ومضت أشهر على اختفاء ابن زيدون كانت فيها عائشة تفكر في وسائل العثور على مخبئه، وما كاد يلتمع لها قبس من الرأي حتى قصدت في إحدى الليالي إلى دار خادمها بلال، فلما رآها ولم يكن متوقعا أدركه البهر وأخذ لسانه يتلجلج بكلمات كان منها: سيدتي عائشة؟ ... ماذا أرى؟ ... نعم ... أهلا بسيدتي ... كيف بلغت بك الطريق إلى داري؟ ألا تخافين عيون ابن جهور؟ ... ما كان أسعد أيامي بك وبأمك يرحمها الله! إنها ماتت حزنا عليك يا سيدتي. - علمت بموتها يا بلال منذ عدت إلى قرطبة. اسمع - ووضعت في يديه كيسا من الدنانير - أريد أن أعرف مكان اختفاء ابن زيدون. - ابن زيدون؟ وأين نجده وقد عجز عن العثور به الشرط وجميع جواسيس الدولة؟
اسمع يا بلال، إنه في المدينة من غير شك، ولن يستطيع مغادرتها وإلا قبض عليه حراس التخوم. - نعم في المدينة. نعم صحيح. ثم جرؤ على الابتسام وقال: ولكن المدينة يا سيدتي ليست جحرا أو دارا أو زقاقا أو محلة، وإنما هي بحر زاخر بأمم من أقطار الشرق والغرب. إن الذي يبحث عن مختف في هذه المدينة كمن يبحث عن دينار سقط في الوادي الكبير. - ليس الأمر كما تظن يا بلال. وقد توفق إذا حصرنا البحث عنه في دائرة أصدقائه. - أصدقاؤه لا يشون بصاحبهم. - يا بلال، تأن قليلا، وألصق هؤلاء الأصدقاء بابن زيدون امرأتان: ولادة ونائلة الدمشقية. - هذا صحيح يا سيدتي. - ولا بد أن يتردد على داريهما كيفما بالغ في الاختفاء، وأغلب الظن أن يكثر من زيارة ولادة. فهل تستطيع أن تتحسس منه في دارها؟
فصاح بلال قائلا: أستطيع وأستطيع! إن جاريتها عتبة لي صديق، وهي تطمع في أن أكون لها بعلا. - حسن جدا. كرر زيارتها وتلطف ولا تشعرن بك أحدا، حتى تحصل منها على ما تريد دون أن تعرف من الأمر شيئا، وسأزورك أو ستزورك دنانيري مضاعفة بعد أيام، ثم مدت إليه يدها واندست في الظلام كأنها طيف خيال.
وسعى بلال جاهدا ليعرف مخبأ ابن زيدون، فتردد على عتبة وأكثر من التودد إليها، وبذل لها الوعود البراقة الخاتلة، حتى بلغ منها بعض ما يريد، ثم طفق ينتظر وعد عائشة بزيارته، حتى إذا كانت ليلة حالكة السواد، مريضة النجوم، سمع طرقا على بابه فأسرع للقاء عائشة محتفلا فرحا بما سينال من أجر، ولكنه ما كاد يفتح الباب حتى بهت وذعر وكاد يسقط على الأرض مما أصابه من الهول، فإنه ما كان يظن أن يرى عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة بين جنده وأعوانه، وهؤلاء لا يزورون رجلا في جنح الظلام للسؤال عن غالي صحته، أو للتمتع بحسن حديثه.
وقف بلال مبهورا، وصاح به صاحب المدينة: أين كنت بالأمس بعد العشاء الآخرة؟ فتلعثم بلال وأرتج عليه باب الكلام فوقف مشدوها. - أين كنت بالأمس يا رجل؟ قل ولا تخف عني شيئا، فإن جواسيسي يقرءون ما في الصدور ويعرفون ما تخفيه السرائر. - كنت يا سيدي.. عند عتبة ... عند عتبة. - جارية ولادة بنت المستكفي؟ وماذا كنت تصنع في دار ولادة؟ - أزور عتبة يا سيدي. - تزورها في كل ليلة؟! - حقا لقد أخطأت وجاوزت الحد. هل شكت سيدتي ولادة من زيارتي لدارها؟ إني سأتزوج عتبة يا سيدي، وقد تواثقنا على الزواج، وإذا كان أحد لا يحب أن أزورها قبل الزواج فإني أعاهدك ألا أطرق لها بابا. - ليس هذا ما أقصد يا رجل. ألم تقابل ولادة في إحدى زياراتك؟ - لا يا سيدي، وأنى لمثلي أن يقابل مثلها؟ - ألم تحمل منها رسالة إلى صديق أو تحضر إليها رسالة من صديق؟ - أي صديق يا سيدي؟ - لا شأن لك بهذا يا رجل، وإياك أن تتباله فإننا لسنا من الغفلة بحيث نصدق ما تقول؟ - أقسم بالله يا سيدي إني لا صلة لي بسيدتي ولادة، وإني لا أعرف من أمر الرسائل التي تذكرها شيئا. - اعلم يا رجل أنك إذا خطوت مرة أخرى نحو دار ولادة كان دمك مهدرا. - عهد الله يا سيدي ألا يراني أحد من رجالك مارا بدارها!
