بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس السورة التي يذكر فيها آل عمران (*) 1 - مسألة وصف الآيات المحكمات بأم الكتاب الجواب عن وصف هن بأم - القياس في جمع أم - الفاتحة أم الكتاب - حكاية القول - جعل ابن مريم وأمه آية.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... - 7) فقال: كيف جمع سبحانه بين قوله: (هن) - وهو ضمير لجمع -
صفحه ۱
وبين قوله: (أم الكتاب) - وهو اسم لواحد -، فجعل الواحد صفة (1) للجمع (2)؟، وهذا فت في عضد البلاغة (3) وثلم في جانب الفصاحة!.
فالجواب: أن المراد بذلك كون هذه الآيات باجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض في إنزالها، أما للكتاب، وليست كل واحدة أما بانفرادها، فلما كان الامر على ما قلنا جاز وصف الجمع بالواحد، إذ كان في تعلق بعضه (4) ببعض وأخذ بعضه برقاب بعض بمنزلة الواحد، ولأنه سبحانه لو قال: هن أمهات الكتاب، لذهب ظن السامع إلى أن كل واحدة من الآيات أم لجميع الكتاب، وليس المراد ذلك، بل المراد ما قدمنا القول فيه من كون الآيات بأجمعها أما للكتاب دون بعضها، لان المراد بكونها أما للكتاب أن بها يعلم ما هو المقصود بالكتاب من بيان معالم الدين، وذلك لا يرجع إلى كل واحدة من الآيات، بل يرجع إلى جميعها، فالأم ههنا بمعنى: الأصل الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، لان المحكم أصل للمتشابه يقدح به فيظهر مكنونه ويستثير دفينه، وعلى ذلك سميت والدة الانسان أما، لأنها أصله الذي منه طلع وعنه تفرع، ولذلك سميت مكة أم القرى، لان
صفحه ۲
القرى مضافة إليها (1)، وهي المتقدمة عليها (2) والمذكورة قبلها (3).
وكان القياس أن يقولوا في جمع أم: أمات، ولكنهم قالوا:
أمهات، لأنه قد جاء في الشعر الفصيح أمهة. فصح الجمع على أمهات، قال قصي بن كلاب:
أمهتي خندف والياس أبي (4) وقال بعضهم: يقال: أمهات في جمع ما يعقل، وأمات في جمع ما لا يعقل.
واما وصفهم فاتحة الكتاب بأنها أم الكتاب، فهو راجع أيضا إلى المعنى الذي ذكرناه، لأنهم إنما وصفوها بذلك من حيث كانت أصلا يبني عليها غيرها من القرآن في صلاة المصلي، وعند تلاوة التالي إذا بدأ بقراءة الكتاب، فقد صارت إذن متقدمة وبواقي السور لاحقة بها وموجفة (5)
صفحه ۳
خلفها، وكذلك الآيات المحكمات هن أصول للمتشابهات ترد إليها وتعطف عليها، فقد بان: أن المعنى واحد والمراد متفق في وصفهم الآيات المحكمات بأنها أم، وفاتحة الكتاب بأنها أم (1) وقال الأخفش (2): (إنما قال تعالى: أم الكتاب، ولم يقل:
أمهات الكتاب، كما قال الرجل: مالي نصير، فيقول القوم: نحن نصيرك، و: مالي أنصار، فيقول الواحد: أنا أنصارك، وهو يشبه دعني من تمرتان على الحكاية، يعني: إذا قال القائل لصاحبه: ما عندي إلا تمرتان، فيجيبه الآخر بحكاية قوله). وأنشد قول الشاعر (3):
تعرضت لي بمكان حل * تعرض المهرة في الطول (4) تعرضا لم تأل عن قتلا لي (5) وأراد: لم تأل عن أن تقول: قتلا لي، فجعله على الحكاية، لأنه كان منصوبا قبل ذلك، كما تقول: نودي بالصلاة الصلاة، حكاية
صفحه ۴
لقول القائل: الصلاة الصلاة. قال: (وقد قيل إنما هو: (تعرضا لم تأل أن قتلالي)، ولكنه جعله عينا لان أن في لغة هذا الشاعر يجعل في موضعها عن (1)، وقد قال الشاعر (2):
قال الوشاة لهند: عن تصارمنا * ولست أنسى هوى هند وتنساني أراد: أن تصارمنا، فأبدل، وإنما قال شاعر (3) البيت الأول: (قتلالي) لأنه نصبه على الامر كما تقول: ضربا لزيد). وقد اعترض على هذا القول باعتراضات تمنع طريقة الاختصار من ذكرها وتمييز صحيحها من عليلها.
