[حاشية ابن القيم]
قال الشيخ شمس الدين بن القيم رحمه الله بعد قول الحافظ زكي الدين وقال الترمذي حديث غريب وقال الترمذي سألت محمدا عن هذا الحديث فقال حديث صحيح
وقد أعل ابن حزم حديث حابر بأنه عن أبان بن صالح وهو مجهول ولا يحتج برواية مجهول
قال ابن مفوز أبان بن صالح مشهور ثقة صاحب حديث
وهو أبان بن صالح بن عمير أبو محمد القرشي مولى لهم المكي
روى عنه ابن جريج وابن عجلان وابن إسحاق وعبيد الله بن أبي جعفر
استشهد بروايته البخاري في صحيحه عن مجاهد والحسن بن مسلم وعطاء وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان
والنسائي وهو والد محمد بن أبان بن صالح بن عمير الكوفي الذي روى عنه أبو الوليد وأبو داود الطيالسي وحسين الجعفي وغيرهم وجد أبي عبدالرحمن مشكدانه شيخ مسلم وكان حافظا
وأما الحديث فإنه انفرد به محمد بن إسحاق وليس هو ممن يحتج به في الأحكام
فكيف أن يعارض بحديثه الأحاديث الصحاح أو ينسخ به السنن الثابتة مع أن التأويل في حديثه ممكن والمخرج منه معرض
صفحه ۲۹
تم كلامه@ وهو لو صح حكاية فعل لا عموم لها ولا يعلم هل كان في فضاء أو بنيان وهل كان لعذر من ضيق مكان ونحوه أو اختيارا فكيف يقدم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع فإن قيل فهب أن هذا الحديث معلول فما يقولون في حديث عراك عن عائشة ذكر عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قد فعلوها استقبلوا بمقعدتي القبلة
فالجواب أن هذا الحديث لا يصح وإنما هو مرقوف على عائشة
حكاه الترمذي في كتاب العلل عن البخاري
وقال بعض الحفاظ هذا حديث لا يصح وله علة لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة المعانون عليها
وذلك أن خالد بن أبي الصلت لم يحفظ متنه ولا أقام إسناده
خالفه فيه الثقة الثبت صاحب عراك بن مالك المختص به الضابط لحديثه جعفر بن ربيعة الفقيه فرواه عن عراك عن عروة عن عائشة أنها كانت تنكر ذلك
فبين أن الحديث لعراك عن عروة ولم يرفعه ولا يجاوز به عائشة
وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك مع صحة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهرتها بخلاف ذلك
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم في
كتاب المراسيل
عن الأثرم قال سمعت أبا عبد الله وذكر حديث خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقال مرسل
فقلت له
صفحه ۳۰
عراك بن مالك قال سمعت عائشة فأنكره وقال عراك بن مالك من@ أين سمع عائشة ما له ولعائشة إنما يرويه عن عروة هذا خطأ
قال لي من روى هذا قلت حماد بن سلمة عن خالد الحذاء
قال رواه غير واحد عن خالد الحذاء وليس فيه سمعت
وقال غير واحد أيضا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت
فإن قيل قد روى مسلم في صحيحه حديثا عن عراك عن عائشة
قيل الجواب أن أحمد وغيره خالفه في ذلك وبينوا أنه لم يسمع منها
وقال في آخره باب التكشف عند الحاجة
بعد قول الحافظ زكي الدين والذي قاله الترمذي هو المشهور
صفحه ۳۱
وقال حنبل ذكرت لأبي عبد الله يعني أحمد حديث الأعمش عن أنس فقال لم يسمع الأعمش من أنس ولكن رآه زعموا أن غياثا حدث الأعمش@ بهذا عن أنس
ذكره الخلال في العلل
وقال الخلال أيضا حدثنا مهنا قال سألت أحمد لم كرهت مراسيل الأعمش قال كان لا يبالي عمن حدث
قلت كان له رجل ضعيف سوى يزيد الرقاشي وإسماعيل بن مسلم قال نعم كان يحدث عن غياث بن إبراهيم عن
صفحه ۳۲
