ومضت أشهر أوشك فيها الناس أن ينسوا فرار ابن زيدون، فأزمعت ولادة ونائلة الرحيل إلى إشبيلية، ولكن جواسيس ابن عبدوس أوصلوا إليه الخبر فنقله إلى ابن جهور وأغراه بمنعهما من السفر، فأرسل إليهما صاحب المدينة ينذرهما بسوء العاقبة إذا غادرتا قرطبة، ووضع حول داريهما الأرصاد والعيون.
الفصل الرابع عشر
بلغ ابن زيدون إشبيلية بعد أيام، وكانت في ذلك العهد من أعظم مدن الدنيا بهجة ورواء وطيب أرض واعتدال جو واتساع رقعة، وهي على الضفة اليسرى من الوادي الكبير الذي يصعد المد فيه كل يوم نحو اثنين وسبعين ميلا، فيسقي الرياض والحدائق، ثم ينحسر
1
عنها كما ينحسر السحاب في الليلة المزهرة عن صفحة السماء. وبها جبل الشرف، وهو أحمر التربة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، لا تكاد تسقط أشعة الشمس على بقعة من أرضه، لالتفاف أشجار الزيتون والتين به.
وبإشبيلية أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وقصور سامقة، وبساتين ناضرة. وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة والترف والمجون حتى قيل: إنه كلما مات عالم بإشبيلية حملت كتبه لتباع بقرطبة، وكلما مات مطرب بقرطبة حملت آلاته لتباع بإشبيلية.
ما بلغ ابن زيدون المدينة حتى قصد لتوه قصر المعتضد، وهو قصر فخم يطل على النهر، فسيح الأرجاء سامق البناء، كأن لقبابه حديثا لا ينقطع مع السماء. وخير لنا ألا يجرؤ قلمنا على وصفه، فإنه يكفي أن نقول: إنه قصر بني عباد، وبنو عباد هؤلاء خلقوا وفي دمهم الانفراد بالعظمة، والغيرة من أن يسبقهم في فخامة الملك وجلالة السلطان سابق، ثم إن من طبائعهم السرف والافتنان في النعيم والتمتع بلذائذ الحياة.
استأذن ابن زيدون على المعتضد، وكان يجلس في قاعته الكبرى التي يستقبل فيها الوزراء والسفراء وكبار رجال الدولة، فلم يصل إلى حضرته إلا بعد جهد ولأي، فقد أخذ يتلقفه عبد أسود، ليسلمه إلى خادم صقلبي ليسير به إلى بعض كبار القصر، ثم إلى ذي الوزارتين أبي علي بن جبلة، كأنه كرة يقذف بها لاعب للاعب. وحينما رآه ابن جبلة رحب به وعانقه وأظهر له من الود والحفاوة ما يرتاح لهما قلب الكريم. ثم دخل به إلى المعتضد وكان جالسا على كرسي عال تحيط به الوسائد، ويقوم إلى جانبيه عن يمين وشمال عبدان لا يكاد الناظر يرى منهما إلا لهيب عينيهما لكثرة ما تدججا به من سلاح.
وكان المعتضد في نحو الخامسة والأربعين، مديد القامة جهم الوجه، براق العينين، يكاد سنا برقهما يذهب بالأبصار. وكان على كبريائه وغروره داهية حاد الذكاء، باقعة في السياسة، شديد البطش جبارا. كان أسدا يفترس وهو رابض، وثعلبا يعرف متى يثب ومتى يفر، وكان كثير الأطماع بعيد منال الآمال، لا يكاد يستقر له سيف في غمد، أو يلقي عن جواد له لجام، فهو دائما مع من حوله من الوزراء في صدام وعراك وحرب ضروس.
دخل ابن زيدون فحياه الأمير في عظمة الملوك وسطوة الجبابرة، وتصدق عليه بابتسامة ذابلة، وكلمات هادئة في الترحيب بمقدمه، وكأن ناطق حاله كان يقول: هذا كل ما أستطيع أن أتبسط فيه مع مثلك، فاحمد الله عليه، فإني لا أجود به على أحد. وأخرج ابن زيدون من كمه قصيدة كان أعدها لمدحه في الطريق جاء فيها:
صفحه نامشخص