حصاد فلسفی
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
ژانرها
38
اتخذ نيتشه الخطوة الأولى الجريئة والخطيرة من أجل الخطوة الثانية. والأولى هي تدمير كل الأسس الطبيعية والمتعالية للقيم التراثية، والثانية هي تحرير الإنسانية من كل القيود المفروضة على الإبداع. وربما كان التدمير هو الجانب الحقيقي الأصيل في فلسفة نيتشه، والتدمير الذي يعنيه هو التحريض على الإبداع، التحريض على ظهور الإنسان الجديد أو «السوبر مان». قام نيتشه بالتدمير على أمل أن ينهض من رماد الحاضر طفل مبدع لقائمة جديدة من القيم، ويمكن أن نقول إن التدمير هو القاعدة الأساسية التي ابتدعها نيتشه لهدم المرحلة المتدهورة لزمنه الحاضر.
عندما أعلن نيتشه ثورته على التراث الفلسفي كان واعيا باللحظة التاريخية المختلفة التي يعيشها، وكان على معرفة كاملة بما أثمرته الحداثة المتأخرة؛ بحيث يمكن أن نقول إن تدمير نيتشه للتراث كان إيحاء بمرحلة جديدة من الوجود التاريخي، وإن تحليله لزمنه الحاضر قد استند إلى الرؤية النقدية التي استنكرت قراءة كانط الأخلاقية للتاريخ، وأعلنت عداءها لتأثير النزعة الهيجيلية في دراسة وكتابة التاريخ. الأولى صورت التاريخ على أنه حلقات للصراع بين الطبيعة والأخلاق، وأنه - أي التاريخ - وسيلة الإنسان الوحيدة للوصول إلى غايته ككائن أخلاقي يعيش في مملكة الغايات، أي أن التاريخ بالنسبة لكانط هو الساحة التي يتم فيها تسوية الخصومة أو التضاد بين الطبيعة والأخلاق. وقد عارض نيتشه «وجهة نظر كانط الأخلاقية وانتقد بشدة - خاصة في كتاباته التي تركها وراءه، ولم تنشر إلا بعد موته - ما سماه «ممارسات العقل الثوري» و«ثورة العقل العملي» التي تكشف عن كراهية للطبيعة والصيرورة. فالتاريخ عند كانط لا يمثل سوى مرحلة تطور أخلاقي للإنسان باعتباره غاية في ذاته
End-in-itself ، ولا تتعلق فلسفة التاريخ بتاريخ الأخلاق، بل بتحقيق الإنسان لجوهره الأخلاقي باعتباره كائنا عقلانيا»،
39
إذ يصبح الإنسان أخلاقيا من خلال ممارسته لإرادته العقلية.
أما عن هيجل فقد أعلن نيتشه عداءه لفلسفته التاريخية، هذا على الرغم من أن بعض الباحثين - مثل برنشتاين - قد فسر نيتشه تفسيرا يفهم منه أنه قدم فلسفة للتاريخ نصف هيجيلية، وقام بعقد مقارنات بين «جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه و«ظاهريات الروح» لهيجل باعتبارهما رصدا للحركة التاريخية للفكر الأوروبي، وباعتبار أن فلسفة هيجل كشفت بالتدريج عن الحق في الفلسفة والدين؛ فالحالات المعرفية التي صورها نيتشه في معالجته لهذا الموضوع أشارت إلى وجود نوع من الضرورة الجدلية التي تنتمي إلى شكل أو نموذج التحليل التاريخي عند هيجل، ومع ذلك فقد كان نيتشه أكثر اهتماما بنقد المراحل الأولى أكثر من اهتمامه بتوضيح أن كل مرحلة تفترض مسبقا المرحلة السابقة عليها، وأن المرحلة الأخيرة تتضمن في داخلها كل المراحل السابقة.
40
كما وجد البعض الآخر من الباحثين - مثل روزن - أن في فكرة العود الأبدي عند نيتشه أثرا لمذهب هيجل عن عودة الوعي الجدلي المتطور، ففي كليهما تكمن البداية والنهاية لهذا التاريخ. كما يرى أيضا أن مذهب نيتشه في العود الأبدي قد يذكرنا بمذهب هيجل في دورية التصور والمفهوم المتطور تطورا كاملا. بمعنى أن نيتشه يستعيد تاريخ الفلسفة الأوروبية في كل من البداية والنهاية لهذا التاريخ. إن دورية التاريخ هي عودة كل المواقف الفلسفية الممكنة، وما يسميه نيتشه المنظورات الشاملة
Comprehensive persectives
صفحه نامشخص