صفحه ۵
وقال بعض العلماء: (نظير قوله تعالى: هن أم الكتاب (على التأويل الذي تقدم في توحيد الأم وهي خبر لهن) قول الله سبحانه:
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/23/50" target="_blank" title="المؤمنون: 50">﴿وجعلنا ابن مريم وأمه آية﴾</a> (1)، ولم يقل: آيتين، لان معناه وجعلناهما جميعا آية، ولو أراد: أن كل واحد منهما آية على انفراده، لقال تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما عبرة لهم، وذلك أن مريم عليها السلام ولدت من غير رجل، ونطق ابنها عليه السلام في المهد، وهو صبي لا يجوز من مثله النطق).
قلت انا: وقد قال أبو العباس المبرد في هذا المعنى قولا حسنا، وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكره كثيرا على وجه الاستحسان له، وهو أنه قال: (إنما وحد سبحانه صفتهما فقال: جعلناهما آية - وهما اثنان -، لان المعنى الذي أعجز منهما شئ واحد، وذلك أن مريم عليها السلام ولدت من غير ذكر وولد عيسى عليه السلام من غير أب، فلو كان هناك زوج لكان أباه وزوجها، فلما كان المعنى المعجز منهما شيئا واحدا، حسن أن يقول سبحانه: جعلناهما آية، وهما اثنان). وهذا حسن جدا، وقد مضى من الكلام في هذه المسألة ما فيه مقنع بتوفيق الله تعالى.
صفحه ۶
فصل (الراسخون في العلم وعلمهم بتأويل الكتاب) فأما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) فبين العلماء فيه اختلاف:
فمنهم من جعل الوقف عند اسم الله تعالى، واستأنف قوله سبحانه:
[والراسخون في العلم يقولون آمنا به]، فمن ذهب إلى هذا المذهب منهم يخرج العلماء عن أن يعلموا كنه التأويل وحقيقته، ويطلعوا طلعه (1) ويستنبطوا غوامضه، ويستخرجوا كوامنه، وحطهم بذلك عن رتبة قد استحقوا الايفاء عليها واطلاع شرفها (2)، لان الله سبحانه قد أعطاهم من نهج السبيل وضياء الدليل ما يفتتحون به المبهم ويصدعون المظلم (3)، وكل ذلك بتوفيق الله إياهم ونصب منار الأدلة لهم، فعلمهم بذلك مستمد من علم الله سبحانه، فلا معنى للوقوف بهم دون هذه المنزلة، والاحجام عن إيصالهم إلى أقصى هذه الرتبة.
وأما الذين يجعلون الوقف عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، فيوفون الاستثناء حقه بادخال العلماء فيه، ويجعلون لهم مزية العلم بتأويل القرآن، ومعرفة مداخله ومخارجه، وسلوك
صفحه ۷
محاجه ومناهجه. وهذا القول مروي عن ابن عباس [ره] ومجاهد والربيع (١) فأما المحققون (٢) من العلماء فيقفون في ذلك على منزلة وسطى وطريقة مثلي، فلا يخرجون العلماء ههنا عن أن يعلموا شيئا من تأويل القرآن جملة، ولا يعطونهم منزلة العلم بجميعه، والاستيلاء على قليله وكثيره.
