حقیقت
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
ژانرها
ثم إن المادة كيفما اعتبرت إما قديمة وإما حادثة، وهي ليست قديمة على قولكم، فلا بد لها من محدث، فإما أن تكون حادثة من شيء موجود أو من لا شيء موجود، ولا يصح أن تكون حادثة من شيء موجود؛ لأن هذا الشيء الموجود إما أن يكون نفس المحدث، أو شيئا آخر موجودا أيضا فينتفي الحدوث، ولا بد أن تكون فعلا من أفعال المحدث، وإلا لم يكن هو المحدث، فإما أن تكون نفس الفعل أو نتيجته، والفعل ونتيجته موجودان في الفاعل، والفاعل قديم فينتفي الحدوث كذلك، وإن لم يكن الفعل ونتيجته موجودين في نفس الفاعل، فيقتضي أن يكونا ليس منه وهما منه وهو خلف، وأن يكونا لا شيء وهما شيء، وهو خلف أيضا.
ثم يقتضي أن يكون الفعل واقعا على شيء هو لا شيء، ومنفصلا عن نفس الفعل، والفعل منفصلا عن نفس الفاعل، وإلا كان الشيء والفعل والفاعل واحدا، وكيف يكون الشيء منفصلا مع هذا الارتباط؟ وإن لم يكن منفصلا فكيف يكون الشيء الحادث غير المحدث؟ فالعقل لا يقدر أن يسلم بهذه المتضادات، وإن قلتم: إن وجودا من نفسه لا يعقل، قلنا لكم: إن وجود شيء موجود من لا شيء موجود لا يعقل كذلك، فضلا عن أن هذا القول - إن صح - يطلق عليكم كما يطلق علينا، فنحن يتعذر علينا معرفة أصل المادة كما يتعذر علينا معرفة ملاشاتها.
قيل: إن ديوجانس رأى غلاما معه سراج، فقال له: أتعلم من أين تجيء هذه النار؟ قال له الغلام: إن أخبرتني إلى أين تذهب أخبرتك من أين تجيء. وإن قلتم: إن قدم المادة يلزم منه قدم معلولاتها، وقدم المركبات من جماد ونبات وحيوان، قلنا لكم: إن قولكم لو صح لوجب أن يطلق على الخلق كما يطلق على النشوء، فالخالقية كالناشئية بالاضطرار، وإلا فتكون القوة الخالقة قد وجدت ساكنة قبل الخلق، والسكون كالعدم لا يعقل، وهو لا يليق بالمادة المنفعلة، فكيف يليق بالقوة الفاعلة؟
على أن الاضطرار للخالقية أو سواها لا يلزم منه استكمال الوجود دفعة واحدة؛ لارتباط العلل والمعلولات بعضها ببعض، وتحولها بعضها إلى بعض، فالحياة يستحيل أن تظهر قبل أن يكون ماء، والماء قبل تكون هيدروجين وأكسجين، وهما قبل اجتماع أجزاء المادة على كون يتألف منه ذلك، فوجود الحياة متوقف على وجود الماء ولو لحظة قبلها؛ ففي قياس أي عقل يصح وجودهما ووجود سائر المركبات معا، وهل تكون السفسطة إلا كذلك؟ وإن قلتم: ولا يرد علينا بقدم المبدع وأنه علة العلل؛ لأنه عندنا فاعل مختار يفعل ما شاء متى شاء، قلنا لكم: فبقى أن القضية ليست من باب العلم، بل من باب الإيمان، ولو وقفتم عند هذا الحد لاسترحتم أنتم وأرحتمونا من كل هذا النزاع، وكيف يعقل وجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة في صورة معقولة، ولا له قسمة في الكم ولا في الكيف ولا في المبادئ، فعله منه وليس منه، متصل به ومنفصل عنه، فلا شك أن ذلك يقتضي إيمانا شديدا، وحيث يبتدئ الإيمان ينتهي العلم، والإنسان حر في إيمانه، إلا أن الإيمان ليس له حق بأن يعترض العلم في سيره، والعلم لا يستطيع شيئا ضده.
وعليه فالفرق بين أصحاب الخلق والقدم في المادة أنها مخلوقة من لا شيء عند الأولين، وقديمة عند الآخرين، ولا فرق بعد ذلك، فالمادة عند الفريقين لا تتلاشى، بل تنتقل من حال إلى حال بالتفاعل والتركيب والتحليل، والقوة عندهما كالمادة لا تتلاشى، وإنما تتحول في الأجسام تحول المادة فيها؛ فالقوة المبلورة للأملاح هي نفس القوة الموجودة في البسائط المركبة منها هذه الأملاح محولة، كما أن مادة الأملاح هي نفس مادة البسائط المركبة لها محولة، ولا فرق إلا في الأحياء؛ إذ يجعل الحيويون القوة الحيوية غير القوة الطبيعية محولة، مع أنهم يسلمون بأن مادة الأحياء هي نفس المادة الطبيعية محولة. وهنا نظر؛ فإنهم يجعلون القوة الطبيعية واحدة في أصلها، وهي الحركة ، وربما جعلوا المادة متعددة العناصر، ثم يجعلون المادة واحدة في بناء العوالم من جماد ونبات وحيوان، والقوة متعددة.
الفصل الثامن
فصل الخطاب بين أصحاب الخلق وأصحاب القدم
قال الروحانيون: وعليه فمذهب الماديين شر لا يماثله شر؛ لأنه يلزم عنه أن لا خير ولا شر ولا حلال ولا حرام ولا ولا، وبالجملة يمتنع معه العمران، فرد عليهم الماديون: لقد أخطأتم فيما زعمتم كأنكم تجهلون طبيعة العمران، فالعمران ضروري للبشر، وإلا لم تتم لهم الحياة، وهو من حيث إنه اجتماع طبيعي في الحيوان، وإنما بلغ الغاية القصوى في الإنسان؛ لأنه أعد له طبعا، وأقومه تكوينا، وأبعده فكرا، وأقواه رؤية، والعمران لا يكمل إلا بالتعاون على المعاش، والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه.
وهذا التعاون لا يكمل البتة بما وصفتم، ولا يكمل إلا بالاصطلاح على عادات معلومة تحسن معها المعاملات. وهذا الاصطلاح لا يكمل إلا إذا عرف الإنسان ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات. وهذه المعرفة لا تكتمل إلا بالعلم، والعلم هو العلم الصحيح، وذلك كله لا يكمل إلا بالحكم الوازع، والحكم الوازع إنما هو الشرع المفروض من البشر، والمتغير بحسب روح كل عصر، واحتياجات كل جيل، وإلا لما اقتضى أن يتغير الإنسان عما يفرضه له شرع معلوم، وعوائد معلومة؛ لأنها لا تخلو منه في أي الأحوال كان، ولا أن تحصل العمارة للبشر قبل الأنبياء، ولا لأمم غير تابعة لهم، ولما كان به - كذلك - حاجة لإقامة الوازع منه بعدهم.
قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وأنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيف.
صفحه نامشخص