جنگ و صلح
الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة
ژانرها
والدانيللو كوبر هي إحدى الحركات التصويرية لرقصة إنجليزية، كان الكونت في شبابه يتعشقها ويميل إلى رقصها دائما، وقد امتازت هذه الرقصة بسرعة الحركة، ووجوب استعمال الخفة في التنقل، هتفت ناتاشا وهي تطلق ضحكة مدوية امتلأت القاعة بصداها، وتنحني فيلامس رأسها المتوج بالشعر الجميل ركبتيها: انظر إلى بابا!
نسيت تماما وهي في سياق مرحها أنها تراقص «شابا حقيقيا».
والحقيقة أن كل الحاضرين، راحوا ينظرون إلى ذلك العجوز المرح، الذي كان إلى جانب مراقصته الضخمة، التي تفوقه طولا، ويبرز رأسها اعتبارا من العنق فوق هامته، يكور ذراعيه، ويضبط الإيقاع، فيهز كتفيه، ويقرع الأرض بقدمه، وعلى شفتيه ابتسامة مرحة تضفي على وجهه بهجة ومرحا، ملفتا انتباه الحشد المتفرج إلى المشهد الممتاز الذي هو في سبيل عرضه عليهم، فلما صدحت الموسيقى بمطلع الرقصة الرشيقة، فتحت الأبواب كلها، وأطلت منها وجوه مشرقة باسمة تتطلع بانتباه ولذة إلى ذينك الراقصين، فكان الخدم والرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، يراقبون جميعهم الكونت وهو يعود إلى أيام الصبا.
هتفت المربية الواقفة قرب أحد الأبواب: آه، إن سيدنا نسر حقيقي!
كان الكونت يرقص برشاقة تثير الإعجاب، وكان يعرف ذلك عن نفسه، أما الفارسة فكانت على عكس ذلك، سيئة الحركة، تفسد الرقصة دون أن تبالي بأخطائها، فكانت جثتها الضخمة الهائلة منتصبة ثابتة في مكانها، وذراعاها الهائلتان منسدلتين بلا حراك إلى جانبيها بعد أن تخلصت إحداهما من الحقيبة الضخمة، التي ما فتئت تلازمها، بإعطائها إلى الكونتيس، ولم يكن إلا وجهها القاسي، الذي يمتاز بجماله، يتابع الرقصة بالبشر المنتشر على قسماته، فكانت ابتسامتها متسعة تكاد تشمل الوجه كله، ورأسها مرتفع إلى الوراء باعتداد متشامخ، أما الكونت، فكان على العكس، يرقص بكل جسده الممتلئ، لكنه على الرغم من أن كل حركة من حركاته الرشيقة وخطواته المتزنة البديعة كانت تثير إعجاب المتفرجين، فإن أقل حركة أو اهتزاز من كتفي ماري دميترييفنا أو قدميها، كانت تحدث تأثيرا مماثلا في نفوس المتفرجين، الذين كانوا سعداء لرؤيتها في ذلك الوضع؛ تسخر جثتها الضخمة، وتتساهل رغم صلابتها المعروفة، وكانت الرقصة تزداد حيوية ونشاطا، حتى إن الراقصين الآخرين ما كانوا يستطيعون اجتذاب انتباه أحد، وعلى الرغم من أن الكونت وماري دميترييفنا كانا محط أنظار الجميع، فإن ناتاشا كانت تتهافت على المدعوين واحدا تلو الآخر، فتجذب هذا من كمه وتلك من ثوبها، لتنبههم إلى «البابا» وهو على حاله تلك، وكان الكونت خلال فترات من الراحة يتنفس بصعوبة، ويوحي للعازفين سواء بالإشارة أم بالقول أن يضاعفوا سرعة العزف؛ الأمر الذي كان يزيده نشاطا ومرونة واندفاعا، فيدور تارة على رأسي قدميه، وطورا على كعبيه حول الراقصة البدينة. وأخيرا، وبعد أن قادها إلى مجلسها، قام بالحركة الأخيرة؛ بأن رفع ساقه المرنة إلى الوراء، معتمدا على ساقه الأخرى، وانحنى حتى أصبح جسمه زاوية قائمة على ساقه، ورسم بيده اليمنى دائرة متسعة انتزعت عاصفة من التصفيق والضحكات التي كان صوت ناتاشا واندفاعها يبرزان خلالها. وكان الراقصان المجدان على آخر رمق، فتوقفا وراحا يجففان أيديهما ووجهيهما بمناديلهما الفاخرة.
قال الكونت: كذلك كنا نرقص من قبل يا عزيزتي.
فأجابت ماري دميترييفنا، بعد أن استجمعت أنفاسها بصعوبة وراحت تحسر الكمين عن ذراعيها: ذلك هو ما يسمونه «دانيللو كوبر».
الفصل الحادي والعشرون
المؤامرة
وبينما كان المدعوون يرقصون «الإنجليزية» السادسة في منزل آل روستوف، وقد راح الموسيقيون يخطئون في الإيقاع لشدة التعب، والخدم والطهاة يهيئون العشاء، أصيب الكونت بيزوخوف بنوبته السادسة، أعلن الأطباء أن الأمل الأخير قد ضاع، لذلك فقد لجئوا إلى أخذ اعتراف المريض «ومناولته» وهو فاقد الوعي، وراحت الاستعدادات للمرحلة الأخيرة تتخذ، وسط الطقوس الدينية المرعية، وسادت الفوضى الطبيعية في مثل هذه الظروف الفندق كله، وهرع متعهدو الدفن إلى الأبواب لاصطياد ذلك الصيد الثمين، فراحوا يحاصرون مداخل الفندق، ويختفون كلما وصلت عربة بعض السادة أمام الباب، وجاء حاكم موسكو العسكري بنفسه يودع صفي كاترين الثانية العتيد الوداع الأخير، بعد أن أقام مساعديه وحجابه في الفندق؛ ليطلعوه أولا فأول على أخبار المريض وتطوراته.
صفحه نامشخص