لم يرتح أحد لما يجري. التوت الشفاه بالامتعاض، وتبدت نظرة الخلاء أبرد وأقسى وأسخر مما كانت.
وبدأ شمس الدين المعركة فتلاقى الخصمان، وتفجرت معجزة في اللحظة الأولى فتسلل نبوت شمس الدين إلى ساق غسان والتصق. وقف غسان ذاهلا، وخيل إلى كثيرين أنه استهان بخصمه فحدث ما حدث. المعركة لم تبدأ فكيف هكذا تنتهي؟ وتمادى غسان في ذهوله، ولم يهتف أحد. ومد شمس الدين يده وهو يقول: نعم الأخ أنت!
فتجاهل غسان يده، وتوثب بين حاجبيه الغضب. وصاح شعلان الأعور مشفقا ومحذرا: غسان امدد يدك!
فهتف غسان: إنها ضربة حظ وقدر. - ولكن شاء الله أن ينتصر.
فهتف غسان بإصرار: النبوت حكم فاصل لمتماثلين في القوة، ولكن شمس الدين عود أخضر ما أيسر أن ينكسر، أم تريدون أن تكونوا لقمة سائغة لكل حارة، ولعبة بيد كل فتوة مقتدر؟!
عند ذاك رمى شمس الدين نبوته، ونضا عنه ملابسه إلا ما للعورة يستر، ووقف بقامته الرشيقة المتألقة بلعاب الشمس ينتظر.
وابتسم غسان ابتسامة ثقة، وفعل مثل صاحبه وهو يقول: سوف أحميك من شر نفسك.
وتقاربا خطوة فخطوة حتى التصقا تماما، ولف كل منهما ذراعه حول الآخر. وشد كل بما فيه من عزم وإصرار وقوة حتى انتفخت منه العضلات ونفرت العروق. انغرزت الأقدام في الرمال، وتعملقت إرادة صلبة تروم اعتصار الخصم وتصفية ماء حياته. وحملقت الأعين في ذهول وتوقعت لدم أن ينفجر. وتتابعت الثواني منصهرة في الأتون الملتهب. وانحبست الأنفاس فلم تسمع نأمة واحدة. حتى تلاقى حاجبا غسان في عبوسة حاقدة. وبدا متحديا للمستحيل والقدر، أو أنه يغالب الغرق، ويدافع المجهول ولو بالجنون. ويطلق الحقد الأعمى على اليأس الزاحف، ويتخاذل رغم الإصرار والكبرياء والغضب، ويتخبط وتترنح ساقاه، ويتهاوى في العجز ويشهق، فلا يرحمه شمس الدين حتى تسقط ذراعاه وتتداعى رجلاه وينهدم.
ويقف شمس الدين لاهثا غارقا في العرق، ويغلب صمت الذهول، حتى يمضي شعلان الأعور إليه بملابسه وهو يقول: نعم الفتى، ونعم الفتوة!
وتنطلق الحناجر هاتفة: اسم الله عليه! اسم الله عليه!
صفحه نامشخص