حیات فکر در جهان جدید
حياة الفكر في العالم الجديد
ژانرها
فخرج من هذه الجماعة المثالية أحد أعضائها هو «هنري ديفد ثورو» ودفع بهذه المبادئ إلى نتائجها المنطقية، فإذا كان الفرد قد اتفق مع زملائه على قيام الدولة، فمن حقه باعتباره فردا أن ينسلخ وحده عن سائر الجماعة إذا أراد، فلا يخضع للدولة إذا لم تصادف عنده هوى، الفرد على هذه الأرض مملكة وحده، هو بذاته وبمفرده سلطة لها سيادتها، والمثل الأعلى هو ألا يقوم بين الأفراد حكومة، فإن قامت، فلا بد أن تنحصر واجباتها في أقل حد ممكن من التدخل في حياة الأفراد.
ولد «ثورو» عام 1817م في كونكورد من ولاية ماساتشوستس في إنجلترا الجديدة - وهي الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة - وهي نفسها موطن «إمرسن»، وقد تميز ثورو منذ باكورة حياته بحب للطبيعة عميق، واشتغل بالتدريس بعد تخرجه في جامعة هارفارد، ثم اشتغل مساحا للأرض، ولم تكن واجبات عمله هذا تقتضي منه جهدا يستنفد طاقته، فاستطاع أن يجد الفراغ للمحاضرة والتأليف، ولما أن نضجت في رأسه فكرة الفردية المستقلة المتطرفة، أراد أن يعيش في فكرته فلا يكتفي منها بمجرد القول والشرح، فانتبذ في غابات وولدن
29
مكانا قصيا، وأقام لنفسه كوخا صغيرا، حيث عاش وحيدا في عزلة تامة مدى عامين كاملين، يقرأ ويكتب قراءة وكتابة ملأتا كثيرا من وقته، وقد دعاه العيش المنعزل في حضن الطبيعة التي أحبها، أن ينصرف بملاحظته إلى الحيوان بكافة صنوفه، حتى عرف عنه الشيء الكثير، ووضع علمه ذاك في كتابه «وولدن، أو الحياة في الغابات»،
30
ومات عام 1862م وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
نقول: إن «ثورو» قد دفع فكرة استقلال الفرد إلى أقصاها، فقرر أن يكون للفرد حق الخروج على الدولة في رسالة له عنوانها «مقالة عن العصيان المدني»،
31
أخرجها بعد أن شهد أمته تنحرف عن العدالة والحق كما رآهما، وذلك في حرب المكسيك، وفي مسألة العبيد، وفي معاملة الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، فرفض أن يدفع الضريبة للحكومة، ليعلن احتجاجه بصورة عملية، وسجن من أجل ذلك، فتقدم نفر من أصدقائه ودفعوا عنه الضريبة، فأخلي سبيله، لكن بقيت المشكلة النظرية قائمة، وهي: هل للفرد حق الامتناع عن دفع ضرائبه للحكومة إذا وجدها قد انحرفت عن الحق والعدالة؟ في رأي «ثورو» أن للفرد هذا الحق؛ لأنه منطو تحت سلطان الدولة باختياره، وعلى شروط معينة، وباختياره يستطيع الانسلاخ عنها والخروج عليها إذا أخلت بشروط التعاقد، بل إن «ثورو» ليرى ذلك واجبا على كل فرد يعتز بفرديته ويعتد بروحه وعقله، ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن «إمرسن» زاره وهو في سجنه لامتناعه عن دفع الضريبة، فسأله خلال القضبان قائلا: «هنري! ماذا تصنع هناك داخل القضبان؟» فأجابه «ثورو» بمثل سؤاله قائلا: «والدو! ماذا تصنع أنت خارج القضبان؟» وهو يعني بهذا أن «إمرسن» بل وكل فرد آخر ممن يؤمنون بحقوق الإنسان الطبيعية في حريته الفردية، لا يجوز له أن يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر، وإن أدى به عصيانه إلى السجن، وكتب يقول: إن الحياة الطليقة في ظل حكومة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلا.
كانت الولايات المتحدة عندئذ لا تأخذ بما تأخذ به البلاد الأوروبية من ضرورة قيام جيش عامل، على أساس أن مثل هذا الجيش لا تدعو إليه ضرورة وقيامه يقتضي نفقات كثيرة بغير موجب، فقال «ثورو»: إن الاعتراض على قيام جيش في البلاد يمكن توجيهه كذلك إلى قيام حكومة فيها. ثم استطرد يقول: إن الحكومة الأمريكية أفضل بعض الشيء من حكومات العالم الأخرى؛ لأنها أقل من هذه الحكومات تقييدا للناس، ومع ذلك فقد كان كل ما فعلته في سبيل التقدم سلبيا لا إيجابيا؛ إذ كانت حسنتها الوحيدة أنها لم تقم حائلا دون التقدم، أما ما قامت به البلاد الأمريكية من أعمال إنشائية فكله قد تم على أيدي أفراد الشعب، ولا فضل الحكومة فيه، وقد كان يمكن لهذا الشعب أن يزداد إنشاء ويسرع تقدما لولا أن الحكومة كانت تتدخل في سبيله حينا بعد حين.
صفحه نامشخص