بل يقولون: إن في التأويل ما يعلمه العلماء، وفيه ما لا يعلمه إلا الله تعالى: من نحو تعيين الصغيرة (٣) ووقت الساعة وما بيننا وبينها من المدة ومقادير الجزاء على الاعمال وما أشبه ذلك.
وهذا قول جماعة من متقدمي العلماء: منهم الحسن البصري وغيره واليه ذهب أبو علي الجبائي (٤)، لأنه يجعل المراد بالتأويل في هذه الآية مصائر الأمور وعواقبها، [كقوله] (٥) تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/7/53" target="_blank" title="الأعراف: 53">﴿هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله..﴾</a> (6)، أي: مصيره وعاقبته، لان أصل التأويل من قولهم: آل يؤول، إذا رجع.
صفحه ۸
ومما يؤكد ذلك أن مجاهدا قال في قوله تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا) (1): (إنه سبحانه أراد بالتأويل ههنا: الجزاء على الاعمال)، فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره، لان الجزاء إنما هو الشئ الذي آلوا إليه وحصلوا عليه.
وقد قيل أيضا: (إن المراد وما يعلم تأويله على التفصيل إلا الله تعالى أو لا يعلم تأويله بعينه إلا الله، لان كثيرا من المتشابه يحتمل الوجوه الكثيرة، وكلها غير خارج عن أدلة العقول، فيذكر المتأولون جميعها، ولا [يقع] (2) القطع منهم على مراد الله تعالى بعينه منها، ولا يعلم ذلك إلا الله، لان الذي يلزم المكلف من ذلك أن يعلم في الجملة أنه سبحانه لم يرد ما يخالف أدلة القول، ولأنه ليس من تكليفنا أن نعلم [أن] (3) المراد من ذلك بعينه، وإن كان العلماء يعلمونه على الجملة وعلى الوجه الذي يمكن أن يعلم عليه).
و [في] (4) قول الراسخين في العلم: (آمنا به كل من عند ربنا) دلالة على استسلامهم في ما لم يعلموا من تأويل المتشابه، وما استبد الله بعلمه من قبيل ما ذكرنا: كوقت القيامة وتمييز الصغائر من الكبائر، إلى ما أشبه ذلك، فقد بان أن في تأويل المتشابه ما لا يعلمونه، وإن كان يعلمون كثيرا منه.
صفحه ۹
وقال قاضي القضاة أبو الحسن (1) - بعد ذكره طرفا من الخلاف في هذه الآية -: [وما يقوله من حمل العطف على حقيقته وجعل للعلماء نصيبا من علم التأويل على تفصيله أو جملته، إما أن يكون المراد بذلك عنده وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم ومع علمهم بتأويله (يقولون آمنا به)، أو يكون المراد أنهم يعلمون تأويله في حال قولهم: (آمنا به كل من عند ربنا)، ومن قال بذلك استدل بظاهر العطف، وأنه يقتضي مشاركة الثاني للأول في ما وصف به الأول وأخبر به عنه]. وقال: [إذا أمكن ذلك وأمكن حمل قوله تعالى:
(يقولون آمنا به) على الحال أو على خبر ثان وجب القول بذلك، ولكلا الوجهين مسرح في طريق اللغة. وإنما ينبغي أن ننظر من جهة المعنى، فان ثبت بالدليل صحة أحد المعنيين قضي به، وإلا لم يمتنع أن يرادا جميعا إذا لم يقع بينهما تناف].
قلت أنا: وهذه طريقة لأبي علي (2) فيما ورد من القراءات متغايرا فإنه يقول: (إذا كان يمكن حمل الكلام على القراءتين المختلفتين، فإنهما جميعا مرادتان، إذا صحت القراءة بهما جميعا، نظير ذلك قوله سبحانه (وجدها تغرب في عين حمئة) (3) وقد قرئ حامية).
