دخل الدفراوي منزله وهم أن يخلع ملابسه، ولكنه يسمع خارج بيته ضجيجا عاليا فلا يحفله، ظانا أن القوم يلغطون بحادث الليلة، ولكن الضجيج يقترب فيوشك أن يوليه اهتماما، ويتسمع فيسمع اسمه، فيسارع بفتح الباب يريد الهرب ولكن لات حين مهرب، لقد كان الضجيج قد بلغ باب بيته وأحاط به الجنود وخفراء القرية.
16
سارت سيارة المأمور بالدفراوي تحمله إلى السجن متهما بتهمة القتل، منكرا لهذه التهمة مبالغا في الإنكار، ولكن إنكاره لم يمنع العمدة أن يفرح لهذا النصر الضخم الذي أصابه، فإن الحوادث التي وقعت في تلك الفترة البغيضة من الإرهاب لا بد أن تنتهي اليوم، بل إن العمدة كبير الأمل أن يعرف أيضا جماعة الخير فردا فردا، فهو يعتمد على المأمور أن يحمل الدفراوي على الاعتراف.
وبهذا الفرح والأمل، وفي تفكير عميق، وقف العمدة يقيم صلاة الفجر الحاضر، فقد استمر التحقيق إلى الصباح، وانتهى العمدة من صلاته في شرفة الدوار وانفتل إلى بيته، فاستقبلته زوجته التي ظلت ساهرة تنتظره وتجيب أوامره التي يرسل بها إليها. - هيه، خير يا شيخ زيدان؟ - خير إن شاء الله، انكشفت الغمة والحمد لله. - الحمد لله على كل شيء، هل اعترف منصور؟ - لا لم يعترف، ولكن كيف له أن ينجو وقد شاهدته بعيني أنا وفتحي، وأثبتنا هذا في محضر النيابة؟ - وهل عثروا على السلاح؟ - هذه هي المشكلة! لقد فتشنا بيته وبيت صاحبه النمرود ولكنا لم نجد شيئا، وأرجح أن الولد له صديق في الصحراء أودع عنده البندقية. - فانتبه أنت لنفسك يا شيخ زيدان. - لقد خلصنا منهم يا شيخة، فما أعتقد إلا أن هذا كان زعيمهم، وما أظن أن تقوم لهم قائمة بعده أبدا. - ومن أدراك يا شيخ زيدان؟! إنني لم أر في حياتي عصابة كافرة مثل تلك، فبحق درية يا شيخ وبحقي إلا ما احتطت لنفسك. - توكلي على الله يا حاجة، توكلي على الله، لقد ثبت كلامي في المحضر، ولن تنفعهم إصابتي في شيء. - ومن يدري؟ هؤلاء قوم لا يعرف أحد نواياهم! - توكلي على الله، هلم إلى النوم، فإني أحس جسمي لا يكاد يستقيم، وأيقظيني عند الضحى لنمشي في جنازة أحمد، الله يرحمه. •••
صحا العمدة قبيل الضحى، فوجد القوم ينتظرونه بالخارج ليباركوا له هذا النصر الذي أحرزه، وليصحبوه في تشييع الجنازة، قال الحاج علي: الحمد لله يا حضرة العمدة غمة وانزاحت. - الحمد لله يا حاج علي، ولو أنك كنت كثير المديح لهذه الغمة. - يا حضرة العمدة داروا سفهاءكم، وماذا كان يمكن أن أفعل يا حضرة العمدة؟ كنت أخشى على نفسي وعلى قوتي. داروا سفهاءكم يا حضرة العمدة.
فصاح الشيخ رضوان في غضب تعود أن يفتعله حتى ليبدو صادرا من صميم فؤاده: دع الحديث جانبا يا حاج علي، فما أظن النبي يحض على النفاق، كنت تستطيع أن تسكت على الأقل.
وقبل أن ينطق العمدة كان الحاج علي قد شذره بنظرة دهشة عاجبة: لا حول ولا قوة إلا بالله يا شيخ رضوان، عجيبة.
وقبل أن يجيب الشيخ رضوان سارع العمدة قائلا: إي والله عجيبة يا شيخ رضوان. - أي عجيبة يا حضرة العمدة؟ أي عجيبة؟ - عجيبة؛ لأنك كنت أكثر مديحا للجماعة من الحاج علي نفسه. - أعوذ بالله يا حضرة العمدة ، أنا؟!
فقال الحاج علي وهو محملق في الشيخ لا يزال: عجيبة!
وقال العمدة: نعم أنت. - أنا يا حضرة العمدة! أنا الرجل المصلي الذي أخاف الله وأتقي غضبه! أنا أمدح هؤلاء القتلة السفاكين اللصوص قاطعي الطريق؟! أنا كنت أمدح فقط أنهم يقدمون للفقراء المعونة ... كنت أذم القتل والسرقة وأمدح الكرم ومعونة الفقراء. - سبحان الله يا شيخ رضوان، ألم تكن تدرك أن إعطاء الفقراء كان لتملقهم ولتجد الجماعة مبررا أمام القرية لارتكاب ما ارتكبته؟ - لا والله يا حضرة العمدة، لم أكن منتبها لهذا.
صفحه نامشخص