ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة وأدل على مكانها لخفاء الاعتقاد وما في آداب الجوارح من الاحتمال، جعل رأس الشكر والعمدة فيه. فقال عليه الصلاة باللسان بمقابلة الفضيلة المختصة بالمثنى عليه مادة تحقق الحمد بدون الشكر، ويكون الفعل الصادر من الجنان والجوارح على وجه تعظيم المنعم بمقابلة إنعامه مادة تحقق الشكر بدون الحمد. فحاصل تعريف الشكر أنه جعل فعل الموارد الثلاثة مقابلا للنعمة واقعا بإزائها جزاء لها متفرعا عليها والمقصود بيان أن ما وقع بإزاء النعمة من الأفعال الواردة عن الموارد الثلاثة تعظيما للمنعم جزاء لنعمته يطلق عليه الشكر مع قطع النظر عن كون الفعل الواقع بإزائها واقعا عن جميع الموارد المذكورة أو عن بعضها، ويدل عليه إيراد البيت المذكور عقيب التعريف فإن خلاصة معناه: أن نعمك الواصلة إلي اقتضت أن أعظمك بهذه الموارد كلها أو بعضها، فهو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة بناء على أنه جعلها بإزاء النعمة على أن تكون جزاء متفرعا عليها. ومن المعلوم أن كل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلب عليه الشكر لغة فلما كان المقصود من إيراد البيت الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق على ما ذكر من أفعال الموارد المذكورة لم يبق وجه لأن يقال المقصود من إيرادها مجرد التمثيل لجميع شعب الشكر لأن قضية التشعب لم تذكر بعد. ثم إنه لما بين أن لفظ الشكر يطلق على الأفعال المذكورة فرع عليه قوله: «فهو أعم منهما من وجه وأخص من آخر». قوله: (ولما كان الحمد من شعب الشكر) أي من أقسامه وفروعه. جعل الأقسام شعبا لتشعبها من مقسمها. وقوله: «من شعب الشكر» خبر كان «وأشيع» خبر بعد خبر أو الأول حال أو صفة والثاني هو الخبر، ولفظ أشيع تفضيل من المزيد فيه وهو من النوادر والمعنى أشد إشاعة وإظهارا للنعمة. قوله: (وأدل على مكانها) أي على تحقق النعمة وثبوتها وعطفه على ما قبله للتفسير، وإنما كان الحمد أشيع للنعمة لأنه يكون باللسان وحده ومن المعلوم أن فعل اللسان المنبىء عن تعظيم المنعم لكونه ظاهرا محسوسا أظهر دلالة على المراد بالنسبة إلى دلالة الاعتقاد لخفائه واحتجابه وإلى دلالة أفعال الجوارح لاحتمال وقوعها لأمر آخر غير تعظيم المنعم، فإن خدمة المنعم بالجوارح لا يتعين كونها متفرعة على نعمه الواصلة منه إليه جزاء لها بل يحتمل أن تكون لغرض آخر بخلاف فعل اللسان فإنه ظاهر بنفسه مظهر للمعنى المراد به بحيث ليس فيه احتمال غير المراد، فيكون الحمد أظهر أقسام الشكر في الدلالة على تعظيم المنعم وإظهار نعمته. والادآب الأتعاب يقال: دأب فلان في عمله أي جد وتعب. قوله: (جعل رأس الشكر والعمدة فيه) وهو إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله إن الشكر أعم من الحمد والمدح من وجه، وتقرير السؤال أن العموم من وجه بين الشيئين يستلزم صدق كل منهما على الآخر من وجه وقوله عليه الصلاة والسلام: «الحمد
صفحه ۶۳