فيقول: [إنه يجب أن تكون العين على الصفتين معا، فتكون حمئة من
صفحه ۱۰
الحمأة، وحامية من الحمي، فتكون هناك حرارة وحمأة، وإلا كان يجب ألا تجوز إحدى القراءتين، لان من أصله أن كل كلام احتمل حقيقتين - ولم يكن هناك دلالة على أن المراد به إحدى الحقيقتين دون الأخرى - فواجب حمل الكلام عليهما جميعا حتى يكونا مرادين بذلك، ومتى لم يمكن حمل الكلام عليهما جميعا، فلا بد من أن يبين الله تعالى مراده منهما بدلالة، وإلا خرج من أن يكون فيه فائدة].
فأما من قرأ حمئة من الحمأة، فاني قرأت بذلك على شيوخ [القراءة] (1) لابن كثير ونافع وأبي عمرو وحفص، عن عاصم، وأما من قرأ حامية من الحمي، فاني قرأت به لحمزة والكسائي وأبي بكر بن عياش، عن عاصم وعبد الله بن عامر.
وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون تمام الكلام ومقطعه عند قوله تعالى: [وما يعلم تأويله إلا الله]، وأن الواو للاستقبال دون الجمع. قال: (لأنها لو كانت للجمع لقال: ويقولون آمنا به فيستأنف الواو كما استأنف الخبر،. واحتج على هذا [القول من قال بالقول] (2) الأول، بأن قال: (هذا جائز وقد وجد مثله في القرآن: وهو قوله تعالى - في معنى قسم الفئ -: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول... إلى قوله سبحانه، إن الله شديد العقاب) (3) ثم أعقب ذلك بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفئ، فقال: (للفقراء المهاجرين الذين
صفحه ۱۱
أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا...
إلى قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون...)، وهؤلاء لا شك داخلون في مستحقي الفئ كالأولين، والواو ههنا للجمع، ثم قال سبحانه، يقولون (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالايمان...)، ومعناه: قائلين: ربنا اغفر لنا ولإخواننا، فكذلك قوله سبحانه: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) يكون معناه: والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصبت لهم عليه الدلائل، ونحيت لهم إليه المذاهب من المتشابه قائلين آمنا به، ومن الشاهد على ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري - لما سامه عباد بن زياد أن يبيع عبده بردا في دين لزمه، وحديثه في هذه القصة طويل (1) وهو بعد مستفيض -:
وشريت بردا، ليتني * من بعد برد كنت هامه (2) فالريح تبكي شجوها (3) * والبرق يلمع في الغمامة قوله: (وشريت) يريد: وبعت، وهو من الأضداد.
وقوله: (والبرق يلمع...) يريد: والبرق أيضا يبكي شجوه لامعا في الغمامة، أي: في حال لمعانه، ولولا أن المراد هذا لما كان لقوله:
(والبرق يلمع في الغمامة) اتصال بقوله: (فالريح تبكي شجوها)، بل كان
صفحه ۱۲
بعيدا منه قصيا، وغريبا أجنبيا.
وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية، في وجوب رد المتشابه إلى المحكم، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه، ولو كان العلماء لا يعلمون شيئا من تأويل المتشابه بتة، ما كان لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم أمير المؤمنين عليه السلام التفسير، معنى، لان معنى التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودق ولم يعلم بظاهره. وهذه صفة المتشابه، وأما المحكم الذي يعلم بظاهره، فلا حاجة بأحد إلى تعليمه، لان أهل اللسان فيه سواء، ولولا أن الامر على ذ لك لما كان لدعاء النبي صلى الله عليه وآله لابن عباس (ره) بأن يعلمه الله التأويل معنى، لأنا نعلم أنه لم يرد عليه السلام تعليمه الظاهر الواضح، فلم يبق إلى الغامض الباطن.
