الغوامض الأسرار، و (بأحدافهم) متعلق بإدراك: أي لا يظهر لهم ظهور المحسوس، و (عناة) جمع عان وهو الأسير: أي هم أسراء في يد التقليد لا خلاص لهم أصلا، وكانت عادة العرب في إطلاق أسراهم جز نواصيهم إهانة وإذلالا. وقوله (ثم إن أملأ العلوم) عطف على اعلم مع ما عطف عليه، وفيه مبالغات من وجوه لتقرير ما يدعيه في ذهن السامع ونفى الشبهة عنه التأكيد بأن وإيراد المسند إليه مبهما مشوقا إلى المسند مع الإطناب فيه وتوصيف المسند إجمالا بما يزيده فخامة ويجل موقعه في الأذهان وإرادفه بتفصيله مبسوطا ومشروحا، وفائدة لفظ ثم التنبيه على أنه ينبغي أن يتئد السامع في تحقيق ما قدمناه من أن التفاوت بنكت العلوم لا بأصولها حتى يصير منه على ثقة وطمأنينة، ثم يتحقق أن أشمل العلوم على النكت واللطائف على التفسير، فيكون الاختلاف بين مراتب المفسرين أكثر (أملأ) أفعل من ملئ بالكسر: أي امتلأ فهو ملآن على ما ذكره في المقدمة: أي أشد العلوم امتلاء، وأخذه من ملؤ بالضم: أي غنى بعيد لاستلزامه تشبيه النكت بالأموال، وكذا أخذه من ملأ بالفتح على أنه للمفعول لأنه قليل، وأما كونه بمعنى الفاعل: أي أملأ العلوم للقرائح بما يغمرها فلا منع منه، لأن ملأت الإناء من الماء وبالماء كلاهما صحيح، لأن المل ء يبتدئ منه وهو آلة له ولعله أظهر، وذلك لأن ملأ بالفتح أشهر استعمالا من ملئ بالكسر، وإن جعل العلوم ظرفا لدقائقها على خلاف ما هو المعتاد من أن المظروف ليس جزءا من الظرف، وأن الغمر الذي هو ترشيح الاستعارة حيث كان منسوبا إلى القرائح، فالظاهر أن الامتلاء منسوب إليها أيضا فإنها تمتلئ أولا ثم تصير مغمورة: أي مستورة، وأن لطائف العلوم تحيى القلوب، فهي بالقياس إليها أشبه بالماء منها بالقياس إلى العلوم (والقريحة) الطبيعة وهى في الأصل أول ماء يستخرج من البئر لحصوله بالكدح والتأثير، وأطلقت على ما يقع في القلب بغتة بعد سابقة طلب، ثم نقلت منه إلى محله أعني القلب (وأنهض) أفعل من نهض بالأمر قام به (يبهر) يغلب، و (القوارح) الكوامل الثوابت جمع قارح، وهو من ذي الحافر: أي ما تكامل سنه وبلغ أشده (يلطف مسلكها) أي يدق طريق الوصول إليها فلا تسلك إلا بفكرة صائبة (والسلك) الخيط ودقته كناية عن لطافة الجواهر المنظومة فلا يدرك إلا ببصيرة ثاقبة، جمع بين غرابة النكت ولطف المسلك إشارة إلى معنى قوله من محاسن النكت، ومن لطائف معان، وجعل قوله (ومستودعات أسرار) بإزاء قوله " ومن غوامض أسرار " (التفسير) علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسير وهو مالا يدرك إلا بالنقل كأسباب النزول والقصص فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل وهو ما يمكن إداركه بالقواعد العربية وهو ما يتعلق بالدراية، فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي وإن أصاب فيهما، وأما استنباط المعاني على قوانين اللغة فمما يعد فضلا وكمالا (لا يتم) أي لا يكمل ولا يصلح (لتعاطيه) لتناوله (كما ذكر) نصب على المصدر: أي أذكر لك عدم صلاحية كل ذي علم لتعاطيه كل ذي علم إشارة إلى أن الجاحظ ذكرا مثل ذكره، ولا نقل هاهنا لكلام الجاحظ أصلا بل لما ادعى إجمالا أنه لا يتم لتعاطيه كل إلى أن الجاحظ ذكر هذا المعنى في كتابه تأييدا لما ادعاه. ثم فصل كلامه المجمل بقوله (فالفقيه الخ) وهذا الفاء أعدل شاهد لما ذكرناه عند من له دربة بأساليب الكلام وذكر بعض من أثق به أنه رأى كتاب نظم القرآن فلم يكن شئ من هذه العبارات فيه، وعلى هذا فقد سقط مؤنة تعيين منتهى كلامه وتوجيه ما قيل فيه (برز عليه) أي
صفحه ۱۵