حیات فکر در جهان جدید
حياة الفكر في العالم الجديد
ژانرها
35
لقد أخذ «ثورو» يجوس خلال الطبيعة ويجوب أنحاءها، إن الإنسان تربطه بسائر الطبيعة أوثق الصلات، فلئن كان هذا الإنسان جزءا من بناء اجتماعي فما ذلك من حقيقة حياته سوى عرض تافه، وأما لباب حقيقته فهو أنه جزء من الطبيعة بأوسع معانيها، أليس الإنسان وليد الأرض؟ ألا يأكل ما تهيئه الأرض من لحم وخضر؟ ألا يسكن شطآن الأنهار ويسبح بسفائنه فوق متون البحار؟ ألا يستضيء بالشمس ويتنفس الهواء، ويحدق بنظره في السماء ونجومها؟ إنه إذا عضو في هذا الكون الفسيح، إنه جزء من الطبيعة لا يتجزأ.
وإذا كان الإنسان أخا لهذا النبات والحيوان وسائر ما في الوجود من كائنات، فلماذا لا يسعد في حياته كما تسعد؟ إن «ثورو» متفائل يحب أن يرى الأشياء كما هي، فهي على هذه الصورة القائمة جميلة كفيلة بإسعاد الناس لو شاء الناس لأنفسهم السعادة، فلا تنفق حياتك انتظارا للجزاء، لا تنظرن إلى الحياة جهادا مضنيا وعبئا ثقيلا، بل استمتع بها ففيها سحر وفتنة وجمال، إن الحيوان والنبات سعيد حين يقوم بما يقيم له الحياة، فهو سعيد حين يغتذي، وسعيد حين ينمو، وسعيد حين يحس، فماذا يمنع الإنسان أن يسعد بوظائف الحياة في نفسه؟ ماذا يمنعه أن يسعد بغرائزه حين يشبعها، وبحواسه حين يتملى بها روائع الوجود؟ ولكن «ثورو» يجيل البصر في الناس من حوله، فتشيع في نفسه الحسرة والأسى، إن هؤلاء الناس لتضل بهم السبيل حين ينشدون السعادة لأنفسهم، إنهم يبحثون عنها في الثروة العريضة والطعام الغزير، إنهم يطلبونها في أسباب الراحة والخمول، فهم - إذن - يبحثون عن السعادة فيما يعطل الحياة ويعوقها، فوالله لقد فشل المسعى وخاب الرجاء، فيأيها الإنسان احتذ النبات والحيوان إن أردت عيشا رغيدا، أشبع غريزة الجوع بالقوت، ولكن لا تسرف، وتدثر بالثياب، ولكن لا تكثر، واتخذ لنفسك المأوى، ولكن لا تغال ولا تبالغ.
يقول «ثورو» في الطبيعة العاقلة ما يلي: «ما أسرع ما تصلح الطبيعة ما يحدثه الإنسان فيها من عطب، إن جذ الإنسان شجرة وخلفها جذعا داميا سارعت الطبيعة إلى نجدتها بكل ما لها من فنون الكيمياء، لتستر ذلك الجذع الأبتر في رفق بثوب جديد، وما تزال بها تضيف إليها اللفائف الخضراء، حتى تعود آية تفتن عشاق الطبيعة من جديد.
إن هذه الأرض التي أطؤها بأقدامي ليست كتلة من جماد موات، إنها جسد له روح، إنها كائن حي ... إن للطبيعة أمعاءها، إنها أم الإنسانية، أبذر فيها البذور تترعرع نباتا، إن الطبيعة تبذل جهدها لتطعم الإنسان، إنها تطعم العقل والجسم جميعا فتغذو الخيال كما تغذي الجسد ... إنها ليست جميلة في عين الشاعر وحده، وليس الرائع من آياتها غروب الشمس وقوس قزح وكفى، بل لأن تطعم وتلبس الثياب، وتأوي إلى مأواك، وتصطلي دفء المدفأة، كل ذلك آيات روائع وبواعث على الإلهام.
