هلل الأولاد لاقتراح زميلهم موافقين، مع علم كل منهم أنه شيء عيب لا تصح الموافقة عليه، وحين تبينوا أنهم جميعا موافقون متحمسون ازدادوا خفة وحماسا لتنفيذ الاقتراح وكأنه لم يعد حراما، وكأن الشيء الحرام إذا وافق عليه الجميع أصبح حلالا زلالا لا شك فيه.
وما أسرع ما أصبحوا يتسابقون ليروا أيهم يستطيع الوصول أولا إلى مكان الترحيلة وكأن معجزة تنتظرهم هناك، أو كأنهم - على الأقل - سيرون تلك المرأة التي سمعوا آباءهم وأمهاتهم ينعتونها بأقبح الألفاظ ويصمونها بأشنع التهم.
ولكن ما إن عبر المتسابقون القنطرة الحجرية التي تفصل العزبة الكبيرة عن مباني الإدارة والسراية والمخازن والجرن والإصطبلات ووصلوا إلى ما خلف الأخيرة، ورأوا في الظلام المقاطف والقفف والزلع مرصوصة متناثرة كشواهد وضعت خصوصا لتدل على مكان الترحيلة. ما إن رأوا هذا حتى كفوا عن الجري ثم راحوا يتسللون الواحد وراء الآخر على أطراف أصابعهم ليصلوا إلى حيث يلعب أولاد الترحيلة، لا بد في وسعاية الجرن، وكانوا خائفين جدا وهم يتسللون عبر مكان الترحيلة وكأنهم مارون على قبيلة من قبائل الجان حطت رحالها ونامت في ذلك المكان. ومع خوفهم الشديد فلم يستطيعوا كتم ضحكاتهم، فقد سمعوا أصوات شخير كثير متصاعد من الترحيلة، شخير غير منتظم تماما كنقيق الضفادع في الخليج الذي يجاورهم وأرض الأرز، والذي أضحكهم أن الضفادع كانت تنقنق فيبدو وكأن الترحيلة ترد عليها بشخيرها، وكلما شخرت الترحيلة ردت عليها الضفادع بالنقيق.
وفعلا كان أولاد الترحيلة يلعبون في وسعاية الجرن بعيدا عن آبائهم الراقدين متعبين، وبعيدا في الوقت نفسه عن المكان الذي يلعب فيه أولاد العزبة. لم يحرم أحد عليهم الاقتراب من أولاد العزبة وهم يلعبون ولكن من مجرد معاملة الفلاحين لهم كانوا يدركون أن هذا - بالتأكيد - شيء محرم، وأن واجبهم أن يبتعدوا عن العزبة وأولادها قدر الطاقة.
وقف أولاد العزبة من بعيد يتفرجون، وكانوا يتوقفون هنيهة وكأنهم يتوقعون معارضة أو زجرا، وحين لا يجدون يتقدمون. الجرن واسع كبير فيه أكوام هائلة من تبن ماكينة الدراس يكاد يصل في ارتفاعه إلى ارتفاع السراية نفسها، وفيه أكوام ضخمة من القمح، وفيه نوارج أتى بها الفلاحون الذين يرفضون أن يدرس قمحهم في ماكينة الدراس، والذين آثروا أن يدرسوه على النوارج ولو أخذ أياما أكثر، فقمح النورج - كما يقولون - مبروك، والماكينة على الأقل تلتهم ثلث المحصول بسرعتها الفائقة المشئومة. وأولاد الترحيلة كانوا قد اختاروا للعبهم بقعة فسيحة غير مشغولة تحيطها أكوام القمح والتبن من كل الجهات. وخلف تلك الأكوام وداخلها احتشد أولاد العزبة يتفرجون، وظلوا وقتا طويلا لا يفهمون شيئا مما يدور أمامهم، وكأنهم يتفرجون على أولاد من جنس آخر أو ملة ثانية؛ فلغتهم غير مفهومة، وألعابهم غريبة، وحتى ضحكهم يبدو مختلفا تماما عن ضحك الآدميين.