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة أبعد سألته عن غياث بن إبراهيم فقال كان كذوبا@ وقال في آخر باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء بعد قول الحافظ زكي الدين وإنما يكون غريبا كما قال الترمذي والله عز وجل أعلم قلت هذا الحديث رواه همام وهو ثقة عن ابن جريج عن الزهري عن أنس
قال الدارقطني في
كتاب العلل
صفحه ۳۵
رواه سعيد بن عامر وهدبة بن خالد عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وخالفهم عمرو@ ابن عاصم فرواه عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس أنه كان إذا دخل الخلاء موقوفا ولم يتابع عليه
ورواه يحيى بن المتوكل ويحيى بن الضريس عن ابن جريج عن الزهري عن أنس نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام
ورواه عبد الله بن الحرث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فاضطرب الناس الخواتيم فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا ألبسه أبدا وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج
صفحه ۳۶
انتهى @ كلام الدارقطني
وحديث يحيى بن المتوكل الذي أشار إليه رواه البيهقي من حديث يحيى بن المتوكل عن ابن جريج به ثم قال هذا شاهد ضعيف
وإنما ضعفه لأن يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد واهي الحديث وقال ابن معين ليس بشيء وضعفه الجماعة كلهم
وأما حديث يحيى بن الضريس فيحيى هذا ثقة فينظر الإسناد إليه
وهمام وإن
كان ثقة صدوقا احتج به الشيخان في الصحيح فإن يحيى بن سعيد كان لا يحدث عنه ولا يرضى حفظه
قال أحمد ما رأيت يحيى أسوأ رأيا منه في حجاج يعني ابن أرطاة وابن إسحاق وهمام لا يستطيع أحد أن يراجعه فيهم
وقال يزيد ين زريع وسئل عن همام كتابه صالح وحفظه لا يساوي شيئا
صفحه ۳۷
وقال @ عفان كان همام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه وكان يخالف فلا يرجع إلى كتاب وكان يكره ذلك
قال ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال يا عفان كنا نخطىء كثيرا فنستغفر الله عز وجل
ولا ريب أنه ثقة صدوق ولكنه قد خولف في هذا الحديث فلعله مما حدث به من حفظه فغلط فيه كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني
وكذلك ذكر البيهقي أن المشهور عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه
وعلى هذا فالحديث شاذ أو منكر كما قال أبو داود وغريب كما قال الترمذي
فإن قيل فغاية ما ذكر في تعليله تفرد همام به وجواب هذا من وجهين أحدهما أن هماما لم ينفرد به كما تقدم
صفحه ۳۸
الثاني أن هماما ثقة وتفرد الثقة لا يوجب@ نكارة الحديث
فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث النهي عن بيع الولاء وهبته وتفرد مالك بحديث دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر
فهذا غايته أن يكون غريبا كما قال الترمذي وأما أن يكون منكرا أو شاذا فلا
قيل التفرد نوعان تفرد لم يخالف فيه من تفرد به كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين وأشباه ذلك
وتفرد خولف فيه المتفرد كتفرد همام بهذا المتن على هذا الإسناد فإن الناس خالفوه فيه وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق الحديث فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وتفرد همام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه
فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله
وأما متابعة يحيى بن المتوكل فضعيفة وحديث ابن الضريس ينظر في حاله ومن أخرجه
