بل يتحدث في جنون، فيأسف على أن المسيح لم يعمر طويلا، ويقول: إنه لو كان قد عمر طويلا لنقض آراءه التي كان قد قال بها، ثم يقول: «حقا لقد مات هذا العبراني !
لم يكن قد عرف في حياته سوى دموع العبراني وأحزانه، مع كراهة الطيبين والعادلين، هذا المسيح العبراني، ثم إذا ببيداء الموت تطويه ...
ولم يعش في البيداء بعيدا عن الطيبين والعادلين، لعله لو كان قد فعل لكان قد عرف كيف يعيش، وكان عندئذ يحب الأرض والحياة أيضا!
ثقوا يا إخواني، إنه مات دون أن يعمل، ولو أنه كان قد عاش مثلما عشت، وعمر مثلما عمرت، لنقض ما كان قد قاله. أجل، إنه كان على شرف يحمله على أن ينقد ما كان قد قاله.
ولكنه لم ينضج وحبه، إنما كان حب الشباب الذي ينقصه النضج، وهذا هو علة كراهته للأرض والحياة.» •••
إن كثيرا من أقوال نيتشه يوهم الهوس إن لم نقل الجنون، وربما مما لا شك فيه أنه قضى نحو عشرين سنة وهو في جنون يكاد يكون مطبقا؛ إذ كان في الدور الأخير من السفلس، ولعل هذا الجنون كان قد تسلل وئيدا قبل أن يطبق عليه، ولعل أيضا بعض هذيانه يعزى إلى هذا المرض، على أن كثيرا من «الهذيان» لا يزيد أن يكون إسرافا وتوترا في التعبير، ولكن ليس من الصواب أن نحذف نيتشه بدعوى الهوى أو الهذيان أو الجنون، فإنه قد عرض لقضية إنسانية واضحة يجب على كل فيلسوف أن يواجهها في صراحة، وأن ينتهي منها إلى حكم فاصل، وليس ثم مفر من هذه المواجهة، وهذه القضية هي أن مصلحة البشر وارتقاء الإنسان يقتضيان محاربة الضعف والمرض والنقص، كما يقتضيان تشجيع وتأييد الصفات العالية كالصحة والقوة والذكاء، فما دام هذا هو الهدف، فهل من الخير للناس أن يؤسسوا المستشفيات لمعالجة المرضى؟ وهل من الخير أن يباح الزواج للأبله والمغفل والأشوه؟ ثم ما دمنا نؤمن بأننا كنا على مستوى منخفض من الذكاء قبل مليون سنة، حين كنا والحيوان سواء، فلماذا لا نعمل في اطراد التطور، كي نزداد صحة وقوة وذكاء؟
لقد كنا في الغابة نعيش بالفطرة، وكانت الطبيعة قاسية لا ترحم ولا تعرف دواء لمعالجة المرضى، وكان الموت يفشو ويفتك بالآلاف، ولا يبقى منا غير الصالح القوي القادر على المشقات، ثم جاءت الحضارة فجمعت الضعيف إلى جانب القوي، وسادتنا أخلاق الرحمة والإخاء والتصدق، فعاش بهذه الأخلاق ناس ما كانوا ليستطيعوا العيش في الغابة، ثم هم مع ذلك يتزاحمون ويتناسلون فيجعلون المرض والضعف والدمامة مخلدة في العناصر البشرية.
وصيحة نيتشه هنا: عودوا إلى شريعة الغابة، ثم عودوا إلى تنازع البقاء، هي صيحة تستحق النظر والتأمل، ولا يغني فيها القول بأنه كان مريضا بالسفلس أو أن هذا القول هذيان؛ إذ ليس هذا هذيانا.
لقد كان القرن التاسع عشر عصر الإيمان بالوراثة، وهي القدر الذي يعين لنا حظنا في الحياة بما ورثنا من كفايات من آبائنا. ومع أن القرن العشرين قد نقض كثيرا من هذا الرأي، وأدحض بعض الأركان لهذا القدر، فإن الوراثة لا تزال تحتل جزءا كبيرا من التفكير البيولوجي، وكلنا يثق هذه الأيام بقيمة الوسط في التغير والتطوير، ولكن مع اختيار السلالات التي تعينت لها صفات واستقرت فيها خصائص بحيث نعود فنستغل هذه الصفات والخصائص في الوراثة.
وقد ظهرت «اليوجنية» أي علم ترقية السلالات البشرية بناء على الإيمان بالوراثة، وهي إلى الآن يوجنية سلبية، بمعنى أن الأمم المتمدنة تعمد إلى تعقيم الناقصين والبله حتى لا يتناسلوا، وقد عمد هتلر إلى شيء من اليوجنية الإيجابية بتشجيع المتفوقين على التناسل وخصهم بميزات لم يكن يحصل عليها سائر أفراد الشعب، وذلك أيام النازية. وهذا كله من وحي نيتشه كما هو من التعاليم التي فشت عقب نظرية التطور.
صفحه نامشخص