زارني ابن زيدون منذ أيام فنصحت له أن يبتعد عن تلك المرأة التي يدعونها عائشة بنت غالب، إنها أسبانية الأصل، لئيمة المنبت، جاسوسة للأسبان وإن بالغت في كتم أسرارها. وهي امرأة مخيفة، تقتنص الرجال، وتلزمهم التزوج بها، حتى إذا سئمتهم قذفت بهم من حالق
9
كما تقذفين بقشرة البرتقال. نصحت للفتى كثيرا، وحدثته بجملة من أخبارها، وأخبرته بأنها ألقت شباكها مرة على أبي القاسم ابن قاضي الجماعة، فسدت عليه المسالك، واجتذبته بأفانينها، فانقاد إليها مسحورا مأخوذا. ثم تزوجها وعاش في جنة حبها كما يعيش الطائر في قفص من ذهب، فلما هدأت نار السحر، وانقشعت عن عينيه الغيابة، أراد أن يخرج من هذه الجنة وأن يلوذ بغيرها من جنات الأندلس العالية، ولكنها ما كادت تلمح في عينيه ما كان يدور في نفسه من طلاقها، حتى ضاعفت من إغرائها ونصبت حوله حبائلها، غير أن شيئا من ذلك لم يفلح، وتشبث الفتى بالطلاق، فلما يئست منه، وعلمت أنه مطلقها لا محالة، أرسلت في طلبه فحضر إليها، وكانت قد أعدت قرصا وشطرته شطرين، ووضعت في نصفه سما، فلما هم بوداعها بكت أشد بكاء وهمت لعناقه وهي تقول والعبرة تخنقها، إن أمها أخبرتها أن الحبيبين إذا تناصفا قرصا عند الوداع فلا بد أن يعود كل منهما إلى صاحبه، لأن أحد نصفي القرص لا يفتأ الدهر يطلب قسيمه، فصدقها المسكين، وقسمت القرص، وأعطته النصف المشغول فأكله، وانصرف إلى داره، ولم تمر به ساعات حتى كان من سكان القبور.
وما كاد ابن زيدون يسمع مني هذا الخبر حتى ذعر واصفر لونه، وهاله الأمر، وأكثر ظني أنه سينفلت منها قبل أن تحكم انطباق الشبكة. إن ابن زيدون يا ولادة أبرع كاتب، وأصدح شاعر في جزيرة الأندلس جميعها، وسيكون له شأن أي شأن، وأولى بك أن تجتذبيه إلى ندوتك التي تزخر بأدباء قرطبة وعظمائها.
فتململت ولادة في مجلسها قلقة مضطربة، وطاف برأسها أنها لم تسمع منذ الصباح إلا حديثا عن ابن زيدون، ومواهب ابن زيدون، وفتنة الناس جميعا بابن زيدون. وهي ترى في الرجل وفي أدبه ما تحن إليه نفسها الطموح، ولكنها كانت تخاف إن هي وصلت به حبالها، واتخذته لها زوجا، أن يبقى كما هو أديبا شاعرا، دون أن يكون له من صفات الرياسة وعلو المكانة ما يحقق آمالها.
أذهلتها هذه الأفكار عن جليستها وقتا قصيرا، ثم سمعت نفسها تقول: - إن ندوتي يا نائلة لا تتسع لصغار الكتاب. وما كادت تتم عبارتها حتى ملأت نائلة فضاء البهو قهقهة، وصاحت في عجب ودهشة: - ابن زيدون من صغار الكتاب؟! أتعيشين يا ابنة الخليفة في قرطبة، أم فوق السحاب، أم وراء سد يأجوج ومأجوج؟ أسرعي يا سيدتي فقد فاتك الركب، ثم هاتي أذنك أحدثك بسر أقسمت على أن أكتمه وألا أبوح به لأحد. ثم قالت في صوت خافت: إن ابن جهور يضع عليه عينه ليوليه منصب الوزارة بعد وقت قصير.