منك أيتها الأرض نشأت مفاصلي وعظامي، وأنا لك أيتها الشمس أخ شقيق ... وإلى هذا التراب سيعود جسدي جذلان فرحا، سيعود إلى حيث بدأ ... إنني منك.»
36
هكذا نرى «ثورو» عميقا في روحانيته وتدينه، ومع ذلك فلم يبلغ أحد ما بلغه «ثورو» من مهاجمة الكنيسة ونظمها وتقاليدها؛ لأن الروح - في اعتقاده - تختنق في جو النظام والتدريب، إنه مسيحي بتقديره الخالص لما في حياة المسيح من جمال وكمال، عقيدته لا تحتاج إلى لاهوت وكهنوت، فحسب المؤمن أن يتبصر في السماء وألا يقيم الحواجز الحائلة بين بصره وبين السماء، وما المذاهب الدينية المختلفة إلا هذه الحوائل التي تعوق وصول الإنسان إلى ربه، المسيحي الصحيح النفس لا يريد كنيسة يرتادها، بل ينهض بفرديته كما فعل المسيح، وما حاجة السليم المعافى إلى كنيسة هي بمثابة المستشفى لأرواح المرضى؟ إنها - كمستشفيات الأجساد - مليئة بالتدجيل والخداع، إنه ينظر إلى مرتادي الكنائس نظرته إلى من اعتل واسترخى، ولم يعد يؤدي عملا مفيدا، حتى ليعد الكنائس مهربا للفارين من وجه الحياة النشيطة العاملة، ألا إن الفضائل كما يفهمها الناس لأبعد الأشياء عن الفضيلة بمعناها الدقيق، خذ الإحسان مثلا؛ فنحن - في رأيه - حين نحسن إنما نهدم أنفسنا، ونهدم من نحسن إليهم على السواء؛ لأننا نهدر إنسانية من نعطيه إحسانا حين نحول بينه وبين أن يكون إنسانا كاملا يعتمد على نفسه، ونهدر إنسانيتنا كذلك؛ لأننا نغذي في أنفسنا غريزة السيطرة حين نعطي الفقير، وهل تمتد يدك بالإحسان إلا مدفوعا برغبة خفية في أن تعلو غيرك وتسيطر عليه؟
لا بد لكل فرد - في رأي ثورو - أن يعمل كل يوم عملا كبيرا أو صغيرا؛ لأن الترف والكسل معناهما الموت، وهذا العمل اليومي المحتوم على كل فرد عمل عضلي يساهم به في وسائل التعمير، وليس العمل الجسدي عنده بمقصور في نفعه على الجسد وحده، ولكنه وسيلة لتهذيب الفكر الذي يجب أن يبلغ به صاحبه منزلة يستطيع معها أن يندمج في الطبيعة ... وتلك هي العبادة. «كم من الناس يظن بنفسه أنه يقوم بأعظم الخدمات؛ لأنه ينفق المال في وجوه الإحسان، المال الذي كسبه سواه! هؤلاء الذين لا ينتجون شيئا تراهم مترفين وهم أشد الناس إلحاحا في الطلب، وأعلاهم صياحا بالشكوى حين لا يظفرون بما يشتهون ... إنهم يعلقون - كالمنهوم - بالأحياء فيمتصون عصاراتهم امتصاصا، إن ثلاثة أو أربعة من هؤلاء الأموات يعلقون بكل إنسان عامل، ثم يحسبون أنهم قد أدوا للمجتمع أجل المآثر؛ لأنهم اعتمدوا في عيشهم على ذلك المسكين، وبعدئذ تراهم يملئون الكنائس، فليس لديهم ما يعملونه سوى أن يرتكبوا الخطيئة، ثم يكفروا عنها، فكيف تنتظر لهؤلاء المصاصين للدماء أن يكونوا من السعداء؟»
37
صفحه نامشخص