ولكنهم - بعد حين - بدءوا يدركون بعض ما يدور أمامهم، فأولاد الترحيلة كانوا، على ما يبدو، يمثلون، وقد وضع شاب منهم شيئا كمشنة الخبز فوق رأسه ليمثل بها دور بائعة جبن، وشاب آخر كان يمثل دور عسكري، وحوار بالأغاني يدور بين العسكري وبائعة الجبن، العسكري يتمحك طالبا نقودا والبائعة تتبغدد وتحاول أن ترشوه بقطعة جبن معددة مزاياها، والشاويش يرفض ويريد نقودا ويزجرها ويوبخها بصنعة لطافة. لغة غريبة وطريقة غريبة في اللعب يتبعها هؤلاء الأولاد، ولولا لفظة «شبنة» التي عرفوا أنها «جبنة» لما كانوا قد فهموا شيئا من كل هذا. الغرابوة إذن لهم ألعابهم هم الآخرون، ألعاب لا يعرفونها هم. لماذا إذن يزدريهم آباؤهم وسكان العزبة كل هذا الازدراء؟ ليتهم يرضون أن يشاركوهم اللعب .
كان هذا مجرد خاطر عن لأولاد العزبة جميعا وكأنما عن لهم في نفس واحد، وكالعادة انتقل الخاطر على الفور من أذهانهم إلى ألسنتهم، ومن ثم إلى أجسادهم وأرجلهم، فتركوا أمكنتهم وتقدموا إلى أولاد الترحيلة. ولم يأخذ الأمر أكثر من كلمة واحدة: تلعبوا معانا؟ نلعب معاكم. وتصاعدت على الفور تهليلة كبيرة من أولاد العزبة والترحيلة معا، تهليلة جاءت بعبد المطلب الخفير من عند الخليج وجعلته يطير وراءهم ويطاردهم حتى أجلاهم عن الجرن. ولكن أولاد العزبة كانوا ماكرين فقد اقترحوا على أولاد الترحيلة أن يذهبوا جميعا ويلعبوا وراء ماكينة الري فهناك مكان متسع بعيد عن عبد المطلب وبعيد عن العزبة وبعيد حتى عن مكان الترحيلة.
وفي اللعب اختلط الأولاد بالأولاد. واكتشف أولاد العزبة أن الأولاد الآخرين ملامحهم مختلفة عن بعضهم البعض وليس لهم شبه واحد كما كانوا يعتقدون قبلا، وملامحهم سمحة وطيبة، بل ويضحكون أيضا ولكل منهم اسم، بل سرعان ما حفظوا بعض أسمائهم. مصباح وبدوي وحسن والولد الأسمر سنجر، ولهم مهرج، ولد رفيع مثل عود الملوخية ولكنه يميت من الضحك.
وفي تلك الليلة عاد الأولاد إلى بيوتهم في العزبة، وهم لا يريدون العودة، فقد سعدوا بلعبهم مع أولاد الغرابوة أيما سعادة وتعلموا منهم ألعابا جديدة. لعبة عشرة وعشرين مثلا، حيث يضع أحدهم طاقيته فوق كومة تراب، ويقيسون عشر خطوات من الكومة وعشرين خطوة من الناحية الأخرى، ويقف متسابقان عشر خطوات من الكومة وعشرين خطوة من الناحية الأخرى، ويقف متسابقان عند كل نقطة، فإذا ما استطاع صاحب العشر الخطوات أن يجري من نقطته إلى الكومة ويختطف الطاقية ويرجع إلى مكانه قبل أن يلحق به زميله الذي يبعد عن الكومة عشرين خطوة، كان هو الغالب ووقع زميله.
عاد الأولاد يتسللون إلى مضاجعهم من سكات، وفي عزمهم الأكيد أن يذهبوا كل ليلة ويلعبوا مع أولاد الغرابوة، وفي عزمهم الأكيد أيضا أن يخفوا هذا عن آبائهم حتى لو فتن عليهم عبد المطلب الخفير. •••
صفحه نامشخص