كل قادم كان يريد رؤية ابن الحرام هذا الذي مات لتوه، فإذا ما زاحم وزاحم حتى وصل إليه وحدق فيه وملأ عينيه من البشرة البيضاء التي ازرقت وكادت تسود، والرأس الصغير وما حوله من مشيمة ودماء، ما إن يرى كل ذلك حتى يدير ظهره ويقفل راجعا، وقد امتلأت نفسه وملامحه بمزيج قابض من الرهبة والغثيان.
وجاء مأمور الزراعة في النهاية، وسبقته الأيدي تدفع الواقفين وتفسح له الطريق، وكان فكري أفندي المأمور لا يقل رغبة في رؤية هذا الحادث - الجديد عليه وعلى العزبة - عن أي من الواقفين، ولكن كان حريصا في الوقت ذاته على ألا يفقده ذلك الشغف هيبته. فما إن قارب المتزاحمين حتى مد يده وأحكم اعوجاج طربوشه فوق رأسه، ثم اكتست ملامحه السمراء طابع الجد، وعقص رقبته في صلف كما يجب أن تكون عليه حين يراه الفلاحون، ثم وقعت عيناه على المشهد، ولم يفلح هذه المرة في إخفاء ما اعتراه هو الآخر من رهبة وغثيان. بل بدت واضحة تمام الوضوح على وجهه وتقلبات شفتيه، ثم استدارته على الفور إلى حيث يستطيع مغادرة المكان والابتعاد عنه.
وتبع المأمور في ذهابه الخولي وخفير الري وطنطاوي والأسطى محمد ونفر قليل من «التملية» والشغيلة، ساروا صامتين واجمين، والمأمور يبصق تارة في منديله الأبيض المكور وتارة على قش الطريق المبتل. •••
وكان من الممكن أن تنتهي مهمة فكري أفندي المأمور عند هذا الحد؛ فهو «صحيح» مسئول عن كل كبيرة وصغيرة تحدث في التفتيش، إلا أن العثور على لقيط ميت أو مقتول ومحاولة العثور على قاتله مسألة لا تدخل في اختصاصه بالمرة.
وذلك فعلا ما كان يدور في رأسه، وهو يمشي الهوينى في الطريق إلى مباني إدارة التفتيش، وخلفه ذلك الجمع الصغير، غير أن حب استطلاع ما بدأ يراوده، ترى ابن من هذا؟
التفتيش مكون من عزب، كل عزبة لا تتعدى بيوتها الثلاثين بيتا، وهذا اللقيط وجد على خليج العزبة الكبيرة المقامة بجوار سراية أصحاب الأرض والإدارة، حيث الإصطبلات والجرن والمخازن وجراجات مكن الحرث. لا بد أن اللقيط ابن لواحدة من أبناء هذه العزبة الكبيرة أو بناتها، والعزبة يكاد يعرف نساءها وبناتها بالواحدة، ترى أيهن هي التي فعلت هذه الفعلة؟ وترى كيف فعلتها؟ فكري أفندي طالما سمع في القصص والحواديت عن أولاد الحرام، وأحيانا كانت تبلغه فضائح مثل هذه كأخبار ليس إلا عن أناس لا يعرفهم ولا يدري أشكالهم ولا ماذا يكونون. وفي أعمق أغواره - وحتى لو كان قد قرأ الخبر في جريدة المقطم نفسها التي يؤمن بكل كلمة تقولها - فإنه كان يجد نفسه لا يكاد يصدق الخبر، لا يكاد يصدق أن أحداثا كبيرة شنعاء حراما مثل هتك العرض أو الحمل سفاحا ممكن أن تحدث فعلا. ولكنه رأى اليوم بعينه جسم جريمة كاملا ميتا يكاد يمد إصبعه، ويضعها في عين كل من لا يصدق. كانت أحاسيس غريبة تلك التي تملكته، وهو واقف يحدق في اللقيط، وكأنه يرى الشيء الحرام الذي كان يأبى أن يصدق وجوده، أو استحالة إقدام الناس على فعله، يراه أمامه مجسدا راقدا على حافة الخليج، أحاسيس كثيرة عصفت به، الحرام إذن موجود لدى الناس، أحيانا لا يستطيعون إخفاءه، ولكنه أحيانا يهزمهم وينتصر على رغبتهم في إخفائه، ويظهر متبلورا في لقيط مسجى أو في بطن منفوخ. الحرام - الذي كنت تسمع عنه يا فكري أفندي ولا تصدقه - موجود، وأمامك الفرصة مواتية لترى فاعلته كما رأيته.
