الحق أن لويزا ابنة اللورد بنتن قد سخت جدا بالثناء على إدورد سميث الشاعر الجديد خلافا لعادتها ولخلقها؛ فإنها يندر أن تندهش لمدهش، أو أن تعجب بمعجب ، أو أن تقرظ أمرا حسنا، وإن فعلت فبشح وتقتير؛ كانت كذلك لسببين: أولا لأنها مكتسبة من أمها طبع الخيلاء والتيه والأنفة، وثانيا لأنها كانت ذات مواهب نادرة؛ ولهذا لم يكن الناس ليستنكروا تيهها؛ لأنها كانت تستحقه.
ولكن ما الذي استنزلها عن عرش افتخارها وازدهائها إلى مجاملة إدورد سميث وتبليغ الثناء عليه وإطراء شاعريته، مع أنها هي شاعرة فكان ينتظر أن تكون حسودا؟ هناك قوة تفوق قوة الشمم والخيلاء، وهناك جزء في الشخصية الإنسانية يسود أحيانا على سائر أجزائها. النفس هي الجزء الرئيسي في الشخصية الإنسانية، وإنما تترأس بقوة الشمم، ولكن يحدث أحيانا أن يتغلب الحب على الشمم، ويغتصب القلب عرش الرئاسة من النفس، ويستوي مكانها في منصة السيادة على الشخصية، ويكون الآمر الناهي.
والظاهر أن روحي لويزا وإدورد تماستا في الجو الأثيري؛ فنشأ من احتكاكهما شرر أيقظ الحب في فؤاديهما وجعل يلهبه، هكذا استقوى قلبها على نفسها وغلب حبها خيلاءها؛ فلم يصعب عليها أن تبالغ في إطراء إدورد وتقريظ شاعريته.
أما إدورد فقد لمست قلبه تلك الشرارة، وأيقظت حبه منذ قرأ «الوردة الصفراء» وأعجب بها؛ وصار يتوق أن يرى ناظمتها. نعم إنه كان صديق روبرت أخيها، ولكن صداقتهما حديثة العهد جدا لم تتمكن إلا في العام الأخير، وقد زادها إدورد تمكنا بعد قراءة «الوردة الصفراء»؛ إذ شعر بزيادة الميل إلى روبرت، وصار يراه مجموعة محاسن تحب، كذا النفس إذا طمعت بأمر عرفت كيف تمهد السبيل للوصول إليه. صداقة روبرت سبيل للتعرف بلويزا، هكذا توقع إدورد وهكذا صار.
ولم يكن إدورد ليتمادى في محادثة روبرت عن أخته لئلا ينبه ظنونه؛ فلم يحدثه عنها سوى مرة بعد قراءة قصيدتها مقرظا إياها، ولا ريب أن روبرت أبلغ إلى أخته ذلك التقريظ في حينه، وكان بلوغه بدء ترفرف الروحين في الفضاء ليتصادفا ويتماسا؛ ولذلك لم يقدر إدورد أن يعرف شيئا عن لويزا لينشئ في مخيلته صورة لها، وجل ما عرفه عنها أنها درست في دائرة البنات في جامعة أكسفورد، وأنها انتهت في العام الفائت . وإنما استنبط ذهنه من معاني قصيدتها صورة تقريبية في مخيلته، فلما رآها وحادثها وجدها تشبه الصورة الخيالية التي صورها في ذهنه بعض الشبه؛ بيد أنها أسمى وأتم، فعاد إلى بيته ملتهب الفؤاد بحبها ولكنه قليل الطمع بها؛ لأنها من الأشراف وهو من العامة، وبين الطبقتين حجاب كثيف يندر أن ينفذ منه، فكان إلى ذلك الحين يقنع بالحب العقيم، ويعلل النفس بلقائها يوم الإثنين القريب في حفلة الأنس التي ستنعقد في قصر كنستن إكراما لنيل أخيها الشهادة. وما كان سروره بشهادته وبإطراء الناس لقصيدته نقطة في بحر سروره بأمل الالتقاء بها.
الفصل الثاني
إرشاد إلى غرام
في شارع ب. في ضواحي لندن منزل فخيم، يضاهي قصور الأشراف أبهة وجلالا، وحوله حديقة غناء تزيده سناء وجمالا، وفي إحدى غرف ذلك المنزل سرير أنيق، قد اضطجع فيه رجل مريض استتم طور الكهولة، واستوفى حكمة الشيوخ، ولكنه لا يزال يستوعب همة الشبان وعزمهم، يدعى المستر جوزف هوكر، وقد جلست لدى سريره ابنته مس أليس هوكر على كرسي هزاز تشتغل شغل الإبرة وتحادث أباها.
أما المستر هوكر فمثر كبير ذو معامل وأملاك، وليس له من الأولاد سوى ابنته أليس المذكورة وهي وريثته الوحيدة، وقد عني بتعليمها وتهذيبها وتدليلها؛ حتى جعلها كالوردة النضيرة تنتظر قاطفها. وقد تطاولت إليها نواظر قاطفيها، فحرسها أبوها عنهم ضنا بها وطمعا بأن يعد لها نصيبا أمجد وأسمى مقاما. وكان في سره مشروع لهذا الأمر يمهد له السبيل منذ عدة أعوام.
أما أليس ففتاة رقيقة الجسم، عادلة معتدلة القوام، عصبية المزاج، لينة الجانب، صبورة طائعة لأوامر أبيها مهما كانت قاسية؛ لأنه عودها هذه الطاعة منذ صغرها، حتى بلغت الحادية والعشرين من العمر، وكانت أمها قد توفيت إلى رحمة ربها وهي حديثة؛ ولهذا كان لأبيها اليد الطولى في تربيتها.
صفحه نامشخص