حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
48
إن دعوة رورتي لتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر ليست جديدة كل الجدة، فهو في هذا يتسق مع تراثه البراجماتي الذي يحاول تغيير موضوع الفلسفة والغاية منها، بل ويسعى لوضع أفكار مضادة للفلسفة وبلغة غير فلسفية؛ لأن اللغة الفلسفية - في زعم البراجماتيين - تجسد الافتراضات الأفلاطونية التي لا تقر البراجماتية بنتائجها. وبذلك تصبح الفلسفة موضوعا شائكا ومعقدا، بل وغامضا أيضا، وربما لهذا السبب انتهى الأمر برورتي إلى الدعوة إلى اختفاء ما يسميه بطبقة الفلاسفة أو الصفوة، وإلى التوقف عن التفكير في المشكلات الفلسفية الخالصة، ووقف التعامل بالمصطلحات الفلسفية المألوفة. فقوله بالسلوكية المعرفية ورفضه للصور المرآوية يستلزم بالضرورة التخلي عن فكرة احتراف الفلسفة، بل يصل به الأمر إلى اعتبار أن غاية التفلسف هي عدم ممارسة الفلسفة على الإطلاق ... أراد رورتي للفلسفة إذن أن تكون صوتا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري، وأن تنصرف عن كونها موضوعا لبحث مهني أو حرفي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتسق دعوته لتحول دور الفلسفة مع تيارات أخرى مختلفة خاصة بعد أن ألقت الفلسفة المعاصرة الضوء على الاهتمام الشديد بالحياة اليومية واللغة العادية مما جعل فكرة التحول اللغوي التي ينشدها لا تنطوي في الحقيقة على طرح جديد في الفكر المعاصر. ذلك أن الاتجاه السائد في معظم فلسفات النصف الثاني من القرن العشرين، قد أكد على أهمية فلسفة اللغة، فظهرت نظريات وتفسيرات وتيارات متنوعة في هذا المجال. هذا بالإضافة إلى أن كل ما قدمه رورتي من آراء وأفكار عن أهمية دور اللغة في الفلسفة المعاصرة مستمد بشكل أو بآخر من فيتجنشتين (وبصفة خاصة من فكرته عن ألعاب اللغة)، ومن كواين وديفيدسون وسيلرز وغيرهم من فلاسفة اللغة.
يتفق رورتي مع تراثه البراجماتي - وخاصة مع ديوي - الذي يقر بأنه ليس هناك مشكلات أبدية للفلسفة، وأن الفلاسفة ليست لديهم معرفة خاصة ولا هم صفوة الحكماء؛ ولذلك دعا إلى تحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر. وإذا صح أن رورتي محق في دعوته هذه، أي في هدمه للتراث الفلسفي كفكر متعال على الواقع، فلا شك أن هذا حدث في فترات معينة من تاريخ الفلسفة مما جعلها تنفصل عن الواقع، ولا تؤثر فيه تأثيرا كبيرا، الأمر الذي دعا رورتي إلى المطالبة بتطوير دورها في التفاعل مع الحياة والنظم المعرفية الأخرى. وقد حالفه الصواب في هذه الدعوة الأخيرة، فلم يعد من الممكن الحديث عن المشاكل التقليدية في الفلسفة دون النظر في نتائج العلوم الأخرى في عصر يموج بمتغيرات هائلة على جميع المستويات. أقول إذا كان هذا صحيحا، فإنه من الصحيح أيضا أن رورتي قد جانبه الصواب عندما تصور أنه يستطيع أن يخلع الفلسفة عن عرشها، كتأمل ونظرة كلية شمولية تعد أهم سمات الفلسفة، كما أننا نشك في أنه استطاع أن يجردها من مهمتها الأزلية التي هي السؤال عن الأساس والجوهر، وأن ينزع عنها تفردها بالبحث عن الجذور وعن المعنى والحقيقة.
وإذا كان رورتي بدعوته إلى تحول دور الفلسفة يعارض المذاهب والبناءات الشامخة، فإن هذه المذاهب ذاتها إنما تعبر عن تحولات فلسفية للمشكلات الأبدية للفلسفة مع الاحتفاظ بماهية الفلسفة. وإذا كان يطالب بتحول دور الفلسفة في الفكر المعاصر، بحيث تتعاون مع مختلف العلوم والنظم المعرفية الأخرى، مما قد يفهم منه أن الفلسفة لا وجود لها بغير هذه العلوم وتلك النظم، فإن العلوم الأخرى بدورها لا غنى لها عن الفلسفة، ولا عن أسئلة الفيلسوف التي من الممكن أن تبدأ بها مرحلة جديدة من مراحل التطور العلمي لا ليحدد بها الحاضر فقط، بل المستقبل أيضا، وإذا كانت العلوم الأخرى ممعنة في التخصص ويستغرقها البحث في الجزئيات، فلا غنى لهذه العلوم عن النظرة الكلية الشاملة للفلسفة؛ فالفلسفة هي التي تحدد فائدة العلوم لمسيرة الجنس البشري، خاصة بعد التقدم العلمي الهائل وما أحدثه من تدمير للبيئة الطبيعية والحياة الإنسانية على السواء، وما أحدثته التكنولوجيا من تطبيقات غير إنسانية، وما أحدثته الحروب من دمار، وكلها مشكلات تصدى لها الفلاسفة (تلك الفئة التي يريد لها رورتي أن تختفي) بما استحدثوه من علوم مثل الأخلاق الطبية وفلسفة البيئة وغيرها لمواجهة الأخطار الناجمة عن استخدامات العلم وتطبيقاته، بحيث يصدق قول أفلاطون عن الفلسفة بأنها حارسة المدينة؛ إذ تواجه كل الأخطار اللاعقلانية والأساطير المدمرة، تماما كما واجه الفلاسفة النظم الفاشية والنازية؛ لأن مهمة الفلسفة ستبقى في النهاية هي المحافظة على العقل البشري وكرامة الإنسان أيضا.
