وفي الحال رد الفنجان قبل أن يرشف الرشفة الثالثة منه، ولاحظت ارتياحه إلى ذلك كأن عبئا أنزل عن عاتقه، وأدركت أن غمه بلغ أقصى ما تبلغ إليه الغموم، وشعرت حينئذ أن مؤاساته واجبة، ولكن أغلق علي أن أجد الأسلوب الأفضل لذلك؛ لأن معالجة القلوب أصعب جدا من معالجة الأبدان، بيد أني استفتيت اختباراتي الماضية، فرأيت أن أفضل علاج لآلام قلبه وأحزان نفسه أن أستدرجه إلى الحديث عن تلك المرأة، التي جزع لأمرها؛ لأن بث ما في النفس من الشجون خير مصرف لما في القلب من الغموم، فلما انتهيت من ترشف القهوة قلت: لا أجسر أن أسألك أيها العزيز عما يحملك أن تقلق هذا القلق الشديد بسبب عياء المدموازيل إيفون مونار، ولكن أرى اضطرابك أغرب من اضطراب الوالد على ولده، فأشعر أنه يجب علي أن أقاسمك أساك، ولكني لا أدري كيف أواسيك.
فتنهد تنهدا عميقا كأن سؤالي فرج شيئا من كربه ثم قال: مولاي! إيفون خلاصة حياتي، فإذا نابتها نائبة خسرت حياتي. - إذن الصلة بينكما صلة حب لا صلة نسب؟ - الظاهر كذلك ولكن الحقيقة أن صلتنا أعظم.
فاستغربت قوله هذا؛ لأني أعلم أن الناس يضعون الحب فوق كل مرتبة، وقلت: عجبا! أي صلة غير الحب أعظم من صلة النسب؟ - مولاي إن صلة النسب للتناصر ومصدرها الوجدان، وصلة الحب للتواصل ومصدرها القلب، وأما صلتي بإيفون فلا أعلم اسمها، وإنما أعلم أنها ليست للتناصر ولا للتواصل، بل للحياة، ومصدرها الروح المجردة المترفعة عن المادة، فأنا أشعر أن إيفون لازمة لكياني لزوم الروح للجسد.
فعلمت من هذا الكلام أن كلف الفتى المسكين بتلك الفتاة نادر الشدة، ولكني ظللت في حيرة إذ لم أدر ما هي علاقته الفعلية بها، بل بالأحرى لاحظت من حديثه السابق أنه لا يلازمها ملازمة العاشق الكلف، ولعله لا يتردد إليها البتة فقلت: أشعر أيها العزيز أن أساك لا يؤاسى إلا بشفاء المدموازيل إيفون، ولي أمل كبير أنها تشفى بإذن الله، فاطمئن. - إني بين يدي الله ويديك يا دكتور بوشه. - لا أضن بشيء من العناية بها، وإذا شعرت بأقل لزوم لاستشارة أطباء آخرين في علتها، فلا أستنكف أن أعقد مجمعا من كبار الزملاء لهذه الغاية. - أمتن لك بمقدار حبي لإيفون، والآن سامحني على ما اتخذته من الدالة عليك لأول معرفة. - إن هذه المعرفة الأولى يا مسيو كاسيه تساوي عندي معرفة عمر، فليتها كانت لغير هذا السبب لأقول: إني ممتن للظروف التي احتوتها والأسباب التي دعت إليها. - أشكر لطفك جدا يا سيدي ولولا ما توسمته من كرم أخلاقك، لما طمعت بفضلك هذا الطمع. - إلى الملتقى غدا يا سيدي. - مع السلامة.
ثم ضغطت على يده وقلت له باشا: تشدد يا عزيزي موريس لا تجزع.
انصرف خفيف الخطى رشيق الحركة، وأنا أشيعه إلى خارج الباب، ولما توارى عدت إلى غرفتي متأثرا من حالته، وشاعرا بميل قلبي إليه.
تمثلت منزل تلك المرأة البائسة صومعة قديسة يتعبد فيها ذلك الفتى.
الفصل الثاني
حديث الحمى
كنت إلى ذلك الحين قد عدت تلك العليلة بضع عيادات مختصرة، فلم أكن أعرف عنها شيئا، وكان منزلها في عابدين وكنت أجدها وحدها في منزلها لا يحف بها صديق ولا نسيب سوى وصيفتها فانتين وخادم وطني، فسألت فانتين عن سر وحدتها فقالت: «إن المدموازيل إيفون غريبة لا أهل لها في مصر»، فلم أستزدها بيانا، غير أني افتكرت حينئذ أن جواب فانتين لم يكن لقصد التبيان، بل لمجرد الإجابة فقط، وإذ لم يكن أمر إيفون يهمني جدا لم أكترث أن أتحرى عن حقيقته، ولكن لما كان موريس يسائلني عن صحتها تقت أن أسأله عن ملخص سيرتها، فلم أجسر على هذا الفضول.
صفحه نامشخص