حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
لقد جاءت العقلانية الاقتصادية لتفرغ الكل الموضوعي للحضارة من وحدته الداخلية مما أفقد الواقع كليته؛ ففي ظل التقدم الهائل للعلوم الجزئية، وانحصار كل علم في مجال تخصصه الدقيق، فقدت هذه العلوم السياق الكلي لمجالاتها. أضف إلى هذا أن العقلانية قامت بتقسيم صيرورة العمل الموحد إلى وظائف جزئية منعزلة بشكل مصطنع، «وتطور كل علم بشكل مستقل ومنعزل عن بقية العلوم الأخرى في الهدف والمنهج، وتحرك كل علم في نظام عقلي جزئي يعمل بدون معوقات، ولكنه يفتقد «المقولة الحقيقية للواقع» أي الكلية»،
24
التي تقتضي أن يعلو المجتمع ككل على هذا الواقع المتكثر أو المبعثر أو المتشذر. إن الكلية هي المبدأ البديهي للمجتمع، ويجب أن تكون العقلانية هي القاعدة الأساسية لنقد الواقع الموجود وهدف التاريخ، ولكن «العقلانية العلمية تجاهلت السمات النوعية الفردية، ولم تنتبه لها إلا كلما أزعجت الحسابات المسبقة لمسار تقدم العمل.»
25
لقد قام مشروع لوكاتش النقدي على رفض النظرة الأحادية للجدل؛ أي رفض جدل العقل عند هيجل، ورفض جدل المادة عند ماركس، والمزج بينهما في ثنائية تتفاعل مع حركة المجتمع. وربما يكون الجديد في فلسفة لوكاتش النقدية هو «التعامل مع معضلة الفكر والممارسة التي ستمتد داخل النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت ... وتتسم هذه المحاولة الفلسفية النقدية لجورج لوكاتش باسترجاع الطاقة الكامنة في نقد الاقتصاد السياسي، ليس بصفته نقدا يتوقف عند حدود الاقتصاد السياسي فقط، بل بصفته نقدا يمتد داخل العلاقات الاجتماعية»،
26
لذلك كان له تأثير كبير على أصحاب النظرية النقدية فيما بعد من خلال نظرته الفلسفية للثنائية الجدلية وارتباطها بالمجال الاجتماعي والسياسي، وكذلك من خلال انفتاحه على الحياة الثقافية والأدبية ومعطيات الواقع. فقد رأى «أن التشيؤ هو العملية التي بها تصبح منتجات العمل البشري أشياء مستقلة، أو ظواهر معطاة تتحكم في الناس عن طريق قوانين تبدو وكأنها لا ترد، فيتحولون من الناحيتين الذاتية والموضوعية إلى مشاهدين سلبيين بدلا من أن يكونوا ذوات فاعلة مبدعة، ويخضعون نشاطهم الإنساني الخلاق لقوى لا شخصية غريبة عنهم ومدمرة لطبيعتهم وماهيتهم الأصلية. ويتضح تجريد الإنسان من إنسانيته في التنظيم الداخلي للمصنع الذي يمثل صورة عالم مصغر من عالم المجتمع الرأسمالي الأكبر الذي نفذ بتخصصه في تقسيم العمل وبعقليته الصناعية والاستهلاكية، حتى في صميم الحياة الحميمة للإنسان.»
27
ويشغل أرنست بلوخ (1885-1977م) مكانة خاصة بين نقاد العقل المعاصرين، كما يعد «حلقة هامة في تطور الفكر النقدي، حيث كشف عن جذوره الأولى في التراث الفلسفي والبشري على السواء. لقد قدم يوتوبيا نقدية معارضة للنزعة الوضعية التي تتعلق بالوقائع القائمة والحقائق غير المتعالية، وقدم نقدا للواقع السائد بعقلانية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم العقلانية اليوتوبية. فالواقع الراهن في تصوره يموج بالإمكانات وبقلق الصيرورة ولم يكتمل بعد، مما يجعل اليوتوبيا عنده حقيقة مسلما بها تسير جنبا إلى جنب الواقع، بل وتصاحبه، وهي - أي اليوتوبيا - تتحدث باسم الليس-بعد أو المستقبل، وتحاول تشكيل نماذج لوجود حقيقي ممكن لم يتحقق بعد.»
28
صفحه نامشخص