كان الطريق إلى القرية خاليا لا يسير فيه أحد؛ فقد كانت الساعة الثالثة من عصر يوم حار شديد الحرارة، ولم يكن هذا موعد عودة الفلاحين من الحقل ولا ذهابهم إليه، وكأن الشمس قد وعدت الطريق في يومه هذا أن تريحه من دائسيه ساعات طويلة من النهار، فهي ترسل أشعتها القاسية فتفي بوعدها للطريق، إلا أن الطريق لم ينعم طويلا بهذه الدعة التي هيأتها له الشمس؛ إذ ما لبث أن بدا في أوله شاب طويل القامة يسير في همة توشك أن تصبح لهفة، ولا يلبث هذا الفتى أن يقترب رويدا، فإذا هو متناسق القسمات، قوي الملامح أبيض الوجه، دقيق الفم، وامض العينين، إن رأيته وهو يستقبل الأفق ورأيت هذا الطيف من الابتسامة الذي يترقرق على شفتيه خيل إليك أنه فتى في طريقه إلى هواه، فإن أدركت ذلك فلا تظلم ذكاءك فإنك محق أنه فتى في طريقه إلى هواه.
ليس هذا الفتى غريبا عليك فقد أطلعتك عليه حيرة العمدة حين كان ينتظر المأمور الجديد، وحين كان يفكر في تلك البرقية التي أرسل بها إلى المأمور ليعتذر إليه لمرضه من عدم حضوره جمعية العمد، أذكرت الآن الفتى؟ ما أخالك فعلت، إنه فخري ابن الشيخ حسن، فمن فخري؟ ومن الشيخ حسن؟
الشيخ حسن رجل من وجوه القرية قريب إلى العمدة كل القرب؛ فقد جمعتهما ملاعب الطفولة وفلقة الشيخ في الكتاب، ثم صحن الأزهر في القاهرة، ثم عودتهما دون أن ينالا شهادة، ثم جمعتهما من بعد الحياة في القرية، فكانا يواجهان الشدائد معا حتى تنحسر، فإن هي تركت عليهما بعض آثار امتدت يد كل منهما تمسح عن أخيه أثر الشدة حتى تزول، وكانت هذه اليد تمتد بطبيعة لا أثر فيها لكلفة؛ فكأنما هي تذود عن صاحبها - لا عن صديق صاحبها - شرا وقع أو يوشك أن يقع، وكلما مر بهما الزمان توثق ما بينهما من ود، وكم حاول ذلك الزمان بالأشرار من أبنائه أن يفسد ما بين الصديقين، ولكنها صداقة تأبت على الزمان وأشراره، وصمدت لا تلين.
وهكذا عرف الناس الشيخ حسن على أنه الصديق الأول للعمدة، فإن أراد واحد من أهل القرية أن ينال العمدة بشر احتشم أن يفعل على مسمع من الشيخ حسن، فقد تعودوا منه - إذا فعلوا - شدة في الرد وعنفا في الإجابة.
وكذلك كان الأمر مع العمدة إن حاول محاول أن ينال من الشيخ حسن على مسمع منه، وقد يلين العمدة إن انتقده أحد، وقد يلين الشيخ حسن إن لامه لائم، ولكن واحدا منهما لا يلين ولا يسكت إن ذكر الآخر أمامه بنقد أو لوم.
ولم يكن الشيخ حسن في مثل يسر العمدة، ولكنه كان مستور الحال، له في أرضه ما يسد حاجته. وقد كان الشيخ حسن ذكيا يعرف أن ماله إذا قسم بين ولديه فهما إلى الفقر، فرأى أن يجعل الأرض من نصيب الأكبر والعلم من نصيب الأصغر، وبرر هذا التقسيم لنفسه بأنه سينفق على الأصغر مالا جسيما مما تنتجه الأرض، وهو في إنفاقه هذا إنما يعدو على حق الأكبر في النفقة، فهو لذلك سيعوضه عما فاته بأن يجعل رأس المال كله حقا مباحا له بمجرد أن يتم الأصغر تعليمه.
وقد كان صلاح هو الأكبر وفخري هو الأصغر، وكان فخري هو صاحب العلم في تقسيم أبيه، وهكذا وجد فخري نفسه يقاد إلى المدرسة منذ لا يذكر متى، ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره كان يذهب فخري إلى دوار العمدة مع أبيه حينا أو مع صحابته أو منفردا، وكان يلقى هناك جمعا من الأطفال، وقد اتخذوا من باحة الدوار ملعبا يسع كل ما يعن لأذهانهم الطفلة من ألعاب، فمن كرة تضرب باليد، إلى كرة تلقف، إلى كرة تنتاشها العصي المعقوفة بألوان من الزجر والضرب والإلقاء، إلى جري لا يعرف هدفا، إلى جري هارب من الإمساك، إلى وضع غمامة على عينين، إلى غير ذلك من مراح الطفولة والصبا.
ومنذ ذلك الحين الذي لا يذكره عرف فخري درية، ومنذ ذلك الحين أحب فخري درية، أكان حبا ذاك؟ إنه اليوم يعلم أنه الحب، ولكن أكان إذ ذاك حبا؟ لم يعد يدري! لقد شب هو عن مدرسة القرية وعن باحة الدوار، فوجد نفسه يحب درية حبا لم يفجأه، وإنما وجده معه كما وجد معه عينيه وقلبه، لا يعرف كيف بدأ ولا يذكر متى.
ولكنه يعرف أن هذا الحب عوده أن يكون السابق دائما، فلم يكن يقبل أن تسمع درية عنه أنه تخاذل في ميدان أو سبق في مضمار، فهو في دراسته أول فصله، وهو في احتفالات القرية خير خطبائها، وهو في أبناء البلدة خيرهم، إن تحدث يجهد كل الجهد أن يقتسر المديح اقتسارا، ويجهد كل الجهد أن يأخذ هذا المديح طريقه إلى أذن درية.
لم يعرف عنه أحد أنه انحدر إلى شر، فإن أحدق به الشباب لينزلق به عرف كيف يمنع كل شائبة أن تلحق باسمه إذا ما ذكر اسمه عند درية.
صفحه نامشخص