فأطال إليه صاحب المدينة النظر في شك وتردد، وبين تصديق وتكذيب، ثم انصرف، وبقي بلال خافق القلب مرتعد الأوصال، يلعن الشرطة ورجالها، واللحظة التي زارته فيها عائشة فنصبته هدفا للشكوك، وجعلت داره مغدى ومراحا لأعوان السلطان كلما حلا لهم أن يخلعوا قلبه من مكانه.
لم تمس يده في هذه الليلة طعاما، وأخذ يبسط فراشه في تكاسل ورعب، وهو على يقين من أن النوم لن يطرق له جفنا. وبينما هو يتقلب على الفراش، والوهم يرسم له من التهاويل ما يزلزل فؤاد الشجاع، إذا طرق خفيف على الباب فأنصت مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر رجال الشرطة، وقام وهو يقول لنفسه: عادوا ثانية للقبض علي وإلقائي في غيابات السجون، لأني رأيت في عين كبيرهم كأنه في شك من أمري، ولن أملك إلا التسليم، فإن ظلم هؤلاء ليس له من مرد.
وفتح الباب فإذا عائشة بوجهها المؤتلق، وثغرها الباسم، تحييه، وتمد إليه يدا كانت في يده الجافية السوداء كقطعة من الزبد في جفنة من القار. همس بلال قائلا والرعب لم يفارقه: أهلا بسيدتي عائشة! هل قابلت صاحب المدينة بالطريق؟ - من صاحب المدينة؟ أنت تحلم يا بلال؟ - لا يا سيدتي. إني يقظان، هذه يدي أهزها، وهذا جسمي لا أزال أراه مرتعدا. - ماذا بك يا بلال؟ - الذي بي يا سيدتي أن صاحب المدينة زارني منذ ساعة. - وهل هذا كل ما يهولك؟ إن صاحب المدينة لا يزور الناس دائما ليقتلهم، وقد يكون من متممات بحثه أن يهتدي بسؤال هذا أو ذاك. - إن نظراته مخيفة يا سيدتي، وإني لا أحب مقابلة أحد من هؤلاء ولو سألني عن الطريق. - هون عليك يا بلال. عم سألك؟ - سألني عن أسباب ترددي على دار سيدتي ولادة. - آه فهمت. إنهم يرقبون دارها لعلهم يصلون إلى موطن اختفاء ابن زيدون؛ وهم يسلكون الطريق التي أسلكها، ولكني سأبلغ الغاية قبلهم. ماذا وراءك من أخبار عتبة؟
ولمح بلال أنها تحمل في يدها كيسين فأطال النظر إليهما وقال: من أخبار عتبة؟ - نعم يا بلال من أخبار عتبة. وألقت في يده الكيسين فسمع إلهما وسوسة ورنينا طار لهما لبه فقال: علمت من عتبة أن الوزير أبا حفص بن برد يزور ولادة في كل خميس بعد الهزيع الأول من الليل ومعه رجل ملثم، وأنهم يختلون في غرفة بعيدة عن الخدم، وأن الرجلين ينصرفان قبل انبثاق الفجر. - حسن يا بلال، ثم أسرعت وقالت: وماذا فعلت بعد ذلك يا بلال؟ - كمنت وراء جدار، حتى إذا غادر الرجلان الدار تبعتهما من بعيد في حيطة وحذر، فلما فصل ابن برد ليذهب إلى داره واصل الرجل الملثم السير حتى بلغ خطة جند الشام فدخل دارا تقرب من مسجد الشهداء. - مرحى يا بلال! لقد عثرنا على الدينار الضائع في الوادي الكبير. إن الرجل الملثم هو ابن زيدون من غير شك، وسينالك مني أضعاف ما نالك من مال عندما أقتنص هذا الطائر النفور. عم مساء يا بلال. ثم انفلتت نحو الباب مرحة جذلى، كأنها سيقت إليها الدنيا بحذافيرها.
وجاء الصباح، وانقضى النهار وأقبل الليل، ومرت منه زلف،
صفحه نامشخص