حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
لا شك أن كلمة إبداع تحمل مدلولا إيجابيا لدى السامع، فعندما نتحدث عن إبداع-الذات ينصرف الذهن إلى التفكير في شيء له قيمة، أو هدف ينطوي على شيء خير، ولكن ليس هناك ضمان أن يتحرك إبداع-الذات دائما في هذا الاتجاه، وهذا ما بينه رورتي في تحليله للرواية اليوتوبية لجورج أورويل
45 ⋆ (1984م). وقد ألقى هذا التحليل
46
الضوء على عملية إبداع أوبرين (أحد شخصيات الرواية) لذاته التي أثمرت كائنا يستمتع ويبتهج بقدرته على تدمير عقل (ونستون) بطل الرواية، وينتهي من هذا التحليل إلى أن التاريخ البشري يكتظ بمثل هذه النماذج. هنا يأتي ما نسميه بالاعتبارات الأخلاقية في عملية إبداع-الذات. فهل ينطوي هذا الإبداع على تلبية احتياجات ومصالح الذات المبدعة نفسها، أم لا بد أن ينطوي اختيار فعل الإبداع على تلبية وتحقيق مصالح الآخرين أيضا؟ بمعنى آخر هل ما يختاره الفرد من أفعال يبدع من خلالها ذاته ويحقق الخير لنفسه تحقق بالضرورة الخير للآخرين؟ مرة أخرى ليس هناك ضمان لأن تسير العملية الإبداعية في هذا الاتجاه، فما يختاره الشخص لنفسه ليس من الضروري أن يكون خيرا للآخرين، والعكس أيضا صحيح؛ أي أن ما يختاره الفرد ليحقق الخير لنفسه ليس بالضرورة ضارا بالآخرين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما يكون شيء ما خيرا للفرد بدون أن يكون بالضرورة خيرا ولا شرا للآخرين، فهذه مسألة خلافية ولا يمكن حسمها بسهولة في هذا المجال، ولكنها تؤكد أن الجانب الأخلاقي هو أحد الجوانب الهامة في عملية إبداع-الذات؛ لأنها تحدد العلاقة النهائية بين الذات المبدعة والآخرين. كما أن هذه العلاقة أيضا تساهم من جانب آخر في عملية الإبداع ذاتها؛ فعلى الرغم من أن الكائنات البشرية محكومة بوحدة طبيعية مشتركة (كالوحدة البيولوجية) إلا أنها تتسم بالتنوع الثقافي الهائل الذي يسمح بوجود سياقات اجتماعية مختلفة، تساهم بشكل كبير في إثراء عملية إبداع-الذات.
ولا شك أيضا أن عملية إبداع-الذات تنطوي في النهاية على محاولات الذوات البشرية لصنع شيء ذي قيمة لأنفسهم، ولإضفاء المعنى على وجودهم، ولكن ما هي الظروف التي يجب أن تتوافر لكي تؤتي هذه المحاولات ثمارها، ولكي تتم عملية صنع-الذات بصورة أفضل؟ إن عملية إبداع-الذات تستمد مادتها الأساسية من الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الإنسان الذي ألقيت على عاتقه مهمة إبداع-ذاته. فإذا كانت هذه الظروف صارمة وتفرض قيودها الظالمة على مواطنيها، فإن مثل هذه الظروف والنظم تجلب المعاناة على أفرادها، بينما نجد في المقابل أن المجتمعات التي يسودها قيم كالحرية والتسامح والديمقراطية تفسح المجال للأفراد لإبداع-الذات بصورة أفضل. وتلعب الحرية دورا خاصا في صنع-الذات، والحرية كما يقول رورتي هي «إدراك أو التعرف على العرضية
Freedom as recognition of contingency »
47
فلكي نستجيب لعرضيات الحياة علينا أن نحسب حساب القيود المفروضة علينا من قبل الظروف الاجتماعية والسياسية؛ فالتعصب السياسي والقيود الاجتماعية الصارمة تشكل عقبة في طريق نمو وتطور الأفراد، وهي أحد العوائق التي تحول بين الفرد وبين إبداع-ذاته، لا سيما أن هذه العملية الأخيرة (أي إبداع-الذات) ليست بالمهمة اليسيرة، بل هي عمل شاق يتطلب أن يتمتع الفرد بقوة الشخصية لتكون لديه القدرة على مواجهة الظروف المعاكسة والمعوقة لتحقيق ذاته. ومما لا شك فيه أن توافر مناخ خاص مثل الحرية والتسامح والديمقراطية في مجتمع ما هو من الأمور الأساسية التي تفسح مجالا لعملية إبداع-الذات. •••
والآن وبعد أن عرضنا - بالقدر الذي تسمح به حدود هذا البحث - نقد رورتي للفلسفة التقليدية، وتصوره للمشهد الثقافي لمرحلة ما بعد الفلسفة، ما هي الخلاصة التي يمكننا أن نخرج بها من الجانبين؛ أعني جانب هدمه للتراث الفلسفي من ناحية وتصوره للحياة الفلسفية بعد أن أعلن نهاية الفلسفة من ناحية أخرى؟ بمعنى آخر ما هو المشروع الفلسفي الذي يريد رورتي تقديمه من خلال هذا الهدم وذلك التصور؟
لن نبالغ إذا وصفنا مشروع رورتي الفلسفي - إذا جاز لنا أن نطلق كلمة مشروع على التصور الذي وضعه - بأنه يغلب عليه جانب الهدم والنقد أكثر مما يقدم بديلا لكل ما تناوله بالنقد، وأنه لم يؤسس مشروعا فلسفيا بديلا عن الفلسفة التراثية. لقد أسهب طويلا في نقد التراث الفلسفي من أفلاطون حتى كانط والفلسفة التحليلية، بحيث لم يفسح مجالا كبيرا لجانب البناء على الأقل حتى الآن (لا يغيب عنا أننا نتحدث عن فيلسوف معاصر، تنظر إليه الأوساط الثقافية الأمريكية الآن على أنه الفيلسوف الأول فيها)، فهو ما زال يواصل العطاء، وما زال قادرا على استكمال جوانب النقص والقصور في تفكيره - ولا أقول فلسفته تمشيا مع رأيه بأنه لم يعد هناك ما يمكن أن نسميه فلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. إن قولنا بإخفاق رورتي في وضع تصور متكامل لمشروع فلسفي بديل قول ليس فيه تجني عليه، فقد اعترف هو نفسه بذلك في نهاية كتابه «الفلسفة مرآة الطبيعة» عندنا قال: «لقد حاولت أن أبين أن محاولة الفلاسفة للوصول إلى الأصل أو المبدأ الأول للخطاب تمد جذورها في اهتمامهم بأن ينظروا إلى الممارسات الاجتماعية للتبرير على اعتبار أنها أكثر كثيرا من أن تكون مجرد ممارسات. وقد ركزت بشكل أساسي على التعبيرات التي تمت في كتابات الفلسفة التحليلية، والنتيجة أنني لم أقدم إلا مقدمة، مجرد مقدمة أو تمهيد والمعالجة التاريخية بالمعنى الدقيق تقتضي اطلاعا ومهارات، وربما لا أملكها، ولكن ربما كانت هذه المقدمة كافية لكي تجعلنا نرى أن الموضوعات المعاصرة للفلسفة هي أحداث تدخل في مرحلة معينة من الحوار، وهو حوار لم يكن يعرف شيئا عن هذه الموضوعات أو القضايا، وربما لا يعود في المستقبل إلى معرفة شيء عنها.»
صفحه نامشخص