فظهرت الدهشة على وجه ولادة، وأحست نائلة أنها تشك في صلتها بابن جهور، وفي أنه يتخذ منها موضعا لسره، فقالت في هدوء: إن ابن جهور رجل داهية قناص للفرص، يعرف أين يجد ما يطلبه، ويعرف كيف يستعين لما يطلبه، وقد عرف صلتي بالوزارء وكبار الدول ورؤساء الجماعة، وعرف أن أخبار قرطبة تتزاحم على بابي كما يتزاحم الموج على ساحل البحر الأخضر، فليس بعجيب يا سيدتي أن يزورني بين الحين والحين، وليس بعجيب أن يتحدث إلي في شئون الدولة. وقد جرى ذكر ابن زيدون على لساني عندما زارني آخر مرة ورأيت وجهه ينقبض وينبسط هكذا كما تنقبض وتنبسط يدي هذه. فقلت له: ألا يعجبك الرجل؟ فابتسم وقال: يعجبني، ولكن الذي أخشاه أن يجني عليه ذكاؤه، وتتعثر به مطامحه. هذه كانت عبارة الرجل كما قالها. فقلت له: إنه خير ألف مرة من وزرائك المهازيل عبيد الحسان، الذين هم دائما زينة المحافل، وهزيمة الجحافل، والذين لا يحبون أن يروا كأسا فارغة أو مملوءة: فإن كانت فارغة ملئوها، وإن كانت مملوءة أفرغوها في بطونهم، فابتسم ابن جهور متألما وقال: وابن زيدون صاحبك أسبقهم في هذا الميدان، وأخبرهم بقلوب الحسان، وقد سمعت أخيرا بصلته بعائشة بنت غالب، وأنت تعلمين من أمرها أكثر مما أعلم. فاجترأت على الكذب وصحت في وجهه: إنه تركها وقطع صلته بها. فأجاب: هذا حسن، هذا حسن. ثم هز كتفي بيده مازحا وقال: إن ابن زيدون رجل ستطلبه المناصب قبل أن يطلبها، وثقي أنه سيكون وزيرا بعد أيام. فقلت له: إن الدولة في أشد الحاجة إلى رأيه وإلى قلمه وإلى دهائه، وإن حب القرطبيين له سيجمع حول دولتك الكلمة، ويحول دون الثوارت التي هزت عروش من سبقوك، فهل أسمع غدا أنك اخترته وزيرا؟
ثم اتجهت إلى ولادة وقالت: أتعجبك هذه الصراحة يا فتاتي؟ فتكلفت ولادة الابتسام وقالت: - وبم أجابك؟ - لم يقل شيئا، غير أنه حينما هم بالقيام همس في أذني قائلا: لقد تبسطنا الليلة في الحديث فوق ما كنت أريد يا نائلة، فاكتمي هذا السر واجعليه بيني وبينك، ولا تشركي فيه ثالثا.
ثم قهقهت وغمزت بعينها وقالت: أرأيت كيف أني حفظت السر ولم أشرك فيه ثالثا؟ - وعلى هذا سيصل ابن زيدون إلى منصب الوزارة غدا أو بعد غد؟ - بعد ثلاثة أيام، ودعيني الآن أذكر لك ما قدمت لأجله، إني سأدعو ابن زيدون وأصحابه من كبار الكتاب والشعراء والوزراء، وسأدعو أجمل فتيات قرطبة وأشرف أسرها، وستكون ليلة مشرقة ضاحكة قل أن يجود بمثلها الزمان. وقد جئت لأدعوك، فإن ندوة لا تكون بها ولادة بنت المستكفي تفقد روح المرح والجمال والبهجة والسرور. أرجو يا سيدتي أن تشرفيني بقبول هذه الدعوة.
ففكرت ولادة قليلا، ومر بخيالها أن القدر يريد أن يجمعها بابن زيدون، وأنها كيفما حاولت لا تستطيع الفكاك من أيدي القدر، فأجابت: إني أقبل هذه الدعوة مسرورة مغتبطة، وأشكرك أجزل الشكر على هذه العناية.
صفحه نامشخص