فإن قيل هذا الحديث كان عند الزهري على وجوه كثيرة كلها قد رويت عنه في قصة الخاتم فروى شعيب بن أبي حمزة وعبدالرحمن بن خلاد بن مسافر عن الزهري كرواية زياد بن سعد هذه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ورواه يونس بن يزيد عن الزهري عن أنس كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق فصه حبشي ورواه سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى ويحيى بن نصر بن حاجب عن يونس عن
صفحه ۳۹
الزهري وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة@ في يمينه فيه حبشي جعله في باطن كفه ورواه إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ آخر قريب من هذا ورواه همام عن ابن جريج عن الزهري كما ذكره الترمذي وصححه
وإذا كانت هذه الروايات كلها عند الزهري فالظاهر أنه حدث بها في أوقات فما الموجب لتغليط همام وحده
قيل هذه الروايات كلها تدل على غلط همام فإنها مجمعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتم ولبسه وليس في شيء منها نزعه إذا دخل الخلاء
فهذا هو الذي حكم لأجله هؤلاء الحفاظ بنكارة الحديث وشذوذه
والمصحح له لما لم يمكنه دفع هذه العلة حكم بغرابته لأجلها فلو لم يكن مخالفا لرواية من ذكر فما وجه غرابته ولعل الترمذي موافق للجماعة فإنه صححه من جهة السند لثقة الرواة واستغربه لهذه العلة وهي التي منعت أبا داود من تصحيح متنه فلا يكون بينهما اختلاف بل هو صحيح السند لكنه معلول
صفحه ۴۰
والله أعلم@ قال الشيخ شمس الدين بن القيم في باب فرض الوضوء قوله مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم
اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام
الحكم الأول أن مفتاح الصلاة الطهور والمفتاح ما يفتح به الشيىء المغلق فيكون فاتحا له ومنه مفتاح الجنة لا إله إلا الله وقوله مفتاح الصلاة الطهور يفيد الحصر وأنه لا مفتاح لها سواه من طريقين أحدهما حصر المبتدأ في الخبر إذا كانا معرفتين
فإن الخبر لا بد وأن يكون مساويا للمبتدأ أو أعم منه ولا يجوز أن يكون أخص منه
صفحه ۸۸
فإذا كان المبتدأ معرفا بما يقتضي عمومه كاللام وكل ونحوهما ثم أخبر عنه بخبر اقتضى@ صحة الإخبار أن يكون إخبارا عن جميع أفراد المبتدأ فإنه لا فرد من أفراده إلا والخبر حاصل له
وإذا عرف هذا لزم الحصر وأنه لا فرد من أفراد ما يفتتح به الصلاة إلا وهو الطهور
فهذا أحد الطريقين
والثاني أن المبتدأ مضاف إلى الصلاة والإضافة تعم
فكأنه قيل جميع مفتاح الصلاة هو الطهور
وإذا كان الطهور هو جميع ما يفتح به لم يكن لها مفتاح غيره
ولهذا فهم جمهور الصحابة والأمة أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أنه على الحصر أي مجموع أجلهن الذي لا أجل لهن سواه
وضع الحمل
وجاءت السنة مفسرة لهذا الفهم مقررة له بخلاف قوله والمطلقات يتربصن فإنه فعل لا عموم له بل
هو مطلق وإذا عرف هذا ثبت أن الصلاة لا يمكن الدخول فيها إلا بالطهور
وهذا أدل على الاشتراط من قوله لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ من وجهين أحدهما أن نفي القبول قد يكون لفوات الشرط وعدمه
وقد يكون لمقارنة محرم يمنع من القبول كالإباق وتصديق العراف وشرب الخمر وتطيب المرأة إذا خرجت للصلاة ونحوه
الثاني أن عدم الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها وأنه مصدود عنها كالبيت المقفل على من أراد دخوله بغير مفتاح
وأما عدم القبول فمعناه عدم الاعتداد بها وأنه لم يرتب عليها أثرها المطلوب منها بل هي مردودة عليه
وهذا قد يحصل لعدم ثوابه عليها ورضا الرب عنه بها وإن كان لا يعاقبه عليها عقوبة تاركها جملة بل عقوبة ترك ثوابه وفوات الرضا لها بعد دخوله فيها
