك قائما على أساس حقيقي مشروع، أم كان شكا مفتعلا زائفا، لقد بدأ «ديكارت» بزعمه أنه «يشك» في وجود الأشياء الخارجية، و«يشك» في وجود عقول فيمن يشاهد من الناس، وهكذا، لكنه وهو في حالة «شكه» في وجود المقعد الذي أمامه - مثلا - كيف تصرف إزاءه بحيث كان هذا التصرف مختلفا عن تصرفه، وهو في حالة «اعتقاد» بوجود المقعد؟ إنه لم يحدث له أن سلك نحو المقعد بما توقع أن يكون سلوكا ناجحا على افتراض أن المقعد موجود وله صفات معينة، ثم وجد شيئا غير الذي توقعه، كأن وقع على الأرض حين أراد الجلوس، مما كان يبرر له بحق أن «يشك» في صواب اعتقاده الأول، أنه لا اختلاف إطلاقا في عاداته السلوكية إزاء العالم الخارجي بين حالتي اعتقاده وشكه، كان قبل شكه وأثناء شكه وبعد زوال الشك عنه يتصرف بمثل ما كان يتصرف أولا، وإذن فلم يكن ديكارت يشك إلا بالقول دون العمل؛ فهو بهذا يكون شكا مفتعلا زائفا.
الغاية التي قصد إليها «بيرس» من نظريتيه في «الاعتقاد» و«المعنى» هي أن تسري قواعد البحث العلمي على الفلسفة، فلو أخذ عالم طبيعي بنظرية معينة، واعتقد في صدقها كان معنى هذا الاعتقاد أن ما نتوقعه منها في السلوك العملي هو نفسه ما يصادفنا في خبراتنا، ثم لو أراد متشكك أن يشك في صدق تلك النظرية، كان أساس هذا الشك أنه يجد في التجارب العملية ما يختلف مع ما نتوقعه من تلك النظرية، وعندئذ يقع عبء الإثبات على المتشكك؛ فهو الذي نطالبه بأن يبين أين يجد الناحية العملية التجريبية التي تخالف ما نتوقعه على افتراض صدق النظرية، فإذا كان هذا في ميدان العلم، فلماذا لا يكون هو نفسه منهج التفكير كذلك في ميدان الفلسفة؟ لماذا يسمح الفيلسوف لنفسه أن يقول قولا لا يمكن أن تترتب عليه نتيجة عملية، ومع ذلك يحسب أن لقوله معنى؟ أين يكون المعنى إذن؟ ثم كيف يتشكك الفيلسوف في اعتقاد معين حين لا يكون في الحياة العملية حالة تدعوه إلى هذا الشك؟ أين يكون موضع الشك إذن؟ نعم، إنه لا «معنى» لقول، ولا أساس «لاعتقاد» إلا إذا كان ذلك المعنى أو هذا الاعتقاد هو نفسه خطة سلوكية يمكن أداؤها، وما ليس كذلك فلا هو بذي «معنى» ولا هو بالفكرة التي يجوز أن تكون منا موضع «اعتقاد» هذا هو لباب المذهب البراجماتي عند «بيرس».
ويفيض «بيرس» القول في الفرق بين حالتي «الشك» و«الاعتقاد»، وفي الطرائق المختلفة التي يسلكها الناس في تثبيت اعتقاداتهم؛
صفحه نامشخص