حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
17
المشكلة إذن هي كيف يتحقق التوازن من جديد بين عناصر العقل المنفصلة؟ رأى هابرماس أن الحل لن يكون إلا من خلال التواصل في الحياة اليومية، وأن للفلسفة دورا في «تحريك التفاعل بين الأبعاد المعرفية الأداتية، والأخلاقية-العملية، والجمالية-التعبيرية التي كادت أن تتوقف اليوم ... والقضية هي كيف يتم التغلب على عزلة الثقافة العلمية والأخلاقية والفنية. وكيف يمكن ربطها بالعالم المعيش، وكيف يتم ذلك كله بغير انتقاص من عقلانيتها الخاصة، أي العلوم والأخلاق والفن.»
18
ويؤكد هابرماس أن هذا لن يتحقق إلا من خلال الفلسفة باعتبارها «حارسة للعقلانية»، وأنها لا تأخذ بالممارسات العادية كما هي في الحياة اليومية، بل تحفز للوصول إلى مبرراتها العقلية وأسبابها الحقيقية، فهناك أسباب وراء أفعال التواصل سواء بين الناس أو بين العلوم المختلفة.
ويتضمن مفهوم العقلانية التواصلية كل ما يتعلق بالنشاط العقلي، ولما كان هذا النشاط العقلي يدور حول المعرفة وتطبيقاتها، فقد قسمه هابرماس إلى نوعين: (1) نشاط عقلي معرفي-أداتي، وهو النشاط الموجه إلى غاية، ويحقق النفع، وتسخر فيه المعرفة من أجل النجاح، ويستخدم الإنسان هذا النوع من النشاط لمعرفة البيئة المحيطة به. ويحدد هابرماس العلاقة بين العقلانية والمعرفة بأنها - أي العقلانية - «لا تهتم كثيرا بامتلاك المعرفة بقدر ما تهتم بالطريقة التي تستخدم بها الذوات القادرة على الكلام والفعل هذه المعرفة وكيف تعمل على تطبيقها.»
19 (2) نشاط عقلي وتواصلي وتمارسه ذوات قادرة على الكلام والفعل. فإذا كانت غاية النشاط الأداتي هو تحقيق المنفعة والنجاح عن طريق التقنية للسيطرة على البيئة الطبيعية والإنسانية على السواء، فإن غاية النشاط التواصلي - باعتباره معنيا بما يجري في الحياة الاجتماعية - هو التوجه نحو التفاهم بين الذوات. بمعنى آخر ينظر هابرماس إلى النشاط العقلي من منظورين؛ أحدهما هو المنظور الأداتي أو الاستخدام الأداتي للمعرفة، والآخر هو المنظور التواصلي، وهو نوع من المعرفة التعبيرية اللغوية.
من هذين النوعين من النشاط العقلي يصوغ هابرماس مفهوما تركيبيا لعقلانية تواصلية جديدة تجمع بين المجالات الثلاثة للعقل عند كانط، أي العقل النظري والعملي وملكة الحكم، كما يقول هابرماس نفسه في إحدى مقابلاته: «ينبغي أن يكشف العقل عن وحدة لحظات العقل المتفرقة في نقد كانط الثلاثي: وحدة العقل النظري مع البصيرة الأخلاقية والحكم الجمالي.»
20
وقد انطلق هابرماس من هذا المفهوم الجديد للعقلانية إلى تحليل البنية الاجتماعية للعقل، وهو التحليل الذي أفضى به إلى وضع نظريته في الفعل التواصلي. وقد بدأت بوادر هذه النظرية في كتابه «المعرفة والمصلحة» قبل أن يتوجها في كتاب ضخم من جزأين. ففي هذا المؤلف (أي المعرفة والمصلحة) صنف هابرماس المعرفة العلمية في ثلاثة أنواع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمصالح البشرية، أي أنها ليست معرفة محايدة ولا منزهة عن الغرض، كما أنها تربط الإنسان ببيئته الطبيعية من ناحية، وبالطبيعة الاجتماعية من ناحية أخرى، وأول هذه الأنواع هي المعرفة التجريبية-التحليلية المتمثلة في العلوم الوضعية، والمصلحة المرتبطة بهذا النوع هي المصلحة التقنية. وتنمو هذه المعرفة من خلال العمل، وهي التي سادت في المجتمعات الحديثة، وأطلق عليها اسم العقل الأداتي.
وعلى الرغم من عدم رفض هابرماس لهذا النوع الأول من المعرفة، بل واعترافه بأهميته الشديدة، إلا أنه يؤكد أن العمل وحده ليس كافيا لتمكين الإنسان من تحويل بيئته، بل إن القدرة على استخدام اللغة والرموز والعلامات من أجل تحقيق التواصل بين البشر لا تقل أهمية عن العمل. فإذا كانت القدرة على هذا الأخير قد أفضت إلى ظهور «المصلحة التقنية»، فإن القدرة على التواصل تفضي إلى ظهور «المصلحة العملية» المتمثلة في العلوم التاريخية-التأويلية، وهي معرفة تتجه إلى تحليل النصوص وتأويلها وتحددها مصلحة عملية تهدف إلى حفظ وتوسيع مجال الفهم الممكن بين الكائنات البشرية وتحسين عملية الاتصال.
صفحه نامشخص