وبؤرة البحث عند إليوت سميث تنحصر في أن الإنسان البدائي الذي كان يجمع الطعام جمعا من الغابات رأى في مصر على توالي السنين أن فيضان النيل يعم الوادي في مواعيد معينة كل عام، حتى إذا انحسر انطلقت النباتات وكست الأرض بالخضرة النضرة التي كان يجد فيها طعاما، كما كان يجد فيها صيدا لوفرة الحياة الحيوانية، ففهم بالتكرار أن الماء هو أصل الحيوية، وهو أصل النبات، فشرع يحتجز الماء هنا ويطلقه هناك، ويضبط الري، وهذه هي الهندسة الأولى. وظهر عندئذ التخصص: مهندسون ينظمون الري، وفلكيون يعينون الأوقات الزراعية، وهؤلاء لا يزرعون وإنما يعيشون بالفائض من المحصول. وهنا تنشأ الحكومة التي يرأسها مهندس أو فلكي تنسب إليه صفات الألوهية؛ لأنه يدري ما لا يدريه غيره من الهندسة أو الفلك، وهو يعيش كأنه ملك، بل ملك يطاع، فإذا مات أصبح قبره معبدا، كما نرى في عصرنا كيف يميز العامة الممتازين بأضرحة يتبركون بها ويزورونها، وأرض مزروعة تحتاج إلى حدود تحترم من الجيران، وإلى أوصاف تعين للزراعة، وإلى محكمة تعاقب المعتدي على الحدود أو المحصول، وإلى صناع يصنعون الآلات الزراعية، وكل هؤلاء لا يزرعون. فنشأ من ذلك الحكومة والتجارة والفنون، وهذه هي الحضارة. ثم يموت العظماء فتنشأ الأضرحة العظيمة التي تستحيل إلى معابد، وهذا هو الدين البدائي.
ويجب ألا ننسى هنا أن كلمات القمح والبر والحنطة هي جميعا فرعونية؛ وذلك لأن أسلافنا هم الذين زرعوها لأول مرة في التاريخ، وعينوا أسماءها. ولعله كانت هناك فروق بين بذور القمح أدت إلى تعدد هذه الأسماء. والزراعة هي الأساس الأول الذي نبتت عليه الحضارة الأولى، أما قبل الزراعة فلم يكن هناك غير التجوال للبشر، بلا ثقافة غير المعارف القليلة الخاصة بالصيد، والتقاط الثمار، واقتلاع الجذور، فالزراعة أوجدت الاستقرار بدلا من التجوال، وبسطت الآفاق لثقافة الفنون والعلوم ونظام الحكم. •••
وإلى هذا نفهم كيف نشأت الحضارة الأولى في مصر، وبقي علينا أن نعرف كيف خرجت من مصر إلى سائر العالم. وقد استطاع إليوت سميث أن يكشف لنا عن أسرار النفس البشرية، أو بالأحرى يهتدي إليها عن طريق البحث في انتقال الحضارة المصرية الأولى إلى أقطار العالم المختلفة. فهو يوضح لنا أن غاية الإنسان البدائي أن يطيل عمره وأن يتقي الموت. ونحن نعرف من التحنيط أن المصري القديم كان يعتقد في سذاجة أنه ما دامت الجثة قد حنطت واستحالت إلى مومياء متقنة، فإن الحياة ستمتد بها في العالم الآخر. وكان التحنيط يحتاج إلى بعض المواد النباتية والمعدنية من الأقطار البعيدة، وهذه المواد كانت تقف الفساد في الجثة كما تكسبها عطرا حسنا. وتنقل المصريون في جلب هذه المواد، ونقلوا معهم حضارتهم إلى أقطار بعيدة، وخاصة عندما نعرف أن بعض البعثات المصرية كان ينقطع بها الطريق، فلا تعود بل تبقى في قطر ناء بين شعب غريب بدائي لا يعرف الزراعة، فتنقل هذه البعثة إلى هذا الشعب الفنون المصرية، وتعيش هناك إلى الأبد. ومن هنا نعرف لماذا وجد تمثال الرب آمون في روسيا بالقرب من جبال أورال، ولماذا عبد رب الشمس في مكسيكا، كما عبد في مصر، من حيث إحاطته بالثعبان، ولماذا حنطت الجثة في أمريكا على الطريقة المصرية، ولماذا وجدت الأهرام في إيطاليا والسودان، ولماذا توجد في اللغة الفنلندية كلمات فرعونية، ولماذا ترجع أبجدية الخطوط في جميع اللغات إلى الهيروغليفية المصرية، ولماذا يعمم التقويم المصري (الشهور والأيام) أوروبا بل العالم كله إلى الآن، ولماذا بنيت المعابد وذكرت الأساطير على الطريقة المصرية، بل لماذا يوصف إمبراطور اليابان بوصف الفراعنة، ابن الشمس؛ أي ابن رع، وأخيرا لماذا تكون الحبوب الأولى التي يأكلها الإنسان ولا يزال يأكلها مصرية الاسم كما سبق أن ذكرتها وهي: قمح، بر، حنطة.