ومن وجه آخر: أن حقيقة الواو الجمع، فوجب حملها على سنن حقيقتها ومقتضاها، ولا يجوز حملها على الابتداء الا بدلالة، ولا دلالة ههنا توجب صرفها عن الحقيقة، فوجب حملها على الجمع، حتى تقوم الدلالة.
وكان أبو حاتم السجستاني يقول: (إن الوقف على قوله تعالى:
[وما يعلم تأويله الا الله]، لأنه قد حذف من الكلام (أما)، وكأنه تعالى قال: (وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به)، وزعم أنه إنما جاز حذفها لأنه قد جرى ذكرها وهو قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه). قال: (و (أما) لا تكاد تجئ في القرآن مفردة حتى تثني أو تثلث أو تزاد على ذلك كقوله
صفحه ۱۳
سبحانه: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/93/9" target="_blank" title="الضحى: 9">﴿فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر﴾</a> (1) وكقوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين... وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين... وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين... (2) فلما قال سبحانه: (فالذين في قلوبهم زيغ) قدرنا ان (أما) مرادة مع (الراسخين في العلم)، فكأنه تعالى قال: وأما الراسخون في العلم...) وكلام أبي حاتم في ذلك غير سديد ولا مطرد، لأنه قدر في الكلام حذف (أما)، وذكر أنها تقع في القرآن كثيرا مكررة. ولعمري إن الامر كما قال من وقوعها مكررة في القرآن!، وما علمناها جاءت فيه مرادة محذوفة، وكان ينبغي أن يرينا من القرآن موضعا هي فيه مرادة وقد حذفت ليكون شاهدا على ما ذكره، فأما أن يستشهد بتكريرها على حذفها فذلك غير مستقيم، ولو كان الامر على ما قال لكان وجه الكلام أن يقول تعالى: (والراسخون في العلم فيقولون آمنا به)، كما قال سبحانه:
(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون...)، فيعلم أن الموضع لاما، وألا لم تكن على ذلك دلالة.
ولا يجوز الوقف على العلم في الوجهين (3) جميعا لان ما بعد العلم يكون حالا في أحد الوجهين وخبرا في الآخر، و (الوقف التام) (4) على (به)، وقد أوردنا في هذه المسألة ما فيه بلاغ ومقنع بتوفيق الله تعالى.
صفحه ۱۴
2 - مسألة (معنى إزاغة القلوب من الله تعالى) الاعتذار عن التكرير - الجواب عن الشبهة - نسبة القول لغير فاعله - تخصيص القلب بالهداية دون سائر الجوارح - رد المتشابه في المقام إلى المحكم - تفسير آية (فلما زاغوا...) - إضافة الفعل إلى الآمر والى السبب - العمى في الآخرة - التفضيل في أفعال العيوب والألوان ومن سأل عن قوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - 8) فقال: لو لم تكن إزاغة القلوب من الله سبحانه لما كان للدعاء بألا يفعلها تعالى معنى ولا فائدة، وإزاغة القلوب من قبيل الاضلال والاغراء، وهذا الذي يذهب إليه خصومكم (1)!
فالجواب: أنا قد بينا في عدة مواضع من أوائل كتابنا هذا معنى الاضلال والضلالة والزيغ والإزاغة، وما يجري هذا المجرى مما ورد في التنزيل، وظاهره لا يجوز على الله تعالى، وكررنا القول في أقسام ذلك ووجوهه وجميع ضروبه وفنونه، ونحن ذاكرون ههنا يسيرا منه، لئلا يخلى هذا الموضع من جواب يصدع الشبهة ويجلي الغمة ويكشف الحيرة.
