وشاركه العظماء في ذلك؛ فيحيى بن خالد البرمكي أمر أيضا بترجمة كتاب المجسطي، ثم جاء بعد ذلك المأمون فاستغل ما ترجم قبله، وزاد عليه كثيرا، والناس على دين ملوكهم ... فلما رأوا المأمون يميل إلى ترجمة الكتب، وينفق على ترجمتها عن سخاء اتبعوا مذهبه، وقد ساعده على ذلك نضوب الحركة التي بدأت قبله، كما ساعده أيضا وجود جماعة من أحرار الفكر من المعتزلة حوله كأبي الهذيل العلاف والنظام.
وقد أبلى بلاء حسنا في هذه الترجمة السريانيون ... فقد كانوا أكثر اتصالا بالفلسفة من قبل العرب، وكانوا قد نقلوا كثيرا من الكتب اليونانية إلى اللغة السريانية، وكانوا يعلمون اللغة اليونانية في مدارسهم وأكثرها في العراق، فلما انتقل كرسي الخلافة إلى بغداد، ورأوا حاجة المتكلمين بالعربية إلى هذا العلم، حولوا ما نقلوا من السريانية إلى العربية؛ طلبا للرزق، وحبا في التقرب إلى الناطقين بالعربية.
حدة مزاج الرشيد
ولقد كان الرشيد مثقفا ثقافة واسعة، وكان كبير العقل عالي الهمة كريم النفس ... ولكنه من ناحيته العاطفية كان حاد المزاج؛ يكون في مجلس وعظ ودين فيتدين، ويفرط في التدين، ويصلي مائة ركعة في اليوم، ويحج ماشيا، ويكون في مجلس غناء أو شراب فيملكان عليه قلبه، ويرضي عن البرامكة فلا حد لرضاه، ويغضب عليهم فلا حد لغضبه، ويعفو حتى ليظن الظان أنه لا يعاقب، ويحلم حتى يعفو في مواضع العقاب، ويغضب فيخاف من حوله من الحديث معه؛ كالذي روي أنه لما عاد من حروب الروم بلغه أن نقفور نقض العهد الذي عهده، فخاف وزيره من إلقاء الخبر عليه، فأوعز للشعراء أن يخبروه بالخبر، فقال عبد الله بن يوسف:
نقض الذي أعطيته نقفور
فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه
غنم أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح مؤيد
بالنصر فيه لواؤك المنشور
صفحه نامشخص