حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
فوفقا للتعريف السابق تكون الأحداث غير المعاصرة لنا في الحاضر، والتي تمت في فترة زمنية ماضية هي ما نطلق عليه الماضي. وحقيقة الأمر أن هذه - في رأينا - نظرة تغلب عليها السطحية، ولا تدل إلا على أننا نستخدم تصورات غير محددة عن الحاضر الذي يفهمه كل إنسان بدون أن يتساءل عنه أو يضعه موضع السؤال؛ لأن «التمييز بين حدود القمة والقاعدة للحاضر له مشاكله، والأحداث التي لم يعد لها دلالة للأحياء - وذلك بصرف النظر عن دلالتها المعرفية الخالصة - من الممكن أن تنسب إلى الماضي، فهي من جميع النواحي الأخرى خالية من أية قيمة، وبتبني هذا المنهج أو الاتجاه، فإن الحد الفاصل بين الحاضر والماضي يمكن أن يكون متعدد المسالك؛ إذ يمكن أن يحدد بنقاط مختلفة على مستويات زمنية مختلفة.»
6
بهذا المعنى يمكن أن نفسر لماذا ننظر إلى التراجيديا اليونانية أو الموسيقى الكلاسيكية على أنها تخص الزمن الحاضر، بينما ننظر إلى بصريات ابن الهيثم أو نيوتن - على سبيل المثال - على أنها تخص الزمن الماضي؟ لا بد أن تكون الإجابة أن هناك أحداثا تعلو على ارتباطاتها الاجتماعية والمعرفية وأخرى ليست كذلك. هناك أحداث أثارت اهتماما معرفيا في الماضي، وارتبطت بعصرها، ولكنها لا تستطيع أن تتجاوزه إلى عصر تال، اللهم إلا أن تتحول إلى تراكم تاريخي تنحصر قيمته في أنه يصبح المادة التي يعمل عليها الباحثون للعصور التاريخية القديمة. وهناك أيضا أحداث أثارت اهتماما معرفيا بمستقبل عصرها، أعني بهذا أن هناك أعمالا لا تمثل لعصرها قيمة حقيقية، بل تنتمي دلالتها المعرفية إلى زمن المستقبل، وبمعنى أكثر وضوحا لم تكتشف القيمة الحقيقية لها في عصرها؛ لأن دلالتها المعرفية تعلو على هذا العصر، ويتم اكتشاف جوهرها الحقيقي في عصور تالية، فإلى أي عصر تنتمي هذه الأعمال؟ هل هي تنتمي إلى الزمن الماضي - بحكم نشأتها في عصر تاريخي بعينه - أم تنتمي إلى زمن اكتشافها، أي إلى الزمن الحاضر؟ من هذه الناحية تكون هذه الأعمال منتمية إلى زمن المستقبل بالنسبة إلى عصرها (مستقبل عصرها). ومن هذا المنطلق أقول إن الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل شديدة التعقيد، وذلك إذا وضعنا في اعتبارنا مفهوم الزمن التاريخي الذي أوضحناه سلفا.
نواجه نفس الإشكالية بالنسبة للحدود الفاصلة بين الحاضر والمستقبل، فهذا الأخير يتم توقعه من استقراء الحاضر، واكتشاف الإمكانات الكامنة بداخله، والتي من الممكن أن تتحقق في زمن المستقبل؛ أي أن توقع المستقبل عادة ما يقوم على أساس معرفة معاصرة بالظروف الحاضرة، ولكن قد يأتي المستقبل برؤية تختلف جذريا عن التوقعات السابقة عليها، بل وأحيانا تعارضها، وبذلك يصبح المستقبل معارضا لزمن الحاضر الذي يكون قد أصبح بالفعل ماضيا. فإلى أي زمن ينسب هذا الجديد سواء كان منسجما مع توقعاتنا أو كان مخالفا لها؟ وما هي اللحظة الزمنية الفاصلة بين الحاضر (الهارب دوما) والمستقبل الذي بمجرد تبلوره يصبح حاضرا، ثم سرعان ما يذوب في الماضي؟ لا شك أن المشكلة أعقد من هذا بكثير، وربما لا تحسمها النظرة الواقعية ولا النظرة الميتافيزيقية لأبعادها، ولكننا نخلص من هذا كله إلى أننا لا نملك غير الحاضر الفعلي، فإلى أي حد يكون وعينا بهذا البعد الزمني الذي لا نملك سواه كما اتضح مما سبق؟ (3) جدل الماضي والحاضر
لا شك أن هناك علاقة جدلية بين الماضي والحاضر، فإذا كان الوعي التاريخي بالحاضر هو الذي يحدد - كما سبق القول - موقفنا من الماضي والمستقبل، فإن النظرة إلى الماضي تحدد هي أيضا الموقف من الحاضر، وترسم ملامح المستقبل، وإذا كان الماضي هو أنطولوجيا «الوجود الذي لم يعد موجودا»، والمستقبل هو «الوجود الذي لم يأت بعد»، وكلاهما «غير موجود هنا والآن»، أو هما «اللاوجود في الحاضر»، فالفرض المعرفي لوجودهما يكمن فقط في أن العقل يتذكر الماضي، ويتوقع المستقبل. أما الحاضر فهو أنطولوجيا الوجود الحقيقي. أو وجود الموجود الفعلي، والقادر على استدعاء الماضي وتوقع المستقبل. والحاضر باعتباره استمرارا للوجود والوعي معا هو المنعطف التاريخي الذي يحدد نقطة البداية لاتجاه حركة التاريخ إما تقهقرا إلى الخلف أو تقدما إلى الأمام.
