وقد يكون ذلك كذلك، ولكن لسان الكتب أطول وأدوم، وإنما كان سبب خلوده الأسباب التي ذكرناها من قبل، وهي: أن الرشيد من حسن حظه أن جاء والمدنية الإسلامية قد بدأت في النضوج، وتم نضجها فيما بعد في عهد المأمون، فكانت مدنية عظيمة تفوق مدنية الأوربيين في ذلك العهد، فتدفقت الأموال على بغداد، وازدهرت التجارة بطرف الدنيا، والعلوم والفنون بشتى أنواعها مزدهرة، لم يجتمع على أحد غير الرشيد ما اجتمع من أهلها، وبيت المال يتكدس بالمال، والرشيد يغدق بغير حساب، ومجالس الغناء يزينها إبراهيم بن المهدي، وإسحاق النديم، وإبراهيم الموصلي، والنصارى مثل جبريل بن بختيشوع يمهرون في الطب، وينشرون كثيرا من الفلسفة اليونانية؛ إذ كان الطب أحد فروعها، ويهتم الخلفاء من عهد المنصور بعلم الفلك؛ لاعتقادهم أن حوادث الدنيا متأثرة بحركات النجوم، ويشتهر في ذلك إمامان عظيمان: ما شاء الله اليهودي، وأحمد بن محمد النهاوندي، والفقه يعظم في ذلك العهد على يد أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة ... وتؤلف الكتب على هذا المذهب، وتنتشر في الأمصار، واللغة تقيد في عصره فيؤلف الخليل بن أحمد البصري المعجم، ويضع أصول اللسان العربي، وأصول تصريف الكلمات، ويتوسع في ذلك بعد الكسائي مؤدب الأمين فالمأمون، وسيبويه النحوي المشهور، ويضع أبو عبيدة معمر بن المثنى كتابا في فقه اللغة في المترادفات، وكيفية استعمالها في مواضعها، والحركة بين البدو والحضر حركة قوية شديدة، يأتي البدو إلى الحضر فيأخذ عنهم الحضريون لغتهم وشعرهم وأدبهم، ويرققون أشعارهم، ويخرج الحضريون إلى البدو فيأخذون عنهم ذلك.
وارتفعت بلاغة الشعر في مثل علي بن الجهم، وأبي نواس، وأبي العتاهية ... وحتى النساء كن يقلن الشعر كما روينا من قبل عن الفارعة ... حتى إذا أنصفنا حكمنا بأن الشعر الحضري الذي روي لنا في عهد الرشيد وأمثاله كان أرقى من الشعر الجاهلي، والفرق بينهما كالفرق بين قول امرئ القيس إذ يقول:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرئ القيس فانزل
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الخمر فيما بيننا لم تسرب
وكان كثير من الشعراء يلازمون الرشيد؛ كالذي حكي عن أبي العتاهية أنه كان لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان ينتصح الرشيد بشعره، ويبكي من مواعظه كقوله:
كأن كل نعيم أنت ذائقه
من لذة العيش يحكي لمعة الآل
صفحه نامشخص