وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق، لينجلي لهم خفايا الملك والملكوت، وخبايا صرف الكلام إلى بعض محتملاته وترجيحه على سائر المحتملات بدليل دعا إليه مما يتعلق بالدراية كما إذا كان اللفظ مشتركا بين معاني متعددة محتملا لكل واحد منها فيحمل اللفظ على بعض تلك المعاني لكونه موافقا للأصول من الآية المحكمة أو الحديث المتواتر أو إجماع الأمة فتعين ذلك المعنى بهذا الطريق. هو التأويل وهو من الأول الذي هو الرجوع والانصراف سمي تأويلا لما فيه من إرجاع اللفظ إلى ما يقتضيه الدليل فإذا وقع الكلام المحتمل للمعاني المتعددة في القرآن أو الحديث فلا بد من عرضه على الأصول الشرعية من آية محكمة أو حديث متواتر أو إجماع الأمة، فإن وافق الأصول ووافق القواعد المقررة عند أرباب العربية أيضا فصحيح وإلا فهو فاسد لكونه قولا بمجرد التشهي. فظهر أن التأويل لا بد أن يكون فيه مدخلا للرأي والدراية بخلاف التفسير فإنه لا مدخل لهما فيه بل هو منوط بالنقل والرواية فقط فإنه عبارة عن تبيين المعنى وكشفه مستندا إلى النقل والسماع كالإخبار عن سبب نزول الآية وبيان من نزلت فيه ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا من شهد النزول وعاين السبب وهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فجاز لهم التفسير لتمكنهم من كشف المعنى عن العلم الحاصل بالمعاينة بخلاف غيرهم فإنهم لو أخبروا بشيء من ذلك من غير أن يسندوه إلى من شهد النزول فذلك تفسير بالرأي. وقد أوعد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». وما جاء عن السلف والفقهاء المجتهدين من استنباط معاني القرآن بالرأي والاجتهاد فذلك تأويل لا تفسير والذي دعاهم إلى ذلك أن الله تعالى جعل القرآن هدى للناس يرجع إليه في جميع ما يحتاج إليه في باب العمل والاعتقاد وليس كل ذلك منصوصا في القرآن فوجب أن يكون بعضه ثابتا بدلالة النص وإشارته واقتضائه لا يستخرج ذلك إلا بالرأي والعرض على الأصول فهذا هو الذي دعاهم إلى استنباط بعض المعاني بالرأي والاجتهاد. والتفسير مأخوذ من الفسر وهو مقلوب من السفر وهو الكشف والإظهار يقال: أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه، وسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت نقابها ومنه سمي السفر سفرا لأنه يظهر عن أخلاق الرجال. قال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما لغة كما يتقارب لفظهما لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول والسفر لإبراز الأعيان للأبصار.
قوله: (وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق) عطف على قوله «فكشف القناع عن المحكمات والمتشابهات تأويلا وتفسيرا» فيكون مجموع الكشف والإبراز تفصيلا للتبيين المذكور سابقا. ذكر أولا على سبيل الإجمال أنه تعالى بين الفرقان المنزل على حسب المصالح ليكون ذلك مؤديا إلى تدبرهم وتذكرهم ثم فصل طريق التبيين فقال إنه تعالى كشف
صفحه ۱۴