وهنا بدأت ملامحه تبرق وبدأ خاطر جنوني يستبد به. الشيخ أبو إبراهيم في العزبة نمرة ستة يحيي المولد الذي هناك، ولنده الآن جالسة - وحدها - مع أم إبراهيم. أليست هذه فرصة جاءته من السماء على غفلة؟ وما الذي يحدث لو دخل الآن بيت الشيخ «أبو» إبراهيم مدعيا أنه يسأل عنه مثلا أو أنه يريد مناقشته في موضوع خاص والنقاش بينهما أمر معروف؛ إذ كثيرا ما قضيا جزءا كبيرا ساهرين عند القنطرة أو أمام دكان جنيدي يناقشان المسألة الأزلية: الله ووجوده والخيار والإلزام. والشيخ أبو إبراهيم يستمع لشكوكه وحيرته بصدر رحب سمح، ويطول بينهما النقاش ولا يتفقان. لماذا لا يدعي السؤال عنه ويدخل، وإذا عزمت عليه أم إبراهيم يجلس ولا بد أنه سيدور الحديث، ولا بد أنه سيجد فرصة ينفرد فيها بلنده ويخبرها بمكنون قلبه، وقد يوصلها إلى بيتها بعد انتهاء زيارتها. ورغم وجاهة السبب ووجاهة الفكرة فقد ظل صفوت مترددا، أحيانا يتحرك خطوات في اتجاه البيت فتخونه شجاعته ويتوقف وهو محرج أيما إحراج؛ إذ المكان الواقف فيه مكان مكشوف تمر عليه الناس فيه وتحييه وتعجب والمسألة يلزمها بعض التروي والتفكير، فقدرته على مواجهة لنده قد انتابها ضعف كبير من اللحظة التي قرر فيها أن يصارحها بحبه. وهكذا انتحى صفوت ركنا من الشارع اختاره بجوار صومعة غلال قائمة تكاد تحجبه - بحجمها الضخم - عن الأنظار، ومضى يقضم أظافره ويعمل فكره واضطراب عظيم قد تملكه. وبينما هو كذلك رأى أحمد أفندي سلطان قادما من أول الشارع بطربوشه ومعطفه اللذين لا تخطئهما العين. وازداد التصاقا بالحائط واختفاء وراء الصومعة حتى لا يراه أحمد سلطان فيعيره بموقفه ذاك عدة ليال وسهرات. ولكن أغرب شيء أن أحمد سلطان لم يمر عليه؛ إذ قبل أن يصل إلى منتصف الشارع انحرف ودق باب الشيخ «أبو» إبراهيم المفتوح ودخل. قلب صفوت هو الآخر دق في عنف وتولته حيرة عظمى كادت تحجب الرؤية عن عينيه. ولكن عينيه ما لبثتا أن رأتا الباب، باب الشيخ تحركه يد نسائية من الداخل، ثم ما لبث أن انصفق وانغلق. وتصاعدت الدماء في نافورة حارة إلى رأسه. وخرج من مخبئه وأسرع يلهث حائرا في اتجاه الترعة كمن لدغته - لتوه - حية رقطاء.
وألف شيء فكر فيه في تلك اللحظة.
فكر أن يذهب ويحضر البندقية ويقتحم البيت ويطلق عليهما ظرفين دفعة واحدة. فكر في أن يسكت وينتظر؛ إذ ربما يكون الأمر قد حدث صدفة. فكر في أن يذهب ويطرق الباب بحجة أنه يسأل عن الشيخ «أبو» إبراهيم ويفاجئهما بظهوره. فكر في كل شيء ولكنه كان دائما يجد نفسه عاجزا عن أن يفعل شيئا وكأن إرادته قد أصيبت بشلل مفاجئ، ولم تعد تستطيع إلا البكاء. ولكنه رفض أن يخضع لإرادته ويبكي، وفجأة وجد أن همه كله أصبح في أن يعثر على محبوب قبل أن يذهب بالخطاب فيأخذه منه؛ إذ لم تعد له حاجة به، ولم تعد تنفع ال... خطابات.
ولكنه لم يجد «محبوب» وعبثا حاول العثور عليه وكأن أهدافه من الحياة قد تبلورت كلها في العثور على محبوب. وحين فشل في هذا أيضا أحس أنه قد أصبح يريد البكاء. وهكذا عاد إلى البيت وانهار فوق سريره يريد أن يبكي. ولكن البكاء استعصى عليه هذه المرة، وبقي راقدا مفتح العينين كالمجانين. إلى أن أحس ببابهم يدق وبمسيحة أفندي يطلب مقابلة أبيه لأمر عاجل، ويقوم أبوه من النوم ويفتح حجرة الجلوس. ويجلس ومسيحة أفندي، ويسمع بأذنه مسيحة وهو يروي لأبيه تفاصيل ما حدث حين جاءهم محبوب يسأل عن الست لنده، وعما قليل سيأتي أبوه ويحاسبه الحساب العسير.
