حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
أما عن تلقي الفكر العربي لفلسفات ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة كما بدت في توظيف المنهج التأويلي (أو الهرمنيوطيقي) والمنهج التفكيكي، فقد كشفت عن عجز العقل العربي - في ظروفه الراهنة - عن استيعاب هذه التيارات كما تمثلت في المنهج التأويلي، ومحاولة تطبيقه على بعض النصوص التراثية. وربما يعود السبب في هذا إلى أن الروح النقدية لم تتأصل بعد في الفكر العربي، هذا بالإضافة إلى أن السمة الأساسية التي تميز العقلية العربية - وهي أنها عقلية نصية - مرتبطة أشد الارتباط بالنص الديني ، ولا تستطيع الفكاك منه، ويكفي الإشارة هنا إلى محاولات نصر حامد أبو زيد، وكيف تلقت السلفية العربية المتزمتة هذه المحاولات، وكيف تعاملت معها، عندما سعى إلى «إعادة قراءة الفكر الديني برؤية جديدة مختلفة عن أغلب القراءات السابقة بما يعيد بناءه بناء جديدا ... قراءة تقوم على التحليل العلمي النقدي التاريخي للنصوص.»
87
كان هذا الجهد الجاد - من بين جهود أخرى كثيرة - محاولة للخروج من أزمة العقل العربي التي تواجه معركة التنوير العربي، لا سيما عندما تستند هذه المحاولة في تحليلها للنصوص لاستخراج دلالتها إلى «عدة أسس منهجية ومفهومية لعل من أبرزها تسلحه بالمناهج العلمية الحديثة في إنتاج دلالة هذه النصوص مثل الألسنية والهرمنيوطيقا وعلم الاجتماع. والحرص على إنتاج الدلالة من داخل النصوص نفسها، دون أن يفرض عليها أي رؤية أيديولوجية من خارجها»،
88
ولكن تم إجهاض هذه المحاولة في مهدها من قبل التيارات السلفية الرجعية الرافضة للنقد والحوار والتغيير، والتي غلبت - للأسف الشديد - على الساحة الثقافية العربية.
وربما أيضا بسبب ارتباط العقلية العربية بالنصوص التراثية، تجد محاولات تطبيق المنهج التفكيكي من قبل بعض المفكرين والمثقفين العرب إعراضا، بل واعتراضا شديدا خاصة إذا ما تعرضت لتفكيك النصوص الوثيقة الصلة بالتراث الديني الإسلامي، كما في محاولة محمد أركون قراءة الفكر الإسلامي قراءة علمية، وتقديم مشروع لنقد العقل الإسلامي، «وتبني نمط التحليل البنيوي كمرحلة لازمة اعتمد مقاييس التاريخ الحفري في رسم حركية المفاهيم ونظام المعارف، وكانت منهجيته القائمة على الأنثربولوجيا والتحليل اللساني، السيميائي تتلخص في إخضاع القرآن الكريم لمحك النقد التاريخي المقارن، والتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وانهدامه.»
89 •••
يمكننا أن نسأل الآن: ما مدى إسهام تلقي واستقبال هذه التيارات في إثراء الفكر الفلسفي العربي؟ إن ما يثبته الواقع الفعلي حتى الآن أن كل هذه الجهود المشكورة لم تؤت ثمارها المرجوة، ولم تساهم في ازدياد وعينا بالحاضر كما يتجلى هذا بوضوح في محاولات قراءة بعض نصوص التراث قراءة جديدة من منظور عصري ومغايرة للقراءات السائدة والمألوفة، ومسلحة بمناهج تحليلية ونقدية لاستلهام الجوانب المضيئة من التراث وتجديدها أو تطويرها وفق متطلبات العصر. وبقدر ما كانت هذه الجهود محاولة للخروج بالعقل العربي من أزمته، بقدر ما كانت صدمة له في نفس الوقت. وبدلا من أن تستخدم العقلية العربية هذه القراءات الجديدة كأحد الأسلحة الهامة في معركة التنوير العربي، استخدمتها العقلية السلفية المتزمتة في إحداث نوع من النكوص الفكري والارتداد إلى قرون طويلة مضت. وبدلا من البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الإخفاق، نجد الأصوات تتعالى بعدم مشروعية نقل مناهج وفلسفات غربية ومحاولة زرعها في واقع ثقافي مغاير بحجج كثيرة. فهناك من وجد أن هذه الاجتهادات مجرد محاولات ل «زرع بذور أفكار جديدة في تربة جديدة دون البحث في الشروط الملائمة لنمو هذا الزرع الجديد، فقد تجاهلوا ظروف المجتمع العربي التاريخية والثقافية، حيث يهيمن التفكير الديني والغيبي، فكانوا بذلك أوفياء لأفكارهم ومذاهبهم الجديدة أكثر مما هم أوفياء لمجتمعهم وثقافته وحاجاته ومتطلباته.»
90
والغريب أن يظهر على الساحة الثقافية العربية أيضا ليس فقط من يطعن في مشروعية التلقي من تيارات غربية، بل أيضا من يشكك في فهم العقلية العربية لهذه التيارات، وذلك مثلا عندما يطرح هذا السؤال: هل استطاع الواقع الثقافي العربي أن يعي التجربة الغربية بكل غناها وأحداثها المنظورة وغير المنظورة، وهل يملك الأدوات المعرفية التي تؤهله لاكتشاف هذه التجربة،
صفحه نامشخص