ودخل يحيى مرة أخرى على الرشيد، وهو خال فانتظر قليلا ... فلم يفتح له حديثا فاستأذن وخرج، فقال الرشيد لبعض الخدم: الحق بيحيى ... فقل له: «خنتني فاتهمتني» فقال للرسول: «تقول له يا أمير المؤمنين، إذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة ... ووالله ما انصرفت عن خلوتك إلا تخفيفا عنك.» •••
ومما يؤيد رأينا في أن السبب الأكبر في نكبة البرامكة غيرة الرشيد منهم، وحبه لاسترجاع سلطانهم وأموالهم ... ما رواه الجهشياري من أن يحيى لما أحس من الرشيد تغيره عليه ركب إلى صديق له من الهاشميين، فشاوره في هذا الموقف، فقال له الهاشمي: إن أمير المؤمنين قد أحب جمع المال، وقد كثر ولده ... فأحب أن يجمع لهم الضياع، فلو نظرت إلى ما في أيدي أصحابك من ضياع وأموال فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت بها إليه رجوت لك السلامة.
فهذا يدل على أن من أكبر أسباب غضب الرشيد على البرامكة أيضا حسده لهم وطمعه في أموالهم.
وليس المال يقصد لذاته، وإنما يقصد للسلطان والعظمة ... فإذا طمع الرشيد في مالهم فطمعه في سلطانهم أشد، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه، خصوصا وأن الرشيد قد كبر وفهم المسئولية وقدر عليها، فأراد أن يزحزحهم عن سلطانهم، ويحل محلهم.
وقد أخذ الرشيد من كل ما فكر وشاور يقضي على البرامكة قضاء شنيعا؛ فقتل بعضهم، وسجن بعضهم إلى أن يموت، وقتل من تولاهم من الشعراء، ومن كان يقف ببابهم، وتنتهي بذلك دولة البرامكة، ويسترد الرشيد سلطانه، ويعيد إلى نفسه سلطانهم وعظمتهم.
الناس قسمان!
والناس في كل زمان ومكان ينقسمون إلى قسمين: قسم - وهم الأغلب - يميلون مع الريح كيف تميل، لهم قدرة على شمها من أين تأتي، فهم يتجهون معها كلما هبت من ناحية، لا بأس أن يتجهوا في الصباح اتجاها وفي المساء اتجاها آخر مناقضا، لا يحركهم إلا ترقبهم لمصلحتهم الشخصية، فإذا قال رئيسهم: أسود قالوا: أسود ... وإذا قال: أبيض قالوا أبيض، لا يقمعهم ضمير، ولا تصدهم أخلاق، وقسم - وهو القليل - وفي ثابت على مبدأ ... يحتمل العذاب في سبيل ثباته، ليس عبدا للمال، ولكنه عبد للضمير.
وقد كان هذا شأن الناس مع البرامكة ... فمنهم من جحد فضلهم، وانقلب عليهم بمجرد أن أحسوا غضب الرشيد عليهم، أو تملقا للفضل بن الربيع؛ لأنه كان يتوقع انتصاره، كالذي يقول:
قل للخليفة ذي الصنا
ئع والعطايا الفاشيه
صفحه نامشخص