ظل صفوت راقدا مفتح العينين ينتظر اقتراب الخطوات التي يعرفها جيدا، خطوات أبيه، وهو مستعد لمواجهته كل الاستعداد، وكأن لم يعد مهما لديه - بعد ما حدث - أن يحاسب على أي شيء وأن يتهم بأية تهمة. ولكن خطوات أبيه حين اقتربت حقيقة وجد صفوت نفسه يغلق عينيه ويدعي النوم. ووقف أبوه بباب الحجرة والمصباح في يده طويلا، وكأنما هو متردد بين أن يوقظه وبين أن يترك أمر محاسبته وعقابه للصباح.
ويبدو أنه آثر - في النهاية - أن يترك كل شيء للصباح، فالصباح رباح. •••
ولكن فكري أفندي لم يستطع محاسبة صفوت في الصباح؛ إذ استيقظوا فلم يجدوه، ولكنهم وجدوا خطابا منه يقول فيه إنه ذهب ليبحث عن عمل في الإجازة في مصر بعيدا عنهم وعن التفتيش، وإنه لم يجد فائدة في مجادلتهم فهم حتما سيعترضون. ويقول في الخطاب أيضا إنه آسف لأنه اضطر «لاقتراض» كل ما في كيس أمه من نقود ويعد بردها جميعا حين يقبض أول ماهية، والمضحك أن الورقة التي كتب عليها الخطاب يبدو أنها كانت إحدى مسوداته لخطاب لنده؛ إذ كان في ظهرها كلمة حبيبتي مشطوبة ومعادا شطبها. ولم يفعل فكري أفندي شيئا أكثر من أن قرأ الخطاب مرة أخرى ثم مزقه وهو يحاول إخفاء رضائه عن هروب صفوت، فالواقع أن صفوت أسدى إليه معروفا، وأراحه من مهمة محاسبته ومواجهته، وتلك - بالنسبة إلى فكري أفندي - كانت دائما مهمة عسيرة على نفسه وشاقة يتألم لها أضعاف ألم صفوت منها. •••
أقيمت «ظليلة» أخرى لعزيزة بجوار أم الترحيلة تماما، إذ لم تعد ثمة حاجة لذهابها كل يوم مع الأنفار ما دام المأمور قد عرف ووافق على أن تحتسب يوميتها وهي راقدة.
وتكفلت الظليلة والمرأة الراقدة تحتها بلفت نظر الناس وتعريف من كان لا يزال لم يعرف بعد بحكاية عزيزة. والحقيقة أن سلوك أهل التفتيش تجاه حكاية عزيزة كان سلوكا غريبا. فأول الأمر كان همهم أن يثبت أن الفاعلة واحدة من الترحيلة. وحين ثبت هذا واطمأنوا، دفعهم حب الاستطلاع لمعرفة قصة هذه الفاعلة. وحين عرفوا القصة وأشيع أن صاحبتها قد بلغت من المرض حد أن رقدت في مكان الترحيلة أصبح كل همهم أن يروا تلك المرأة ويتأملوا كيف تكون وماذا تشبه. ومن أجل هذا كانوا يقبلون جماعات وأفرادا، نساء ورجالا، وحتى صبية وأطفالا. كان القادم ليتفرج على عزيزة منهم يدعي أنه في طريقه إلى الجرن أو ماكينة الري أو سارح إلى الغيط، وحين يرى الظليلة يتلكأ، وكأنما قد استوقفه منظرها، ويروح يسأل وكأنما هو لا يعرف، ويحدق في المرأة الراقدة ويطيل التحديق.
كان هذا يحدث أول الأمر، ولكن بمضي الوقت لم تعد هناك حاجة للادعاء، فقد كان من يريد التفرج على عزيزة يقف - صراحة - غير بعيد عن مكانها. ويظل منتظرا أن تستدير أو يخرج منها صوت أو تبدو لها ملامح. وبعد أن كان الناس يعملون حسابا لوجود بلدياتها الغرابوة - إذا وجدوا - أصبحوا يقفون للتفرج على عزيزة حتى في وجود الغرابوة. وكانوا يفعلون هذا دون أن يتبادلوا كلمة واحدة مع الغرابوة، وكأن ليس لهم بهم دعوة أو صلة، وكأن عزيزة لم تعد منهم، وإنما أصبحت ظاهرة عامة من حق الجميع أن يروها ويتفرجوا عليها. وكان الغرابوة يتقبلون هذا الوضع بكثير من الاحتمال وضبط النفس.
صفحه نامشخص