صفحه ۱۵
فلا ينبغي أن ينسب ذلك منا إلى تعاطي التكرير وتكلف الترديد فان العاذر لنا في ذلك أن كتابنا هذا قد بعدت أوائله من أواخره، وانفرج ما بين أعناقه وروادفه، ونزحت مسافات الكلام فيه نزوحا يحتمل التكرير تجديدا للفائدة، ولا تستهجن معه الإعادة مبالغة في الحجة، لا سيما وقد طال بنا الزمان في تأليفه بعوائق عارضتنا بحواجزها، وقواطع زاحمتنا بمناكبها: من تقلب أحوال واشتغال ببواهظ أثقال، وكان انقطاعنا إليه خلسا، واهتمامنا بالزيادة فيه لمعا وفرصا (1)، كنهلة المزءود (2)، أو نشطة المطرود (3) أو كقبسة المستعجل أو حبسة الظاعن المتحمل (4).
إلا أن الاهتمام أجمع (5) على حالي الشغل والفراغ، والانقباض والانبساط، معقود بأسبابه ، والعزيمة واقفة ببابه، نعم! ولا عيب أيضا على جامع مثل هذا الكتاب البعيد الأطراف، المحتاج إلى فضلات من مدد الزمان، أن تقرر فيه مذاهب كانت [مترجحة] (6) وتطمئن آراء كانت قلقة، على حسب تأثير الزمان الأطول في جلاء الشبه،
صفحه ۱۶
وحل عقود الامر المشتبه، واستدراك فوائت الأدلة، واستثارة كوامن الرأي والرواية.
ومن ذلك ما يمر بقارئ صدور كتابنا هذا: من كلامنا الذي يدل على ميلنا إلى القول بالارجاء، ثم ما يمضي به في أوساطه وأثباجه NoteV00P017N01 من الكلام الدال على تحقيق القول بالوعيد قاطعين به وعاقدين عليه، وإنما كان السبب في تباين هذين القولين سالفا وخالفا وسابقا ولاحقا (تفرع) (2) شبه وشكوك ما زال الزمان بمماطلته يزجي حسيرها (3) ويسهل وعورها، حتى أسرع حابسها وانقاد متقاعسها بلطف الله وتوفيقه ومعونته وتسديده.
وقد ذهبنا عن سنن الغرض كثيرا، وتياسرنا عن المحجة بعيدا، فلنعد الآن إلى الغرض المقصود والمرمى المطلوب!، فنقول: إن للعلماء في ما سأل عنه السائل من هذه الآية أقوالا.
1 - فمنها أن يكون قولهم: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) معناه: الدعاء بألا يعلم (4) تعالى قلوبهم زائغة بعد الهدى، أي: أدم لنا ألطافك وأصحبنا هداك وعصمتك، حتى لا تزيغ قلوبنا فتعلمها زائغة، ويكون ذلك على معنى المصادفة كقولهم: أضللت فلانا، إذا وجدته ضالا، و: سألته فأبخلته، إذا وجدته بخيلا، و: جربته فأجبننه،
صفحه ۱۷
إذا وجدته جبانا، وما أشبه ذلك.
٢ - ومنها أن يكون معنى ذلك (ربنا لا تزغ قلوبنا) أي:
لا تبتلنا بأمر صعب، يثقل علينا القيام به والخروج إليك من حقه، فتزيغ له قلوبنا ونميل إلى شهواتنا، ويكون هذا من قبيل قولهم: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/2/286" target="_blank" title="البقرة: 286">﴿ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا..﴾</a> (١)، والإصر: الثقل، وهو راجع إلى هذا المعنى، وذلك كقوله سبحانه:
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/66" target="_blank" title="النساء: 66">﴿ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم﴾</a> (2)، وقوله تبارك اسمه:
(إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) (3)، فكأنهم دعوه سبحانه: بألا يبتليهم بما يكبر عليهم ويثقل على كواهلهم، وأضافوا الزيغ إليه تعالى من حيث كان المتولي لفعل التكاليف التي يفتنون بها ويزيغون عندها، وليست بأسباب لوقوع معاصيهم على الحقيقة، وإن كانت معاصيهم لا تقع إلا بعد ابتلائهم بتلك العبادات، فكأنهم سألوه تعالى: ألا يتعبدهم بما يكون عنده وقوع معصيتهم وزيغهم عن هدى طريقتهم، وألا يحملهم من المشقة، ما لا يأمنون معه ذلك، وأن كانوا لا يؤتون إلا من قبل أنفسهم.