بخلاف من لم يفتحها أصلا بمفتاحها فإن عقوبته عليها عقوبة تاركها
وهذا واضح
فإن قيل فهل في الحديث حجة لمن قال إن عادم الطهورين لا يصلي حتى يقدر على أحدهما لأن صلاته غير مفتتحة بمفتاحها فلا تقبل منه قيل قد استدل به من يرى ذلك ولا حجة فيه
صفحه ۸۹
ولا بد من تمهيد قاعدة يتبين بها مقصود الحديث وهي أن ما أوجبه الله تعالى@ ورسوله أو جعله شرطا للعبادة أو ركنا فيها أو وقف صحتها عليه هو مقيد بحال القدرة لأنها الحال التي يؤمر فيها به
وأما في حال العجز فغير مقدور ولا مأمور فلا تتوقف صحة العبادة عليه
وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة وسقوط ذلك بالعجز وكإشتراط ستر العورة واستقبال القبلة عند القدرة ويسقط بالعجز
وقد قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولو تعذر عليها صلت بدونه وصحت صلاتها
وكذلك قوله لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فإنه لو تعذر عليه الوضوء صلى بدونه وكانت صلاته مقبولة
وكذلك قوله لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود فإنه لو كسر صلبه وتعذر عليه إقامته أجزأته صلاته ونظائره كثيرة فيكون الطهور مفتاح الصلاة هو من هذا
لكن هنا نظر آخر وهو أنه إذا لم يمكن اعتبار الطهور عند تعذره فإنه يسقط وجوبه فمن أين لكم أن الصلاة تشرع بدونه في هذه الحال وهذا حرف المسألة وهلا قلتم إن الصلاة بدونه كالصلاة مع الحيض غير مشروعة لما كان الطهور غير مقدور للمرأة فلما صار مقدورا لها شرعت لها الصلاة وترتبت في ذمتها فما الفرق بين العاجز عن الطهور شرعا والعاجز عنه حسا فإن كلا منهما غير متمكن من الطهور
قيل هذا سؤال يحتاج إلى جواب
وجوابه أن يقال زمن الحيض جعله الشارع منافيا لشرعية العبادات من الصلاة والصوم والاعتكاف
فليس وقتا لعبادة الحائض فلا يترتب عليها فيه شيء
وأما العاجز فالوقت في حقه قابل لترتب العبادة المقدورة في ذمته فالوقت في حقه غير مناف لشرعية العبادة بحسب قدرته بخلاف الحائض فالعاجز ملحق بالمريض المعذور الذي يؤمر بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه والحائض ملحقة بمن هو من غير أهل التكليف فافترقا
صفحه ۹۰
ونكتة الفرق أن زمن الحيض ليس بزمن تكليف بالنسبة إلى الصلاة بخلاف@ العاجز فإنه مكلف بحسب الاستطاعة وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي بعث أناسا لطلب قلادة أضاعتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا النبي فذكروا ذلك له فنزلت آية التيمم
فلم ينكر النبي عليهم ولم يأمرهم بالإعادة وحالة عدم التراب كحالة عدم مشروعيته ولا فرق فإنهم صلوا بغير تيمم لعدم مشروعية التيمم حينئذ
فهكذا من صلى بغير تيمم لعدم ما يتيمم به فأي فرق بين عدمه في نفسه وعدم مشروعيته
فمقتضى القياس والسنة أن العادم يصلي على حسب حاله فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ويعيد لأنه فعل ما أمر به فلم يجب عليه الإعادة كمن ترك القيام والاستقبال والسترة والقراءة لعجزه عن ذلك فهذا موجب النص والقياس
فإن قيل القيام له بدل وهو القعود فقام بدله مقامه كالتراب عند عدم الماء والعادم هنا صلى بغير أصل ولا بدل
قيل هذا هو مأخذ المانعين من الصلاة والموجبين للاعادة ولكنه منتقض بالعاجز عن السترة
فإنه يصلي من غير اعتبار بدل وكذلك العاجز عن الاستقبال وكذلك العاجز عن القراءة والذكر
وأيضا فالعجز عن البدل في الشرع كالعجز عن المبدل منه سواء
هذه قاعدة الشريعة