إذا كان الأمر كذلك، فما مدى وعي أصحاب التيار الفكري الأول بالحاضر؟ وكيف انعكس على رؤيتهم للماضي؟ وما هي طبيعة نظرتهم إلى الماضي التي حددوا من خلالها موقفهم من الحاضر وتوجههم نحو المستقبل؟ إن نظرة أصحاب هذا التيار تفتقر إلى الوعي التاريخي بالحاضر والماضي على السواء؛ فقد رسموا صورا غير واقعية عن العصر الذهبي لزمن الماضي، وتصوروا إمكانية استحضاره في الحاضر ليصبح قوة فعالة فيه، متجاوزين بذلك المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصلنا عن الماضي، ومتغافلين أيضا عن متطلبات الحاضر التي هي بطبيعة الحال متغيرة ومختلفة عما كانت تتطلبه الظروف التاريخية لزمن الماضي، بينما «النظرة التاريخية إلى الماضي هي التي تضعه في سياقه الفعلي، وتتأمله من منظور نسبي، بوصفه مرحلة انتهى عهدها، وتلاشت في مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدريج حتى أوصلتنا إلى الحاضر.»
7
ربما يوحي هذا النص بأن الماضي يتم تجاوزه تماما، وأن الحاضر يتخطاه إلى مرحلة جديدة كل الجدة ، ولكن المقصود بتجاوز الماضي في الكلام السابق هو تواجد الماضي في الحاضر بشكل أو بآخر من خلال التواصل مع العناصر الحية والخلاقة والفاعلة فيه، وليس بالانقطاع عنه انقطاعا تاما. فهذا التواصل هو الذي يسمح بتجاوز الماضي إلى مرحلة أعلى وصولا إلى الحاضر الذي يحمل الجديد المغاير والذي تتطلبه ظروف الحاضر المتغيرة.
لا شك أن الواقع الحاضر هو لحظة زمنية تتصف بالإلغاز والغموض، ولكونها تتوسط الماضي والمستقبل، فإن ما يلقي عليها الضوء هو عمق الإحساس بالواقع التاريخي الذي يجعلنا نستقرئ الماضي بأكمله من منظور مستقبلي؛ لأن الوعي التاريخي هو الذي يمدنا بالقدرة على نفاذ الرؤية في الماضي. وإذا كان من الصحيح أن الزمن الماضي لا رجعة له من الناحية التاريخية، فمن الصحيح أيضا أن الماضي ليس مجرد تراكم نوعي وكمي لأحداث تمت في زمانها، وارتبطت بظروفها التاريخية، بل هو ماضي ينطوي على لحظات وعي؛ ولذلك أصبح تراثا ثقافيا يحمل قيما يمكن أن تدفع مسيرة التاريخ إلى الأمام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الماضي - إذا نظرنا إليه وفق مفهوم الزمن التاريخي السابق شرحه - ينطوي أيضا على فترات زمنية خالية من المعنى، ومفرغة من القيمة، بحيث يمكن أن تدفع حركة التاريخ لا إلى الأمام، بل إلى الخلف (لا بالمعنى المكاني للكلمة فحسب، بل تفضي أيضا إلى التخلف بالبعد الزماني للكلمة). وبهذا تصدق عبارة: «من التراث ما يعرقل ومنه ما يحرك ويدفع.»
8
صفحه نامشخص