وفي مصر يسمي الأقباط أسقفهم أحيانا باسم إيسوذوروس، وفي أوروبا تسمى المرأة باسم إيسيدورا، ومعنى الاسمين «عبد إيسيس»؛ أي الربة إيسيس، وكهنة مصر الآن هم ورثة الكهنة أيام الفراعنة، وكانت شارة الكاهن المصري القديم ذلك الثعبان الذي كان يحيط بالرب رع، وهو - أي الثعبان - لا يزال شارة الأسقف القبطي، وهو يرى على رأس عصاه إلى الآن. ولكن لما كان الكاهن المصري طبيبا وساحرا أيضا، فإن الثعبان هو الآن شارة الطبيب في أوروبا. وفي اللغة العربية لا يزال معنى الطب هو: السحر، الكهانة. بل هناك إشارات صغيرة تدل على تسلسل الثقافة الفرعونية من منف وطيبة إلى باريس ولندن، اعتبر قول الأوربيين: «يوم أحمر وليلة حمراء» للدلالة على أوقات السرور والقصف والاحتفال، ونحن نقول في مصر «ليلة حمراء» في هذه المعاني أيضا، والأصل هو عادة أسلافنا في كتابة أيام الأعياد بمداد أحمر، والعيد قصف ولهو.
هذه الثقافة المصرية القديمة التي تفشت في العالم القديم لم يكن من الضروري أن يكون القائمون بها مصريين؛ لأن البعثة المصرية التي وصلت إلى الصين مثلا حيث تركت التمساح وجعلت تمثاله شعارا للصينيين ليست هي التي ذهبت إلى أمريكا، وأوجدت التحنيط وعبادة الشمس التي تحيط بها هالة الثعبان؛ لأن هذه البعثة التي ذهبت إلى أمريكا كانت في الأغلب هندية أو صينية أو جاوية قد تأثر أفرادها بالثقافة المصرية.
وأذكر البقرة هاتور المصرية، وأذكر تقديس البقرة في الهند، وأذكر أيضا ملوك أفريقيا المتوحشين، وكيف يضربون الجهات الأربع بالقوس، كما كان يفعل الفراعنة عندما كانوا يتولون العرش رمزا إلى الاستيلاء على العالم. بل أذكر أيضا دعوى الحق الإلهي لملوك أوروبا، وهي الدعوى التي كافحتها الشعوب الديمقراطية، ولا ننسى دعوى الألوهية عند الفراعنة. بل هناك ما يرجح أن معظم الأسر المالكة في العالم يرجع إلى أصل فرعوني؛ وذلك لأن كل بعثة كانت تخرج من مصر لجلب المواد والطيوب للتحنيط كان يرأسها أحد أفراد أسرة فرعون، فإذا لم ترجع البعثة صار هذا الفرد ملكا على البقعة التي كانت تحتلها بعثته حتى إذا استقر العرش الجديد خرجت بعثة أخرى ... إلخ.
ولم يكن التحنيط الباعث الوحيد لهجرة المصريين إلى الأقطار البعيدة، فإن الإنسان المصري الذي كان يرغب في بقاء حياته بالتحنيط، كان أيضا يحب أن يطول عمره على الأرض قبل التحنيط، فكان يجمع الودع ويحمله للمشابهة العظيمة بين الودعة وبين عضو التناسل في المرأة؛ ذلك أنه كان يعتقد أن هذا العضو هو أصل الحياة، ومن هنا هذا الاشتقاق العربي وهو «الحياة من الحيا»؛ أي عضو التناسل في الأنثى. ثم صار أيضا يجلب الذهب ويصوغه ودعا لجماله، ثم نقل ميزة الودعة إلى الذهب، فصار الذهب يطلب لذاته؛ لأنه يطيل الحياة مثل الودعة، بل صار الذهب إكسير الحياة، الذهب حجر الفلاسفة، الذهب أصل النقود، كل هذا من الاعتقاد المصري القديم بأنه - أي الذهب - يطيل العمر.
ثم أذكر بعد ذلك الكيمياء التي نشأت من الرغبة في إحالة المعادن إلى ذهب، بل ماذا أقول؟ إن كلمة كيمياء نفسها مصرية، وهي خيمي أو كيمي؛ أي مصر، أي الأرض السوداء. والكيمياء هي «العلم المصري».
وبعد الذهب صار الإنسان المصري يجلب الأحجار الكريمة اعتقادا بأنها تطيل العمر، وما زلنا في مصر نشفي العين العليلة بتعليق حجر عليها أو فوقها ... وما زلنا ننشد البخت بضرب الودع، وكلمة «المرجان» تنطوي على معنى الحياة الطويلة في الفارسية.
وإطالة أعمارنا على الأرض بالذهب والأحجار الكريمة، وإطالة أعمارنا بعد الموت بالتحنيط، كلتاهما دفعت الإنسان المصري إلى الهجرة إلى الأقطار النائية، فتفشت الحضارة المصرية بهذه الهجرة في أنحاء العالم، وأخرجت الإنسان من التوحش وجمع الطعام من الغابات إلى التمدن وإنتاج الطعام بالزراعة، والزراعة أوجدت الحكومة، والدين، والفلك، والحساب، والهندسة، والبناء، والقانون. •••
صفحه نامشخص