3 - وقال بعضهم: معنى (لا تزغ قلوبنا) أي: احرسنا من وساوس الشيطان حتى لا نزيغ فتزيغ أنت قلوبنا، لان الله تعالى لا يزيغ أحدا حتى يزيغ هو، كما قال سبحانه: (فلما زاغوا أزاغ
صفحه ۱۸
الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (1) 4 - وقال بعضهم: معنى ذلك: ثبتنا بألطافك وزدنا من عصمك (2) وتوفيقك، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا، فنكون زائغين في حكمك، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه، لأنه يجوز أن يقال: إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ، وإن كانوا هم الفاعلين له، على مجاز اللغة، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ وقادهم إلى الاعوجاج والميل، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره وعدوا ما فرض الله من فرائضه، جاز أن يقال: قد أزاغهم، كما قال سبحانه في ذكر السورة: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (3)، وكقول نوح (ع) (فلم يزدهم دعائي إلا فرارا) (4). أو يكون لما منعهم تعالى ألطافه وفوائده جاز أن يقال: إنه أزاغهم، مجازا، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم.
ونظير ذلك من الكلام قولك لمن أطال أظافيره: قد جعلت أضافيرك سلاحا [أي لم تقلمها]، فصارت شكة (5) تحز وشوكة تخز، وهو لم يرد بلوغ أظافيره إلى ذلك الحد، وفي التعارف: إن الرجل إذا ترك سيفه ولم يحادثه (6) بالصقال والارهاف فكل حده وطبع فرنده، قيل له: إنك قد أفسدت سيفك، ولا يراد بذلك: انك قصدت افساده واعتمدت اكلاله، وكيف يتهم بذلك وهو أشد الناس
صفحه ۱۹
كراهية لما حدث فيه من ذلك الفساد، [واعترضه من ذلك الكلال] (١)، ولكنه حسن أن يقال له ذلك في مجرى العادة، لما ترك تعاهده، وأغفل صقله وإحداده.
٥ - وقال بعضهم: إنما سألوا الله تعالى: ألا يزيغ قلوبهم عن الثواب، أو عن زيادات الهدى والألطاف، والأمران معا يرجعان إلى معنى واحد، لان زيادة الهدى واللطف تكون ثوابا، والشاهد على ذلك قوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/47/17" target="_blank" title="محمد: 17">﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾</a> (2)، ومعنى ذلك أنهم سألوه تعالى: أن يلطف لهم بكثرة الخواطر، وقوة الزواجر، في فعل الايمان، حتى يقيموا عليه مدة زمانهم، ولا يتركوه في مستقبل أعمارهم، فيستحقوا بتركه وفعل الكفر - بدلا منه - أن يزيغ تعالى قلوبهم عن الثواب، وأن يفعل بها مستحق العقاب، لأنه لا يجوز أن يسألوا الله سبحانه: ألا يعاقبهم إذا كانوا مؤمنين، إلا على هذا المعنى، فاما الثواب الذي يفعله الله تعالى بقلوب المؤمنين، فهو ما ذكره سبحانه من شرح الصدر وكتابة الايمان في القلب، وضد ذلك هو العقاب الذي يفعله بقلوب الكفار من الضيق والحرج والرين والطبع، وهذه طريقة أبي علي (3).
6 - وقال بعضهم: إنما أمرهم سبحانه أن يقولوا: (ربنا لا تزغ قلوبنا)، تعبدا، فإذا قالوا ذلك بخضوع واستكانة ويقين وإنابة،
صفحه ۲۰