وإذا كان عجزه عن المبدل لا يمنعه من الصلاة فكذلك عجزه عن البدل وستأتي المسألة مستوفاة في باب التيمم إن شاء الله
وفي الحديث دليل على اعتبار النية في الطهارة بوجه بديع
وذلك لأنه جعل الطهور مفتاح الصلاة التي لا تفتتح ويدخل فيها إلا به وما كان مفتاحا للشىء كان قد وضع لأجله وأعد له
صفحه ۹۱
فدل على أن كونه مفتاحا للصلاة هو جهة كونه طهورا فإنه إنما شرع للصلاة وجعل مفتاحا لها ومن المعلوم أن ما شرع للشيء ووضع لأجله لا بد أن يكون الآتي به قاصدا ما جعل مفتاحا له ومدخلا إليه@ هذا هو المعروف حسا كما هو ثابت شرعا ومن المعلوم أن من سقط في ماء وهو لا يريد التطهر لم يأت بما هو مفتاح الصلاة فلا تفتح له الصلاة وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال لا إله إلا الله وهو غير قاصد لقولها فإنها لا تكون مفتاحا للجنة منه لأنه لم يقصدها
وهكذا هذا لما لم يقصد الطهور لم يحصل له مفتاح الصلاة ونظير ذلك الإحرام هو مفتاح عبادة الحج ولا يحصل له إلا بالنية فلو اتفق تجرده لحر أو غيره ولم يخطر بباله الإحرام لم يكن محرما بالاتفاق
فهكذا هذا يجب أن لا يكون متطهرا
وهذا بحمد الله بين
فصل الحكم الثاني قوله وتحريمها التكبير وفي هذا من حصر التحريم في التكبير نظير ما تقدم في حصر مفتاح الصلاة في الطهور من الوجهين وهو دليل بين أنه لا تحريم لها إلا التكبير
وهذا قول الجمهور وعامة أهل العلم قديما وحديثا وقال أبو حنيفة
ينعقد بكل لفظ يدل على التعظيم
فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث ثم اختلفوا فقال أحمد ومالك وأكثر السلف يتعين لفظ الله أكبر وحدها وقال الشافعي يتعين أحد اللفظين الله أكبر والله الأكبر وقال أبو يوسف يتعين التكبير وما تصرف منه نحو الله الكبير ونحوه وحجته أنه يسمى تكبيرا حقيقة فيدخل في قوله تحريمها التكبير وحجة الشافعي أن المعرف في معنى المنكر فاللام لم تخرجه عن موضوعه بل هي زيادة في اللفظ غير مخلة بالمعنى بخلاف الله الكبير وكبرت الله ونحوه فإنه ليس فيه من التعظيم والتفضيل والاختصاص ما في لفظه الله أكبر
صفحه ۹۲
والصحيح قول الأكثرين وأنه يتعين الله أكبر لخمس حجج إحداها قوله تحريمها التكبير واللام هنا للعهد فهي كاللام في قوله مفتاح الصلاة الطهور وليس المراد به كل طهور بل الطهور الذي واظب عليه @ رسول الله وشرعه لأمته وكان فعله له تعليما وبيانا لمراد الله من كلامه
وهكذا التكبير هنا هو التكبير المعهود الذي نقلته الأمة نقلا ضروريا خلفا عن سلف عن نبيها أنه كان يقوله في كل صلاة لا يقول غيره ولا مرة واحدة
فهذا هو المراد بلا شك في قوله تحريمها التكبير وهذا حجة على من جوز الله أكبر والله أكبر فإنه وإن سمي تكبيرا لكنه ليس التكبير المعهود المراد بالحديث
الحجة الثانية أن النبي قال للمسيء في صلاته إذا قمت إلى الصلاة فكبر ولا يكون ممتثلا للأمر إلا بالتكبير
وهذا أمر مطلق يتقيد بفعله الذي لم يخل به هو ولا أحد من خلفائه ولا أصحابه
الحجة الثالثة ما روى أبو داود من حديث رفاعة أن النبي قال لا يقبل الله صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه ثم يستقبل القبلة ويقول الله أكبر
الحجة الرابعة أنه لو كانت الصلاة تنعقد بغير هذا اللفظ لتركه النبي ولو في عمره مرة واحدة لبيان الجواز
فحيث لم ينقل أحد عنه قط أنه عدل عنه حتى فارق الدنيا دل على أن الصلاة لا تنعقد بغيره
الحجة الخامسة أنه لو قام غيره مقامه لجاز أن يقوم غير كلمات الأذان مقامها وأن يقول المؤذن كبرت الله أو الله الكبير أو الله أعظم ونحوه