لقد أراد رورتي من هجومه على الإبستمولوجيا استبدال الممارسة الاجتماعية بنظرية المعرفة؛ فقوله: «أن الحق والصدق مسألتان تتعلقان بالممارسة الاجتماعية»، هو تعبير عما يسميه السلوكية المعرفية، ولكن ألا تحتاج الممارسة الاجتماعية إلى تنظير يعرف ماهية الخير والشر؟ وهل هناك ممارسة اجتماعية لا يهديها النظر ويحول بينها وبين التحول إلى ما يمكن أن يكون ممارسات عشوائية. ووفق التفسير الذي يتبعه رورتي، فإن هذه الممارسات الاجتماعية تخضع أيضا للتغير التاريخي؛ ففي كل فترة تاريخية تظهر مجموعة من الممارسات الاجتماعية تتنافس وتتصارع، فكيف يتم التمييز بين أفضل هذه الممارسات وأسوأها؟ وكيف نحكم على ما يحتاج منها - أي الممارسات - إلى الإبقاء عليه وما يتطلب التخلص منه أو التخلي عنه؟ إن الفيلسوف هو الشخص الذي تقع هذه المهمة على عاتقه ، أي أن جوهر عمله هو متابعة نمو واستمرار وزوال أو بقاء هذه الممارسات وتناولها بالنقد، هذا النقد نفسه هو لب وجوهر التفكير الفلسفي الذي أعلن رورتي نهايته.
لقد أراد رورتي للفلسفة أن تتحول إلى ما أطلقنا عليه اسم اللغوية السلوكية، أي أن تكون صوتا في محادثة أو مخاطبة الجنس البشري. بهذا المعنى تصبح اللغة هي وسيلتنا للدخول إلى الواقع، وتكون أوصاف العالم هي السلوك اللغوي الذي نقوم به نحن، مما يترتب عليه أن الاستخدام الصحيح للغة يزيد من خبرتنا بالعالم. ولا جدال في أن ما نفهمه من الواقع هو ذلك الكم الهائل من الوقائع المألوفة المعترف بها في عبارات لا خلاف حولها، ولكن هل يعني هذا أن تتحول الفلسفة إلى مجرد سلوك لغوي أو مسألة لغوية فقط؟ إن هذا بطبيعة الحال غير كاف؛ فإذا كانت الفلسفة بصفة عامة تمثل رؤية الإنسان الكلية الشاملة للعالم أو الكون، فإن اللغة هي أحد جوانب هذه الرؤية فقط، وليست هي الرؤية كلها.
وأخيرا فلعل فكرة إبداع-الذات أن تكون من أكثر أفكار رورتي أهمية وجاذبية. ومع أن هذه الفكرة مسبوقة بصورة أو أخرى عند فلاسفة الوجود من نيتشه وكيركيجورد إلى هيدجر وسارتر، فإن ذلك لا ينفي أن لرورتي الفضل في إلقاء المزيد من الضوء على هذه الفكرة الهامة وتعميمها وإعطائها أبعادا اجتماعية وإنسانة أكثر بكثير من فلاسفة الوجود. والواقع أن تأكيد رورتي على أننا لسنا ذوات سابقة التجهيز نسعى لاكتشاف ذاتها من خلال الوعي الذاتي، ورفضه لفكرة أن العالم له وجود مسبق نكتشفه من خلال الفكر؛ يعني أننا نحن الذين نبدع أنفسنا، ونحن الذين نبدع العالم أيضا. وبقدر ما تحثنا هذه الفكرة على العمل الخلاق بقدر ما تنم عن تمجيد لقدرات الكائن البشري على الإبداع والابتكار.
وأخيرا لا يضيف نقد رورتي للفلسفة التراثية أو التأسيسية إلا القليل لنزعات نقدية أخرى سابقة؛ فمحاولته للنفاذ إلى القشرة الصلبة للفلسفة التقليدية سبقه إليها فلاسفة آخرون (مثل نيتشه وهيدجر وغيرهما)، ولا يغيب عن بالنا أن تلك النزعات النقدية نفسها هي نوع من الممارسة الفلسفية - سواء أراد رورتي ذلك أو لم يرد - وأن الهجوم على التراث الفلسفي لا يهدمه بقدر ما يثريه ويحدثه، ويصحح مساره ويجدد قضاياه ومشكلاته، وإلا أصبح حاضرنا معلقا في الهواء. ومع ذلك فإن أهمية نزعته النقدية التي تعلن نهاية الفلسفة تأتي من أنها تضع حدودا للدور الأبدي القديم للفلسفة الذي لم يعد يواكب عصر الاتصالات والمعلومات الآن. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعل دعوته - التي تؤكدها نزعته النقدية - لتحول دور الفلسفة في اتجاه مغاير تماما لدورها التقليدي ومشاركتها في الحوار الثقافي والاجتماعي والعلمي العام، وانخراطها في السياق الاجتماعي والممارسات العملية واللغوية، لعلها أن تكون أكثر أفكاره تميزا، لا سيما إذا تذكرنا أن كثيرين غيره قد سبقوه للدعوة إلى نقد التراث الفلسفي التقليدي، بل والمطالبة بتجاوزه.
الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل
النهضة الأوروبية نموذجا
صفحه نامشخص