تلك في الواقع هي الفكرة التي كانت تلح على خاطره في أثناء رجوعه إلى مبنى الإدارة. ترى كيف تكون فاعلة ذلك الحرام؟ أو على وجه الدقة كيف تكون الزانية؟ ما من مرة ذكرت أمامه الكلمة إلا واقشعر بدنه، مع أنه كان له - مثلما لمعظم الناس - علاقات قبل أن يتزوج وحتى بعد أن تزوج. ولكن كأنما كان يستبعد أن توجد نساء في العالم يخطئن مثلما تخطئ النساء معه، وكأنما من أخطأن معه لسن زانيات، الزانيات هن من يخطئن مع غيره.
ترى كيف تكون تلك المرأة، وهل تكون جميلة، وهل تشبه الغوازي، وهل هي مثل سائر النساء أو لا ريب تنفرد بألاعيب وحركات وتأودات هي التي جعلت ذئبا من الرجال يستفرد بها ويفعل معها الحرام؟
وقف فكري أفندي في منتصف المسافة بين الخليج وبين الإدارة واستدار، واستدار الجمع الذي خلفه لاستدارته، وراح يستعرض العزبة الكبيرة أمامه: بيوتها الداكنة والدخان الذي كان قد بدأ يتصاعد من الخروق الكثيرة في سقوفها. على رأس العزبة يقع بيت مسيحة أفندي الباشكاتب وبجواره بيت أحمد سلطان الكاتب، الشاب الأشقر ذي الطربوش الغامق المعوج والبالطو الأسود النظيف، الولد الشباب الحلو الذي طالما ضبط وهو يغمز بنتا من البنات الفائرات الكبيرات اللاتي كن أحيانا يغدون للعمل في التفتيش، وغمزته دائما ما كانت تكهرب البنت منهن حتى لتجعل ثدييها يقفزان في الهواء، ولكنه لا يبحث عمن قد يصلح ليكون الأب، هو يبحث عن الأم، فهو مستعد أن يصدق الحرام في الرجال، ولكنه - لأمر ما - يصعب عليه أن يصدق الحرام في النساء. الرجل دوره في الحرام طياري أما المرأة فدورها أساسي. هو يبحث عن الأم. وفي بحثه هذا لم يترك أحدا، حتى امرأة الباشكاتب الست أم لنده تناولها بحثه، ولكنها كانت في زيارة لزوجته في الأسبوع الماضي، ولم تكن أبدا حاملا. ومن بيت إلى بيت تنتقل عيناه، بيوت المزارعين الكبار الذين لدى الواحد منهم أكثر من ثلاثة أزواج من البهائم، وبيوت التملية الذين لا يملك الواحد منهم إلا فأسه. ونساء العزبة جميعا يمررن أمام عينيه: التي يعرفها تماما والتي لا يكاد يعرفها، التي لها ضحكة وابتسامة والتي لها قمطة حمراء أو جلابية فاقعة الألوان، البنت والعانس والعازبة والمطلقة والمشكوك في أمرها التي استجابت لهزاره مرة والتي خجلت ولم تستجب. ولم تتوقف أنظار فكري أفندي عند بيت من البيوت ولا عند واحدة بعينها من النساء، فلا أحد في العزبة يستخبى، النساء كلهن يخرجن حتى من غير أن يرتدين «الملس» الأسود فوق ثيابهن الملونة، وكلهن معروفات، لم يلاحظ أحد على واحدة غير متزوجة حملا أو انتفاخ بطن، لا يمكن أن تكون إحداهن هي أم ذلك اللقيط، مستحيل.
وأفاق المأمور من تأمله الطويل للعزبة ومن فيها ودار بعينيه على وجوه الرجال القليلين الملتفين حوله، وكان يتوقف هنيهة عند كل وجه ويحملق، وعند كل توقف كان يصفر وجه؛ إذ يكاد صاحبه يشك في براءة نفسه ويكاد يصعقه أن تطول تحديقة المأمور فيه مرة ثم يشير إليه قائلا: أنت.
صفحه نامشخص