بل تعين لفظة الله أكبر في الصلاة أعظم من تعينها في الأذان لأن كل مسلم لا بد له منها وأما الأذان فقد يكون في المصر مؤذن واحد أو اثنان والأمر بالتكبير في الصلاة آكد من الأمر بالتكبير في الأذان
وأما حجة أصحاب الشافعي على ترادف الله أكبر والله الأكبر فجوابها
صفحه ۹۳
أنهما ليسا بمترادفين فإن الألف واللام اشتملت على زيادة في اللفظ ونقص في المعنى@ وبيانه أن أفعل التفضيل إذا نكر وأطلق تضمن من عموم الفضل وإطلاقه عليه ما لم يتضمنه المعرف فإذا قيل
الله الأكبر كان معناه
من كل شيء
وأما إذا قيل الله أكبر فإنه يتقيد معناه ويتخصص ولا يستعمل هذا إلا في مفضل عليه معين كما إذا قيل من أفضل أزيد أم عمرو فيقول زيد الأفضل
هذا هو المعروف في اللغة والاستعمال
فإن أداة التعريف لا يمكن أن يؤتى بها إلا مع من وأما بدون من فلا يؤتى بالأداة فإذا حذف المفضل عليه مع الأداة أفاد التعمم وهذا لا يتأتى مع اللام وهذا المعنى مطلوب من القائل الله أكبر بدليل ما روى الترمذي من حديث عدي بن حاتم الطويل أن النبي قال له ما يضرك أيضرك أن يقال الله أكبر فهل تعلم شيئا أكبر من الله وهذا مطابق لقوله تعالى قل أي شيء أكبر شهادة وهذا يقتضي جوابا لا شيء أكبر شهادة من الله فالله أكبر شهادة من كل شيء
كما أن قوله لعدي هل تعلم شيئا أكبر من الله يقتضي جوابا لا شيء أكبر من الله فالله أكبر من كل شيء
وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ المقصود منه استحضار هذا المعنى وتصوره سر عظيم يعرفه أهل الحضور المصلون بقلوبهم وأبدانهم
فإن العبد إذا وقف بين يدي الله عز وجل وقد علم أن لا شيء
أكبر منه وتحقق قلبه ذلك وأشربه سره استحي من الله ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يشغل قلبه بغيره وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطرات وبالله المستعان
فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلب هذا لما اشتغل عنه وصرف كلية قلبه إلى غيره كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه لم يشغل قلبه بغيره ولم يصرفه عنه صارف
صفحه ۹۴
فصل الحكم الثالث قوله تحليلها التسليم والكلام في إفادته الحصر كالكلام في @ الجملتين قبله
والكلام في التسليم على قسمين أحدهما أنه لا ينصرف من الصلاة إلا بالتسليم
وهذا قول جمهور العلماء
وقال أبو حنيفة لا يتعين التسليم بل يخرج منها بالمنافي لها من حدث أو عمل مبطل ونحوه
واستدل له بحديث ابن مسعود الذي رواه أحمد وأبو داود في تعليمه التشهد وبأن النبي لم يعلمه المسيء في صلاته ولو كان فرضا لعلمه إياه وبأنه ليس من الصلاة فإنه ينافيها ويخرج به منها ولهذا لو أتى به في أثنائها لأبطلها وإذا لم يكن منها علم أنه شرع منافيا لها والمنافي لا يتعين
هذا غاية ما يحتج له به
والجمهور أجابوا عن هذه الحجج
أما حديث ابن مسعود فقال الدارقطني والخطيب والبيهقي وأكثر الحفاظ الصحيح أن قوله إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك من كلام ابن مسعود فصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود رضي الله عنه على حذفه
وأما كون النبي لم يعلمه المسيء في صلاته فما أكثر ما يحتج بهذه الحجة على عدم واجبات في الصلاة ولا تدل لأن المسيء لم يسيء في كل جزء من الصلاة فلعله لم يسيء في السلام بل هذا هو الظاهر فإنهم لم يكونوا يعرفون الخروج منها إلا بالسلام
وأيضا فلو قدر أنه أساء فيه لكان غاية ما يدل عليه ترك التعليم استصحاب براءة الذمة من الوجوب فكف يقدم على الأدلة الناقلة لحكم الاستصحاب
وأيضا فأنتم لم توجبوا في الصلاة كل ما أمر به المسيء فكيف تحتجون بترك أمره على عدم الوجوب ودلالة الأمر على الوجوب أقوى من دلالة تركه على نفي الوجوب فإنه قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ولم توجبوا التكبير وقال ثم اركع حتى تطمئن راكعا وقلتم لو ترك الطمأنينة لم تبطل صلاته وإن كان مسيئا
صفحه ۹۵
وأما قولكم إنه ليس من الصلاة فإنه ينافيها ويخرج منها به فجوابه أن@ السلام من تمامها وهو نهايتها ونهاية الشيء منه ليس خارجا عن حقيقته ولهذا أضيف إليها إضافة الجزء بخلاف مفتاحها فإن إضافته إضافة مغاير بخلاف تحليلها فإنه يقتضي أنه لا يتحلل منها إلا به
وأما بطلان الصلاة إذا فعله في أثنائها فلأنه قطع لها قبل إتمامها وإتيان بنهايتها قبل فراغها فلذلك أبطلها فالتسليم آخرها وخاتمها كما في حديث أبي حميد يختم صلاته بالتسليم فنسبة التسليم إلى آخرها كنسبة تكبيرة الإحرام إلى أولها فقول الله أكبر أول أجزائها وقول السلام عليكم آخر أجزائها
ثم لو سلم أنه ليس جزءا منها فإنه تحليل لها لا يخرج منها إلا به وذلك لا ينفي وجوبه كتحللات الحج فكونه تحليلا لا يمنع الإيجاب
فإن قيل ولا يقتضي قيل إذا ثبت انحصار التحليل في السلام تعين الإتيان به وقد تقدم بيان الحصر من وجهين
فصل وقد دل هذا الحديث على أن كل ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم فمفتاحه الطهور فيدخل في هذا الوتر بركعة خلافا لبعضهم
واحتج بقوله صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
وجوابه أن كثيرا من الحفاظ طعن في هذه الزيادة ورأوها غير محفوظة
وأيضا فإن الوتر تحريمه التكبير وتحليله التسليم فيجب أن يكون مفتاحه الطهور
وأيضا فالمغرب وتر لا مثنى والطهارة شرط فيها
وأيضا فالنبي سمي الوتر صلاة بقوله فإذا خفت الصبح فصل ركعة توتر لك ما قد صليت
وأيضا فإجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على أطلاق اسم الصلاة على الوتر
فهذا القول في غاية الفساد
صفحه ۹۶
ويدخل في الحديث أيضا صلاة الجنازة لأن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم@ وهذا قول أصحاب رسول الله لا يعرف عنهم فيه خلاف وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور الأمة خلافا لبعض التابعين
وقد ثبت عن النبي تسميتها صلاة وكذلك عن الصحابة وحملة الشرع كلهم يسمونها صلاة
وقول النبي مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم هو فصل الخطاب في هذه المسائل وغيرها طردا وعكسا فكل ما كان تحريمه التكبير وتحليله التسليم فلا بد من افتتاحه بالطهارة
فإن قيل فما تقولون في الطواف بالبيت فإنه يفتتح بالطهارة ولا تحريم فيه ولا تحليل
قيل شرط النقض أن يكون ثابتا بنص أو إجماع
وقد اختلف السلف والخلف في اشتراط الطهارة للطواف على قولين أحدهما أنها شرط كقول الشافعي ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد
والثاني ليست بشرط نص عليه في رواية ابنه عبد الله وغيره بل نصه في رواية عبد الله تدل على أنها ليست بواجبة فإنه قال أحب إلي أن يتوضأ وهذا مذهب أبي حنيفة
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وهذا قول أكثر السلف قال وهو الصحيح فإنه لم ينقل أحد عن النبي أنه أمر المسلمين بالطهارة لا في عمره ولا في حجته مع كثرة من حج معه واعتمر ويمتنع أن يكون ذلك واجبا ولا يبنيه للأمة وتأخير البيان عن وقته ممتنع
فإن قيل فقد طاف النبي متوضئا وقال خذوا عني مناسككم
قيل الفعل لا يدل على الوجوب
صفحه ۹۷